جر .. جر .. جراية – 21 ديسمبر 2017
جر .. جر .. جراية
لا تزال للجراية صور وسياقات ومواقف مختلفة تستحق أن تستعيدها الذاكرة بكل ما اكتنفها من مشاعر طريفة ، أو مهزومة وحزينة .. حسب الظروف . وأحسب أن “النذر” ضرب من ضروب الجراية الوقتية المباشرة ، وقد شاهدت أمي –مرات- تفي بنذر ألزمت نفسها به فتوزع أرغفة الخبر والفول النابت على العابرين ، وذات مرة وقفت توزع النقود على متسولي مقام السيدة زينب ، فتكاثروا حولها حتى مزقوا كم ثوبها ، وأسقطوها على الأرض ، لولا أن أختي كانت معها لحدث لها مكروه يتجاوز ذلك . وإذا كان – عادة – في كل قرية فتى (عبيط) يتفاءل به الناس ،ويعتبرونه من أهل الله ، وقد يمنحونه من نذورهم ، فإن تمي الأمديد لم تتخلف عن ذلك ، بل كان فيها (عبيطة) أيضا ، وهي التي أذكرها جيدا ، ولعلها كانت على صلة قرابة بنا ، إذ كانت تقطن في الحوّار ، وهو موطن العوامر القديم في القرية . كان اسمها (شما) وكانت لحيمة قصيرة ، تظهر لثتها الزرقاء وأسنانها الصفراء ، ولاتني تضرب بقبضتها على رأسها !! وكنت بين الأطفال الذين يتجمعون حولها ليشاهدوا تكوينها الجسدي الغريب عن قرب ، ولكني – بحكم القرابة المظنونة – لم أكن أسمح للعيال بالسخرية منها ، ورأيت أمي غير مرة – تخيط لها ثوبا وسروالا تستر به جسدها غريب التكوين . وأرجح أن هذه العطايا نوع من “الجراية” الوقتية .
وأذكر في زمن مدرسة الجمعية (جمعية المحافظة على القرآن الكريم ، بالسكة القديمة بالمنصورة ) أنه كان يوزع علينا وجبة غداء خفيفة قد تكون كبشة فول ، أو كمية من التمر الجاف ، وحين نشطت (المعونة الغذائية الأجنبية) كان يوزع علينا من الخبز قطع من الجبنة الصفراء الملساء ذات الرائحة النفاذة . أما كيف كانت توزع “جراية” الجمعية فإن مدرس الحصة هو الذي يقوم بالتوزيع علينا ونحن في مقاعدنا (بخلاف أخي عبدالله الذي كان في الابتدائية الأميرية ، وكان إذا جاء موعد الغداء خرج التلاميذ في صفوف إلى المطعم) ، ومن طرائف هذه الطريقة في توزيع الجراية أن حدث ذات مرة أن زادت كمية التمر الجاف عن المألوف ، فقام المعلم بتوزيع سبع بلحات على كل تلميذ ، ثم عاد فوزع ثلاثا ومع ذلك بقي قدر صالح ، فصاح التلاميذ (نفاقا) : الباقي لك يا أستاذ ، ولكن الأستاذ قال لا ، هذا لكم ، فاخرجوا من الفصل إلى الممر وسأقذف بالتمر عليكم ، ومن يلحق بشيء فهو له !! ومع هتاف النفاق السابق فقد سارعنا جميعا للخروج من الفصل انتظاراً لأمطار التمر التي ستهطل علينا ، حتى إذا خرجنا جميعا سارع الأستاذ بإغلاق باب الفصل وبقي في داخله ومعه كل ما تبقى من التمور !!
أما في مرحلة دار العلوم فقد كانت الكليات ، في شهر رمضان خاصة ، تعد وجبات للإفطار ، فكنا نذهب لشئون الطلبة نشتري دفتراً ثمن الوجبة فيه خمسة قروش ، ولكننا ما لبثنا أن اكتشفنا أن كلية تجارة عين شمس ، وكانت على مرمى خطوات من دار العلوم القديمة – تقدم وجبة إفطار رمضان بسبعة قروش ، ولكنها أجود من وجبة دار العلوم ، فضلا عن أنها تضيف قطعتين من القطايف !! اشتهر هذا الأمر فاتجهنا إلى تجارة عين شمس ، واشترينا الدفاتر ، وحظينا بالإفطار المميز بالقطائف . ولكن إدارة الكلية ما لبثت أن تنبهت إلى تزايد الأعداد ، فكان أن أنذرونا (نحن طلبة دار العلوم) بأنه لا يحق لنا تناول الإفطار عندهم حتى لو دفعنا الثمن ، لأن هذا الإفطار مدعم بأموال من ميزانية الكلية المخصصة بطلابها . لم نأخذ الإنذار مأخذ الجد ، ودخلنا بعد ذلك مرة أو مرتين ، ولكن فجأة وقف موظفون على باب الكلية الخارجي ، ومنعوا كل من لا يحمل (كارنيه) عين شمس من الدخول !
أسقط في أيدينا ، انصرفنا مخذولين ، نبحث عن مكان للإفطار بقروشنا الهزيلة بعد أن فقد الدفتر فاعليته ، فلا نجد ، حدث ذلك من نصف قرن ، ومع هذا بقيت في النفس لذلك اليوم مرارة لا تغادرها ، فكم للجرايات من جنايات !!