الكلب … وأنا !! – 11 يناير 2018

الكلب … وأنا !! – 11 يناير 2018

الكلب … وأنا !!
في قرارة نفسي عتاب عميق على ثلاثة كانوا ملوكا وسادة (زمن الغابة) فتحولوا إلى النقيض لأسباب شتى : “الكلب” ، الذي كان ذئباً ، فاستحال إلى تابع ذليل ، واسألوا عنه ابن المرزبان (توفي 309 هـ) صاحب كتاب :” فضل الكلاب على كثير ممن لبسوا الثياب” ، و”الثور” المهاب في الغابة ، ولعبة التسلية الدموية في زمن آخر ، أسألوا عنه الشاعر الأسباني “لوركا” (توفي 1936) في مرثيته للمصارع “إجناسيو” ، الذي لقي حتفه في ساحة المصارعة !! و”الحصان” ، الذي كان زينة السهوب ، فاستحال إلى جر الكارو ، واسألوا عنه شاعرنا الرائع “أمل دنقل”(توفي 1983) في قصيدته (الخيول) ، وقد ضمنها ديوانه الأخير : “أوراق الغرفة رقم 8” !!
أتمهل عند “الكلب” – وقد تعودنا أن نستخدمه للسباب الفجّ ، في حين أنه يحمل في طبائعه أنقى ما ينتظر من توجهات الغرائز – وقد تجافيت كثيرا عن الكلاب بسبب الموروث الديني ، ولكن حدث أن أحضر أولادي الأطفال كلباً (أنثى) من سلالة ألمانية راقية ، وتورطنا في إسكانها (روف المنزل) ، وإذ تسرب الأولاد من العناية بها (تدريجيا) ، أصبحت المسئول (الوحيد) عن إطعامها ، والعناية بها ، فأطلقت عليها اسم “جاكي” ، وما لبثت جاكي أن تعلقت بي جداً ، ومثل كل عاطفة متجاوزة حد الاعتدال ، فإنني أصبحت أتجنبها ما أمكن ، إلى أن تخلص منها أولادي بإهدائها لصديق لهم . مع هذا تنتابني حالات – ليست قليلة- أتذكر فيها جاكي ، وأتألم ألماً حقيقيا بقسوتي عليها ، إذ كنت أصعد إليها بالطعام فتهاجمها أغربة المعادي المنتشرة فوق أشجارها العالية ، فتخيفها وتستولي على طعامها ، وهنا كان تقديري الخاطئ ، فقد رأيت فيها (الوحش) – الذي يفترض أن يدافع عن نفسه – وغفلت عن (الطفولة) التي يستوي فيها الإنسان والحيوان ، في عجزهما عن حماية الذات !
وفي طريق الفيوم الذي أسير فيه مرتين أسبوعيا ، أو أكثر ، رأيت مشهداً يصعب أن يصدق : كانت الشاحنة الضخمة تسير متمهلة في موازاة منازل إحدى القرى ، وإذا بكلب ناضج يتقدم نحو الشاحنة ويضع رأسه – اختياراً – أمام عجلاتها ، فتسحق على الفور !! سبحان الله العظيم ، كم يوجعني أن أتذكر هذا المشهد بعد سنوات وسنوات ، ولا أكف عن تأمله (الباطني) ، وهو في ظني يوازي حالة الاضطراب النفسي التي تنتاب بعض الأشخاص إذا ما نظروا إلى الأرض من ارتفاعات غير مألوفة ، ولست على يقين من هذا التفسير ، ولذلك يظل أمر الموت قدراً مقدوراً ، بصرف النظر عن الميت !!
وحدث في قريتنا إن “الواد محمود” الذي يلبس جلبابا خشنا على اللحم ، لا يغيره ، ولا يجد عملا يمكن أن يؤديه ، غير أن نرسله في إحضار الكرة إذا خرجت من الملعب – حدث أن كان يعمل في أحد الحقول ، ونشبت معركة بالرصاص بين قريتين (ديو – والحصاينة) فأصابته رصاصة طائشة توفي عقبها ، ولم يعرف عنه أحد شيئاً . مر زمن وجاء عساكر إبادة الكلاب السائبة في شوارع القرية ، وكان أداة صيد هذه الكلاب الرصاص، مما لفت أنظار أطفال القرية فتجمعوا للمشاهدة ، وإذ سقط كلب ، وأخذ ينازع أنفاسه في اتجاه انسحاب الحياة ، وقفتْ بين الأطفال امرأة فارعة ترتدي السواد ، وتبكي بكاءً مراً ، فلما سألنا عنها عرفنا أنها أم محمود ، ذلك الذي لفظ أنفاسه في فراغ الحقول ، ولم تره أمه ، لقد استدعت صورة الموت (وإن يكن موت كلب) مشهد ولدها ، الذي لم تره !! ربما سخر البعض منا في نفسه من امرأة تبكي ولدها ، وتستعيد ذكرى مصرعه في مصرع كلب ، وربما رق لها بعضنا متألماً لمعاناة الإنسان ، والحيوان على السواء .
أرجوك .. تمهل قليلا قبل أن تقول عن شخص مات ، كانت بينك وبينه عداوة أو كراهية : مات ميتة الكلاب ! فأنت لم تعرف – ولن تعرف أبدا – كيف تموت الكلاب !!

اترك تعليقاً