جناح فولاذ .. وجناح ريش !! – 1 فبراير 2018

جناح فولاذ .. وجناح ريش !! – 1 فبراير 2018

جناح فولاذ .. وجناح ريش !!
هل يستطيع مخلوقٌ بهذه الشاكلة أن يطير ؟ أي الجناحين يتحكم في الآخر ؟ أم أن العمر سيتبدد في محاولات الوفاق بين سرعات وقدرات غير متفقة ، وغير منفصلة ، ولا يكاد أحدهما يستطيع التخلص من الآخر ، أو فرض سطوته عليه ؟!
هكذا كنت .. وهكذا أحسبني “كائنا” إلى آخر الأنفاس !!
منذ البدء وقد أتممت حفظ القرآن (رسميا على الأقل بحمل شهادة جمعية المحافظة على القرآن الكريم) عدني أبي (شيخاً) وكان شديد الاعتزاز بهذا ، وكم تمنى أن أكون مثل الشيخ محمد فتحي عبد المنعم ، ابن عمدة البيضا ، وكان معلما بإحدى كليات الأزهر ، وصاحب إجابات مفحمة ، فتعلق به إعجاب أبي ، وتمنى لو مارست الخطابة ، وتدربت عليها على منبر المسجد الكبير في تمي !! وبالفعل (تجرأت) وصعدت المنبر ، وخطبت الجمعة ، وصليت بالناس ، وتقبلوني حتى مع وجود عثرات أدائية في الخطبة ذاتها ، واذكر ذات مرة أنني “تورطت” بالإشارة إلى حادثة أحد الصحابة ، مالأ فيها أهل مكة (الكفار) وتسرعت فقلت إن هذا الصحابي اسمه …….. وفتشت عن الاسم في ذاكرتي فلم أجد له أثراً، والطريف أن أبي كان يستند بظهره إلى المنبر ، كأنما كان يحرسني من احتمال أخطائي ، فالتفت إلى الأعلى وقال : حاطب بن أبي بلتعة !! إلى اليوم لا أنسى هذه الحادثة المحرجة ، ولا أحب أن يسخر بعض الممثلين الهزليين من اسم ذلك الصحابي ، لطرافته أو لغموضه ، لأنه يستدعي إلى الذاكرة ذلك اليوم العجيب ..
هذا جناح الريش .. يخفق بنسيم الله ، الذي جمل به الكون ، وحفظ الحياة .
غير أنني تعلقت بالحداثة ، بكافة مظاهرها ، وتساوق هذا مع ظهور كتابات خالد مع خالد ، الذي تابعته منذ كتاباته الأولى ، وأعجبت به جداً ، وكنت أحفظ الكثير من عباراته ، وأذكر أنه – في بعض كتبه – ذكر عبارة أسندها إلى “ماو تسي تونج” ، مؤسس الصين الحديثة ( في نسقها الماركسي) ، وكان من بين ما ذكره من أقوال (ماو) أن رجلا ارتشى بدولارات ، فأفشى سراً من أسرار الوطن ، فلما أُحضر ذلك المرتشي أمام الزعيم (المرعب) سأله : لماذا فعلت ذلك ؟ وأنت تعيش حياة مناسبة في وطنك ؟ قال المرتشي معتذرا : سيدي الزعيم .. إنه الشيطان !! قال ماو : لا أعرف كائنا اسمه الشيطان ، الذي لم يره أحد ، وكذلك أنت بالطبع ، ولكن إذا كنت تقصد بكلمة الشيطان هذه الورقة (ووضع أمام عينيه ورقة فئة المائة دولار) فإنني أصدقك !! فهذا هو الشيطان الذي عملت لحسابه ، ولو تركنا لك الفرصة فإنك سنفسد حياتنا ، ومسيرتنا !!
أعجبني هذا الموقف ، وذاك الجواب من الزعيم الصيني الخطير ، وقد استقر المغزى الذي يريده في وجداني ، وهو في جوهره – يرفض التعلل بما لا يمكن إثباته ، يرفض إسناد الفساد إلى عنصر خفي ، يُتخذ ذريعة للانحراف ، والتملص من المسؤولية . كل هذا طيب ومقبول من مثلي ، في عمر لم يتجاوز الخامسة عشرة ، ولا يزال في السنة الثانية من المعهد الديني الابتدائي ، حتى وإن تجرأ على صعود منبر الجمعة في المسجد . حدث أن ذهبت إلى زيارة أختي هانم ، المتزوجة من أحد أعيان قرية العميّد ، القريبة جدا من تمي ، وكانت الزيارة يوم جمعة ، وأراد زوج أختي ، وابنها الذي يقاربني في العمر أن يتباهوا بي ، فدعوني إلى أن أخطب الجمعة ، وأؤم المصلين . قبلت .. فأهل العميّد – في رأيي – أقل نضوجا من أهل تمي . وعلى المنبر تعرضت لموضوع الأخلاق ، والمسؤولية ، وأنه لا يحق لأحد أن يحتج بالشيطان ، يتخذه ستاراً يحتمي به من مسؤولية الانحراف ، وفي هذا السياق حضرت حكاية (الزعيم ماو) – وهكذا ، من فوق المنبر ، في قرية من قرى الدقهلية ، ارتفع صوتي مجلجلاً مستشهداً بكلمة ماو تسي تونج في الشيطان ، وذكرت اسم الزعيم صراحة !! بالطبع لم يفهم أحد ، حتى ولا زوج أختي ، ولا ابنه الصبي ، وإني لأتذكر هذا الموقف البعيد ، الحاضر في الذاكرة، وأعجب لذلك التزامن بين الشغف بالتراث ، والتعلق بالحداثة ، في ضفيرة واحدة – يحدث أحيانا أن يمتلئ الشراع بنسائم التراث ، فيأخذني إليه ، أستجيب راضيا ، وأحيانا تجتذبني الحداثة بأعاصيرها فلا أجد مفراً من التعامل معها ، وحيثما أكون أبقى متطلعا إلى الجناح الآخر!!

اترك تعليقاً