عطفاً على ما سبق .. 22 فبراير 2018

عطفاً على ما سبق .. 22 فبراير 2018

عطفاً على ما سبق ..
ليس من الإنصاف أن أترك هذه الشخصية الطريفة (فريزة) دون تعريف يليق بها، كما أن ابنها الوحيد (عبد الحميد محمود) يستحق عناية أكثر ، فأثره في طفولتي يتجاوز إرهاب الشيخ حسن ، وإزعاج “مدرسة الجمعية” ، واسترداد كرامتي المهدرة ، التي كان ثمنها عدم إجادة حفظ القرآن الكريم .
لم أعرف أبداً من أين جاء اسم فريزة ، وهل هو تحريف لفريدة ؟ والمهم أنها كانت – على المستوى الريفي- تذكرني فيما بعد بعقيلة راتب –نجمة السينما الشهيرة- بسماحة وجهها ، وابتسامتها الدائمة ، وتوازن قوامها ، ومع أنها زوجة ابن خالي الذي لم أره ، فقد كنت أدعوها (خالتي فريزة) ، وكانت هذه السيدة تتردد على بيتنا ، الذي كان يقتني “ماكينة خياطة” – طوال وجود أخواتي البنات به ، أي قبل زواجهن ، ليتعلمن على هذه الماكينة ما تيسر ، حتى ولو بإصلاح القديم من ثيابهن . ولم أر هذه الماكينة بعد زواج آخر البنات . كانت خالتي فريزة تأتي بقماش قمصانها لتخيطه لها أمي بذريعة القرابة ، وكانت تُبدي الإعجاب دائما بما تصنع أمي ، مهما كان مستواه ، وأذكر وجهها الضاحك وهي تتناول القميص أو ما أشبه بعد إنجازه ، وتضعه في مكانه على جسمها ، وتخاطب نفسها قائلة : “مبروك عليكي يا فريزة” !! فأصبحت هذه العبارة مثلا يذكر في دارنا كلما جرب أحد ثوبا جديداً . أما عبد الحميد (ابن ابن خالي) فقد أهداني ماكينة تصوير بمنفاخ ، وتتحرك على عجلتين ، وأنا في الإلزامي ، وكانت هذه الكاميرا أول شيء أملكه له قيمة في حياتي ، وبالطبع كانت مستعملة ، بل ربما معطلة ، ولكن لا فرق لأنني لم أصور بها ، ولا أعرف كيفية التصوير بها ، فكنت أكتفي بالنظر من العدسة ، وتحريك المنفاخ على قضيبيه ، وأشاهد مربع المنظر محددا بالإطار ، وأدهش للتفاصيل التي يمكن أن تكشف عنها عدسة كاميرا لا تعمل . وكان آخر عهدي بعبد الحميد ابن فريزة أنه تخرج في الصنايع ، وعمل مدرسا ، وتزوج من مدينة طناح – إحدى قريباته من جهة أمه- وسكن المنصورة . ذهبت مرة واحدة لزيارته ، فقابلني يرتدي (روب) أحمر مشجر فوق البيجاما ، فعرفت أنه لم يعد ذلك القريب الذي عرفته في طفولتي ، فخرجت بلا عودة ، وانقطعت عني أخباره .
أما حفظي للقرآن الكريم ، فقد ارتبط بالأجزاء السبعة الأولى ، التي حفظتها على يد الشيخ عبد الرؤوف (مكفوف القرية) . أما الجمعية ، وقد قضيت فيها عامين ، فلم أُجد حفظ شيء ، لدرجة أنني – بتشجيع من أخي عبدالله- حفظت نفسي الربع الأخير من القرآن في عطلة الصيف ، وتقدمت لمعهد الشناوي الديني ، وبذلك وفرت سنة دراسية كاملة ، لم أكن سأزداد فيها حفظاً . ولعلي أرى أن طريقة “الكُتاب” – أو الشيخ عبد الرؤوف – هي الأسلوب الوحيد المناسب لحفظ القرآن . فيما بعد دربت ذاكرتي على الحفظ ، ومن أجل امتحان الشفوي في ليسانس دار العلوم ، حفظت مختارات من الشعر القديم ، ابتداءً من مرثية دُريد بن الصمة لأخيه عبد الله ، ومطلعها :
أرث جديد الحبلِ من أمِ معبدِ بعاقبةٍ ، وأخلفت كل موعد
وحتى قصيدة (أوراس) التي أبدعها : أحمد عبد المعطي حجازي ، إبان الثورة الجزائرية . ولا أزال أحفظ هذه الأشعار إلى اليوم .
مرة وحيدة خانتني ذاكرتي أمام شاشة تلفزيون القاهرة في برنامج عن القصائد المغناة ، فنسبتُ قصيدة العامية “طوف وشوف” إلى صلاح جاهين ، مأخوذا بصورها عن الريف الذي أخره المدنة وأبراج الحمام ، وبعد إذاعة البرنامج ظهر أن هذه الأغنية تأليف عبد الفتاح مصطفى ، الذي لم أكن منذ ثلاثين عاما قد سمعت باسمه . هاجت دنيا العارفين من أهل الموسيقى ، وكان البرنامج على الهواء ، وقد آذاني هذا جدا ، إلى درجة الانقطاع عن الظهور في هذا البرنامج بشكل نهائي . هذه هفوة وحيدة مازلت أتذكرها ، فأتألم جدا ، ولكن ثقتي في ذاكرتي ظلت كما هي .

اترك تعليقاً