.. وما إلى ذلك !! – 1 مارس 2018

.. وما إلى ذلك !! – 1 مارس 2018

.. وما إلى ذلك !!
بقيت مسائل معلقة لم يتسع لها السياق ، ومن الواجب ذكرها . يستدعي هذا المنحى ذكرى قديمة من سنة “الليسانس” ، وكان الأستاذ علي حسب الله يدرس لنا كتابه : “أصول التشريع الإسلامي” . كان الأستاذ حريصا جداً على مظهره ، وعلى لغته ، وعلى حركته . كل هذا تقبلناه ، وأحببناه في الشيخ /الشاب ، وفي آخر محاضرة للأستاذ سأل : هل من ملاحظة على كتابي ؟ وهنا تحركت (الحتة الزايدة) فقلت له : بقي في كتابك من طريقة تأليف المشايخ – مع أنك رجل عصري تماما – أنك في أعقاب كل فصل تختمه بإضافات من مثل : مسألة – قضية – إضافة ، وما إلى ذلك ، ولهذا دلالة : موضوع الفصل لم يكن كاملا متكاملا في ذهنك قبل أن تسجله كتابة . وبذلك تفرض هذه الإضافات نفسها ، إذ كان لا يتسع لها السياق العام !
تغير وجه الشيخ حسب الله – طيب الله ثراه- في اتجاه الرضا ، مع شيء من الإحراج ، ولا اذكر ماذا كان رده ، فلعلي شغلت بتأمل وجهه الأنيق ، وشعره الفضي ، وقامته المتسقة ، يكاد يواجهني واقفا ، وأنا جالس .
تذكرت هذا المشهد القديم جدا ، حين طرحت جانبا من أسباب عدم إتقاني لحفظ القرآن ، سواء في زمن الشيخ عبد الرؤوف ، أو في مدرسة الجمعية ، أو ما قمت بإدعاء تحفيظه لنفسي . أفكر وأتعجب الآن : كيف عبرت تسع سنوات في المعاهد الدينية بهذا الحفظ (الركيك) وحصلت على درجات عالية في الثانوية الأزهرية ، مع تعاقب امتحانات حفظ القرآن الشفاهية ؟ ولعلي لا أكون مجازفا إذا زعمت أن طريقة القفز عبر هذه السنوات مكررة عند غيري ، ولم تكن اختراعا خاصا بي ، وخلاصة هذه الطريقة : أن أسئلة امتحان الشفوي في القرآن ، تنحصر في ذكر بداية سورة قرآنية ، أو حزب ، أو ربع مشهور جداً ، ليكمل الطالب القراءة ، فيقول أحد أعضاء اللجنة : سمع يا بني : (لقد كان في يوسف وإخوته …. ) أكمل ، أو يقول : (طسم * تلك آيات الكتاب المبين  ) أو يقول: (وأوحينا إلى موسى أن ألق بعصاك ) وهكذا ينطلق الطالب بتلاوة ما قد لا يزيد عن خمسة أسطر أو ستة لينتقل إلى السؤال التالي بالإجابة نفسها ، بما يعني : أن الطالب كان يتخطى هذا الحاجز بحفظ أوائل السور والأرباع ، وكأنما يحفظ القرآن مختصراً ، بقصد اجتياز لجنة الشفوي ، الكابوس السنوي في امتحانات الأزهر .
كان لابد أن أفضي بما ذكرت من اعتراف لم أرض عنه ، ولكنه حملني على جناحيه إلى “جنة” دار العلوم ، ونجوت من الأزهر الشريف .
كان عزائي في زمن مدرسة الجمعية : وجود “عم نقاش” وهو عجوز يضع أمامه إناء معدنيا مقسما ، فيه حلوى عسلية ، في قوام عسل النحل ، وفي يده شوكتان مثل إبرة (التريكو) ، وكان عم نقاش حين نتزاحم حوله في الفسحة ، يعطي (اللحسة) على رأس هذه الإبرة المعدنية بمليم ، فكنا نتسابق إلى اغتنام البدء ، حيث ينتشر السمسم ، أو الحمص المفري على وجه هذا السائل العسلي في مقابل ملاليم معدودات . ويستدعي عم نقاش ذكرى أخرى عزيزة جداً ، ففي زمن البحر الصغير ، والكوبري الأخضر الفاصل بين المنصورة وكفر البدماص ، كان يقف بائع حلوى بعربة ذات فاترينة زجاجية ، أشاهده منتصف الليل وأنا عائد من سينما ركس (ميت حدر) ، ونادرا ما أجد مشتريا ، ومع ذلك كان الرجل يظل واقفا بثبات ، تحت طل وصقيع المنصورة ، منتصف الليل ، ينتظر رزقه بغير ملل ، أو فتور . من هذا الرجل –بذكراه القديمة جدا- أستمد إلى اليوم إيماني بالعمل ، وضرورة الدأب ، والصبر على الأداء إلى آخر لحظة ممكنة .
طابت ذكرى ذلك الحلواني ، الذي لم أعرف له اسماً ، وهو إلى اليوم شاخص في وجداني .

اترك تعليقاً