كل الأنهار تجري إلى البحر – 8 مارس 2018

كل الأنهار تجري إلى البحر – 8 مارس 2018

كل الأنهار تجري إلى البحر
أول قراءة لهذه العبارة الحكمية الطريفة كانت تتصدر فصلا من فصول رواية “إبراهيم الكاتب” للأديب الشامل “إبراهيم عبد القادر المازني” . وتكررت الاقتباسات إلى أن عرفت الأصل وهو : “نشيد الإنشاد” أحد كتب العهد القديم (التوراة ، وتوابعها) ، وإذ أفكر في مغزى العبارة يتبدى لي صدقها ، وتعدد تجلياتها ، بحيث أنني قرأت فيها كل ما سطرت من جرار العسل ، فكأنما كنت أجترحها ، واشغل فكري بها لأصل إلى هذا “البحر” الذي يستوعب كل بداياتي ، وأعني “شخصية الأب” – أبي تحديداً !! – ولكن الجانب الخفي في هذه المسيرة أنها تشغلني دون شعور بسطوتها عليّ ، وكأن هذه الأنهار يجري بعضها “تحت الأرض” ، إلى أن تصب في البحر ، شأن الأنهار السطحية .
للآن لا يزال يوم الثلاثاء 3 يناير 1950 ماثلا في خاطري ، وكأنه (يحدث الآن) . في ذاك اليوم البعيد عُقدت آخر انتخابات مصرية في عصر الملكية ، وكما سبق – في بعض الجرار – كانت تمي لا تميل – في غالبيتها- إلى حزب الوفد (حزب الأغلبية المصرية) ، وهكذا نشأت في بيت لا يتورع عن السخرية من النحاس باشا ، ولا يشعر بالإجلال نحو سعد باشا زغلول (زعيم الأمة) ، وأذكر من مآخذ أبي على سعد زغلول أنه لم يكن يغفر له أن هذا الزعيم الذي أجمع عليه الشعب المصري لم يرد على برقية تأييد أرسل إليه بها الزعيم محمد فريد من منفاه في أوروبا !! وكأن هذا الموقف الذي يمكن تفسيره سياسيا – يسقط زعامة سعد في بيتنا دون ملايين البيوت المصرية !! من منظور أخلاقي . وعلى هذا نشأت .
كان الرابح دائما في دائرتنا (دائرة كفر غنام) أحزاب الأقلية (الحزب السعدي أو الأحرار الدستوريين) من أجل هيكل باشا ، وخليل بك توفيق من أصحاب (الأفضال) على أسرتنا . أما هذه الانتخابات الأخيرة فقد فاز بها الوفد عن جدارة ، وكان الجو مشبعاً بالحماسة للوفد ، لدرجة أنني في سني الصغيرة ، وفي فضاء الحقول أسمع نباح كلاب قرية الرُبع القريبة ، وكأن : “هَوْهوْهوْ” هُتاف يردد : يحيا الوفد !! وفي قريتنا تجرأ المياسرة على تآلف الشرايفة والعوامر ، فخرجوا وكأنهم ألوف ، إلى الساحة الفارقة بالشماريخ ، والفئوس ، والكواريك ، فاجتاحوا المكان ، ولم يكن يقف أمامهم أحد ، إلى أن تسلل عبد العليم (شيخ الخفراء) وأطلق رصاصة واحدة من فوق أحد السطوح ، من بندقية غير بندقية الحكومة بالطبع ، فقتل شخصاً من بين تلك الجموع ، فانكشفت الساحة في أقل من دقيقة ، وقضت تمي ليلتها في ظلام دامس ، وخلاء مرعب ، وتدبير لا يعرف أحد أين يصل بها ، وكان أبي حريصا على مواجهة شباب (العيلة) ليهدئهم ، ويصرفهم عن إمكان المواجهة ، ولكن حدث وهو عائد في ظلام الليل ، أن خرج أربعة من الشباب، بالنبابيت ، وانهالوا عليه . دافع بعصاته حتى تكسرت .. وسقط . أمكن إنقاذه بعملية (تربنة) ، وساعده بناؤه القوي على اجتياز المحنة ، إذ عاش بعدها أربعة عشر عاما ، صحيحا معافى ، جليلا ملء العين ، كما أراه الآن .
لا تغيب هذه الذكرى عن وجداني ، وكأن الأب – الذي هو في الحقيقة – بداية الوجود للكائن الحي ، يمثل بالنسبة لهذا الكائن خاتمة التطلع ، وسطوة الشعور بتجربة الحياة . وإني لأعتقد أن كل فتى (وفتاة) يتعلق بأبيه ، وبدرجة ما يعده مثالا يحاول أن يؤسس تجربته الوجودية على علاقته به ، وما غرس في نفسه ، وأن جانبا من هذا الانطباع يتأصل في نفوس الأبناء من خلال ممارسات الآباء . ولهذا أقول لأبنائي : رفقا بأنفسكم فيما أورثتكم من طبائع لم أرحب بها في نفسي ، وإن كنت أمارسها بقوة التدافع ، وضغوط زماني . أما بالنسبة لأبي : فإنني أقول له بكل الحنين : أغدا ألقاك ..

اترك تعليقاً