.. إبراهيم الذي وفّى !! – 15 مارس 2018

.. إبراهيم الذي وفّى !! – 15 مارس 2018

.. إبراهيم الذي وفّى !!
الأول في عنقود مكون من تسع حبات ، كنت الحبة الأخيرة فيه . أما هو فكان البكري ، الذي منح أمه وأباه كُنيتهما . وكان بالنسبة لي أباً ثانيا ، إذ كان الفرق بيننا نحو سبعة عشر عاماً . تجربة إبراهيم الطويلة ، ذات المراحل المتضاربة ، تمنحه صفة “الإنسان الوجودي” عن جدارة ، وعلى الأقل : فقد عاش حياتين متناقضتين تماماً ، بدأ طفولته المبكرة ابناً لرجل من أعيان الريف ، يملك أربعين فداناً ، ضاعت كلها ، إلا قليلا تم تهريبه على اسم أمي ، حتى لا تستهلكه بنوك الرهن اليهودية . وهكذا ذهب إبراهيم إلى المدرسة يركب (حنطور) يوصله إلى المنصورة ، وفي صباه ، وقبل بلوغ العشرين كان مجرد فني كهربائي (لم أعرف كيف) يعمل في قصر رأس التين الملكي (لم أعرف كيف) ، ولكنني أعرف أنه برغم وقوفه عند الشهادة الابتدائية استطاع أن يكون شخصية ذات اعتبار ، حتى وهو كهربائي في قصر الملك ، ومن بعد زرت معه صديقه الدكتور فتحي زيتون ، أستاذ طب الأطفال وعلم الأجنة في جامعة الإسكندرية (لم أعرف كيف) ، ومن بعد احترف مهنة “ناظر زراعة” التي أحيانا تضخم إلى “مأمور زراعة” . وكان إبراهيم حاد الطباع ، ومرحاً جداً ، و(بصباصاً من الدرجة الأولى) !! لا يشق له أي حاجة، وأعده مسئولا عن موجات الاكتئاب ، والإلحاف في الدعاء والرجاء ، التي كانت تجتاح دارنا في تمي حينا بعد حين . فقد استجاب إبراهيم لحدة طباعه غير مرة ، إذ كان يضرب رئيسه ، فيطرد من العمل ، فيبحث عن عمل آخر ، ويعثر عليه ، فيضرب رئيسه الآخر .. فمن جانب ظل إبراهيم يمثل وجعا لأمنا طوال حياتها .. فهي دائما تدعو له في كل صلواتها ، وبين صلواتها ، وتتوقع دائما أنه سيدخل علينا في لحظة يحمل (عزاله) ليبدأ رحلة البحث عن عمل جديد . وهكذا كانت إقامته في تمي بمثابة أجازات إجبارية بين فصل من عمل ، والتحاق بعمل آخر . حين قامت الثورة تحول ناظر الزراعة إلى موظف في الإصلاح الزراعي ، وبذلك كف عن ضرب رؤسائه ، ولم يعد يعاني الطرد من عمله ، فاستقرت حياته حول أبيس ، وأطراف الإسكندرية ، وأقام بها ، وفي ثراها كان مثواه الأخير .
إبراهيم أخي له فضيلة : الحنان الشديد على أهله ، حين كان موظفاً بأبو صوير ، أيام الحرب العالمية ، زارنا وبصحبته شوال تمر ، وشوال آخر فول سوداني ، وما شئت من أطعمة معسكرات الإنجليز ، وهناك حضر إصابة الملك فاروق في الحادثة المشهورة ، وزاره في المستشفى ، ومن بعد يعد إبراهيم مسئولا عن تعرفي على العديد من أقاليم مصر ، فقد أقمت عنده صيفا كاملاً بمدينة ببا (محافظة بني سويف) وكان أمين شونة ببا، وأذكر – وكنت في السابعة – أنني شاهدت أكبر عمارة في ببا يملكها مجلي وحش ، وكنت أنطق اسمها (مجلب وحش) ، وكان الطفل البباوي الذي يصحبني يسألني مبتدئا بصيغة (كِيف)؟ التي لم أفهمها على الإطلاق ، فكنت أجيب “إزاي” وهكذا نقضي الوقت في كِيف وإزاي دون أن يعرف أحدنا ماذا يريد الآخر ، من ببا عبرت إلى شاطئ النيل حيث المقابر ، وزرت الكنائس ، ورأيت نساء في ثياب سوداء مثل أمي ، يناجين صورة القديس ماري جرجس ، ذي الوجه القمري ، وهو يطعن الثعبان (الشيطان) ، ويرفعن إليه النداء : ابني المنامة يا ماري جرجس !! فقلت مثلهن ، وأعجبني جداً هذا القديس في سمته ، وفي شجاعته . وزرت قرية (سِدس) وكان فيها منتهزه واسع جداً تعرفت فيه على زهرة لم أشاهدها من قبل ولا من بعد ، يطلق عليها (حنك السبع) ، وزرت مدينة الفشن ، ليرى عيني طبيب رمد مشهور هناك ، واذكر – إلى اليوم – اللافتة المعلقة على بلكونة العيادة في مواجهة موقف الأتوبيس القادم من ببا ، وعليها اسم الدكتور “توما باسيلي” ، وزرت إبراهيم في تفتيش مطوبس الزراعي ، وهناك رأيت (1947) قناطر إدفينا ، وكانت جديدة تماماً ، ومبهرة ، وبجوارها استراحة للملك فاروق ، وفي إدفينا أكلت أحلى سمك في حياتي : السردين مشويا ، ولا تزال رائحته الشهية تملأ خياشيمي إلى اليوم ، وحين أطاحت بي ظروف الندوات ، والمؤتمرات إلى مدينة طنجة في أقصى المغرب ، وجدتني على الشاطئ أطلب غداء السردين المشوي ، فجاؤوا به ، ولكنه لم يكن أبداً مثل سردين إدفينا ، أو لنقل سردين الطفولة الباكرة ، التي تستقبل كل جديد بدهشة .
رحم الله أخي إبراهيم ، وزمان أخي إبراهيم ..

اترك تعليقاً