أليس لكل شيء نهاية ؟! – 5 ابريل 2018
أليس لكل شيء نهاية ؟!
في آخر مقطع من رواية “زقاق المدق” يعلن الشيخ درويش – مدرس اللغة الإنجليزية ، السابق (المتدروش) – حين يسمع عبارة : لكل شيء نهاية ! يقول : النهاية بالإنجليزية إند : إي . إن . دي – وتنتهي زقاق المدق . وهآنذا قد وصلت نهاية زقاق الحياة !!ولكن تبقى في النفس “مفاتيح خفية” متحكمة ، وحاكمة ، يصعب الإفضاء بها، كما لا يطيق الضمير حجبها عن إعلان حضورها ،ويمكن أن أختزلها في ثلاث دمعات معلقة بالأهداب ،لا تتبخر ولا تسقط..لأنها تعبر عن شجن دائم ، ومكتتم في ذات الوقت .
الدمعة الأولى مبعثها (محمد) – صلى الله عليه وسلم – وهو يلاعب ابنه إبراهيم ـ كان النبي الأب في سن الستين ، وكان الطفل الرائع في السادسة ، بما يعني أنه أصبح أُنس أبيه ، وأحد مصادر بهجة قلبه ، غير أن الطفل في هذه السن ، وفي هذا السياق ، أدركه الموت !! إن الصورة الملحة التي لا تغادر مخيلتي يتجلى في صدارتها شخص نبيل – رجل الستين – وهو يودع أملا عزيزاً ، وجد فيه أنساً ، وشبهاً ، ومحبة . ويشخص الطفل إبراهيم بما في الطفولة من براءة ، وبما في ابن النبي من عطايا مذخورة ، وقد أسبل جفنيه ، فانتقل إلى رحاب خالقه !! كم أحزن على هذا الطفل ، حزنا متجدداً ، يعاودني صحواً ومناماً ، وأراني خاله الذي عانى فقده ، فهو ابن أختي مارية القبطية ، التي لا تفصلني عنها فواصل الزمان أو المكان . فرحمة الله على الطفل الجميل ..
وتعاودني في – الدمعة الثانية – شخصية (الإمام علي) – كرم الله وجهه – وقد ضاق بفوضى الحياة ، حتى جاء من يسأله بتبجح : لماذا اختلف الناس عليك ، ولم يختلفوا على من قبلك ؟ فكان جوابه : من قبلي كانوا أمراء على مثلي ، أما أنا فأمير على مثلك !! وكان في أخريات أيامه يتساءل وهو يشير إلى لحيته وعنقه : أين أشقاها ليخضب هذه من هذه ؟ فيا لأحزان الفارس الجليل ، الذي جعل حياته ، وسيفه ، ولسانه في خدمة عقيدته ، ولم يطلب جزاءً من أحد .. أي أحد !!
أما ابنه (الحسين) الفتى النبيل ، الذي امتزجت فيه دماء النبوة ، ودماء الفروسية الكاملة ، والأمومة الزاهرة ، فله في عنقي دينٌ لا تكفي حياتي كلها ، بكل ما أثمرت – إن كان لها ثمر – أن تجزيه به . إن حضوره المتجدد يصحب أيامي دون توقف أو انقطاع . كان فيما قرأت عن “كربلاء” أن الإمام أغفى قبيل المحنة ، فرأى رؤيا ، فسمع من يهمس له : القوم هجوع ، والمنايا تسري إليهم !! لقد أدرك أنها النهاية .
بعد سنين (ربما في عام 1972) – وقد اشتريت سيارة صغيرة للاستعمال في مصر – فأرسلت عائلتي إلى الوطن بالطائرة ، وبقيت في الكويت منفرداً ، لأعود بالسيارة عن طريق البر . وصلت نقطة الحدود الكويتية في “العبدلي” وختمت جواز السفر، وبعد بضعة كيلو مترات وصلت نقطة الحدود العراقية “صفوان” ، وختمت الجواز ، وركبت سيارتي ، وانطلقت في اتجاه بغداد . كانت الشمس في وجهي ، وحرارة يونيو تجعل من القيادة منفردا ، في سيارة غير مكيفة أشبه بعملية الشواء ، وكنت أوصيت نفسي بالحذر ، ولكن الإجهاد أقوى من الحذر ، ما كدت أنطلق على طريق البصرة عدة كيلو مترات حتى انطبقت جفوني ، ورحت في غفوة ، وأنا أقود السيارة الصغيرة ، وهنا سمعت صوت الحسين يهمس : “القوم هجوع .. والمنايا تسري إليهم” !! تنبهت فجأة ، فأدركت سيارتي وهي تنحرف بي إلى الناحية الأخرى من الطريق المزدوج ، وتكاد تدخل في شاحنة مواجهة ، وأعانني الله ، فملكت جَناني ، وتفاديت الاصطدام ، وهآنذا لا أزال أعيش ما قسم لي من الحياة ، وأستصحب كلمة الإمام النبيل ، ابن الإمام الجليل ، وأرمق الشاطئ الآخر بدهشة ، واستعداد لتلقي المفاجأة بالرضا ، وأتذكر – بين الحين والآخر – ذلك البيت الذي وضعه شاعرنا الحكاء الطيب (طاهر أبو فاشا) على لسان رابعة العدوية ليلة رحيلها عن الدنيا :
آن للغريب أن يرى حماه
يومه القريب شاطئ الحياة