من الغدير إلى القاموس !! – 13 ابريل 2018

من الغدير إلى القاموس !! – 13 ابريل 2018

معزوفة على وتر الحنين
من الغدير إلى القاموس !!
والقاموس : البحر العظيم ، أما الغدير : فهو مخاضة الماء ، المأنوسة ، التي نستمد منها حاجات المعيشة ، كما نستمد منها الشعور بالجمال ، وبالحياة .
“جرة عسل” هي الغدير ، الذي تجسد في مختارات من السيرة الذاتية ، والحياة المجتمعية الخاضعة للتفسير ، والتأويل ، وإعادة التفكير والاكتشاف ، وقد يأذن الغدير بأن تقتطع منه جزءاً أو مساحة ، فنجعل في مكانها شجرة وارفة ، أو ملعبا لأطفال ، أو للكرة ، بكل ما تستدعي حياتنا الحاضرة من حرية القراءة للماضي الشخصي ، ولهذا أتحت لنفسي حرية التصرف في أحداث منتقاة ، وإهمال أحداث أخرى حاضرة في الذاكرة، ولكن ربما أجد في استعادتها نقصاً ، أو ألماً ، أو ملامة ، فرأيت من الخير أن أتركها في مجهول القارئ ، وإن لم تكن في مجهول الكاتب ، بل لعلها أكثر حضوراً (ووجعا) بالنسبة إليه ، غير أنه رأى أن يحتضن وجعه ، لأنه لا يأمن ردود الأفعال تجاه هذه المساحات والأحداث المسكوت عنها .
أما القاموس : فإنه ملك جبار ، متحكم ، لا تملك أن تغير شيئا من طبيعته ، ولا أن تتحكم في أوقات سكونه أو ثورته ، والخلاصة أن “جرة عسل” قدمت – قدر المستطاع- صوراً ومشاهد وأحداثاً من واقع الحياة الشخصية . أما “جرة الربابة” فإنها تخوض في بحر الخلق ، الناس ، الذين وجدوا في طريقي ، أو وقعت في طريقهم ، وكانت لي معهم صلات ، وعلاقات علمية ، أو عملية شخصية . فهذه الجرات على وتر الربابة ، بما تحمل من شجن – هي ذكريات عن شخصيات رحلت عن عالمنا ، ولم نعد نملك حيالها غير الذكرى والحنين .
وهنا فارق كبير بين عرض الحياة الشخصية ، أو مشاهد وأحداث منتقاة منها ، وبين التعرض للأغيار (لأشخاص آخرين) غادروا حياتنا الدنيا ، ولم يعد باستطاعتهم أن يشاركونا هذا الحنين بإبداء رأيهم فيما كان ، وما كان يحتمل أن يكون .
في شرقنا العربي الإسلامي ميراث مجتمعي غريب وعجيب ، يخلط بين النقد والانتقاد ، بين الشهادة بكل ما تستلزم من الدقة ، والرغبة المبيتة في الإساءة والتجريح . وفي هذا الشرق اتفاق عام على أن “الحقيقة” (في ذاتها) ليست هدفاً ، وليست مرغوبا فيها ، بقدر ما أن “تجميل الصورة” هو المطلوب والمقبول . وهذا ميراث قديم ، ربما ورثناه عن شعراء المديح – منذ أقدم قصائد للمديح – فكان الشاعر المداح لا يصف ممدوحه بما فيه ، بل بما ينبغي أن يكون عليه ، غير أنه يعرض له في صورة المتحقق بالفعل ، والمشاهد بالعين ، والمدرك بالعقل ، وهكذا لم يكن الشاعر المداح يذكر الحقائق – وإن بصياغة فنية ، مع قدر من التجميل الأسلوبي ، أو الصوري ، بقدر ما “يخلق” شخصا آخر قد يكون مختلفاً تماماً ، أو يختلف كثيراً ، ويرى أنه بذلك أقرب إلى أن يكون مقبولا ، بل لعله يدعي أن هذا الكذب الفني ينطوي على تصور أرقى ، ومن قديم قال الشاعر (أبو تمام) :
ولولا خلال سنها الشعر ما درى بغاة العلا من أين تؤتى المكارمُ
فهل يحتمل المناخ الثقافي المجتمعي أن تقول الحقيقة عن الآخرين ، دون أن تقع في أحد المحظورين : النفاق ، أو الحسد ؟!

اترك تعليقاً