الوجه والقناع – 17 مايو 2018

الوجه والقناع – 17 مايو 2018

معزوفة على وتر الحنين
الوجه والقناع
هذا المصطلح متداول ليعبر عن المسافة بين “الشخصية” في جوهرها الفطري ، وصورتها التي ترغب في أن تبدو بها ، وفي هذا دلالة (بدرجة ما) على أن الوجه الحقيقي يصعب الوصول إليه إلا بعد الكثير من المعايشة ، والمراقبة ، والملاحظة ، وفي أمثالنا العامة يقولون : تعرف فلان ؟ – أعرفه ، سافرت معه ؟ – لا ، فإذاً أنت لا تعرفه . فكأن صحبة السفر كاشفة عن جوانب يمكن إخفاؤها حال الاستقرار
أذكر أنني حين سافرت للعمل بالكويت (28 سبتمبر 1962) حملنا باص التربية إلى ثانوية الشويخ ، فقابلنا في سكن طلابها ثلاثة أيام ، ثم عرفت أنني لم أحتسب حاضراً إلا إذا ذهبت بنفسي إلى الوزارة ، وعرفت المدرسة التي عينت بها ، وذهبت لاستلام العمل بالفعل !! ولأنني جديد على الوظائف ، وعلى الكويت ، وعلى التسليم والتسلم ، سمعت النصيحة وذهبت ، وفي الوزارة أعطوني سلفة (40 دينارا) حتى يأتي وقت صرف الرواتب . كيف تصرفت في هذا المبلغ الذي بدا لي كبيرا جداً ، لم تتعود يدي الإمساك بمثله ؟ نزلت إلى السوق ، وبدأت رحلة تحسين القناع : اشتريت نضارة بيرسول من محل حسن بشارع الجهراء ، وتيشيرت سماوي مارسيليزيه ، وساعة سايكو (اوتوماتيك) ، وبذلك أصبحت صورة من أي مصري يسافر خارج مصر . زدت على ذلك أن اشتريت “قلم باركر 51” كحلي بغطاء ذهبي ، وبذلك حققت حلما عزيزاً ، ولا يزال هذا القلم في حوزتي إلى اليوم ، ولكن الأحبار هي التي تراجعت وأخلت المسافة للأقلام الجافة !!
واجهت وضعاً مازوماً حين اكتشفت أن الأربعين ديناراً انتهت تقريبا ، بعد يومين (مش مهم .. المهم أنني حققت ما أريد ، أو ما أريد أن أبدو عليه) وهكذا تلفت حولي لأستلف ، وقد حدث ، إذ وجدت رفيقا درعميا معي في نفس الظروف ، غير أنه يحتفظ بالسلفة كاملة ، فبدأت أقترض منه خمسة وراء خمسة حتى أجهزت على سلفته تقريبا ، وكان هو (زميلي الدرعمي) يعيش بأهون طريقة ، وبأقل إنفاق ، وقد نفعه هذا كثيراً ، فما لبث بعد سنوات قلائل حتى تحول إلى صاحب مشروع في الكويت ، ولأنه صعيدي وقف معه الصعايدة من أصهاره وأقاربه ، فأنشأ معهم مركزا للدروس الخصوصية ، ولم يكن هذا ممنوعا في الكويت ، وإن احتاج إلى ترخيص من التربية .
لم يهتم صاحبي بتغيير مظهره على الإطلاق ، مع هذا كان حريصا جداً على أن يكون قميصه مكوياً ، واضح الكواء ، وحذاؤه لامعاً ، يبرق تحت الشمس ، وفيما دون ذلك لا يبدي كثير اهتمام ، وفي اتجاه مراضاة (أصحاب العمل) اندمج مع الإدارة في الجامعة ، وأصبح محرراً لمحاضر جلسات الإدارات مهما كان اتجاهها ، وحظي بكثير من الرضا ، وكان حريصا على تحصيل المصطلحات الحديثة ، ليرددها في حديثه مع رؤسائه مثل : المهارات الفردية والجماعية ، ولم أكن سمعت بهذا المصطلح قبل ذلك على الإطلاق ، وكنت أفكر في المهارات ما هي وكيف تكون ؟!
تحرك الزمن ، غادرت الكويت عام 1987 – وبقي صاحبي حتى داهمه الغزو العراقي للكويت (1990) ، فألهمته مهاراته أن يظل يمارس عمله كما كان مع السيطرة الجديدة ، إلى أن انقشعت غمامة الأزمة ، وهنا صرفته إدارة الجامعة عن العمل ، بل حرمته مكافأة آخر الخدمة (وهي عادة التي نعوّل عليها في التهيئة لاستقبال حياة في مصر) . لم يصمد للمحنة ، بعد عودته إلى الوطن ببضعة اشهر أسلم الروح .

اترك تعليقاً