حدث ذات عيد – 14 يونيو 2018
معزوفة على وتر الحنين
حدث ذات عيد
تتداعى ذكريات العيد ، كما تتداعى الأحداث والمناسبات والوجوه ، وحتى الأصوات والكلمات . ذات عيد تطلعت نفسي إلى الإنفراد ، وهذا طبع أصيل ، وفرحت أن زملائي في السكن سيرحلون إلى المنصورة فأقضي العيد منفرداً بنفسي في القاهرة . سرعان ما جاء يوم العيد ، فلم يدق جرس الباب غير مرة واحدة بيد الزبال ، يطلب زبالة متوهمة بيديه ، ويطلب العيدية (المتوهمة أيضا) بعينيه . وبعد ذلك تمضي ساعات الصباح بطيئة جداً ، فقررت أن أشاهد حي “الباطنية” ، الذي يحرفه فيعدله شعب القاهرة إلى “الباطلية” وهو مجرد شارع ضيق تتفرع منه زقاقات ، اشتهرت بتجارة المخدرات والمجاهرة ببيع الحشيش علانية ، ولعلي قدرت أن مناسبة العيد تمثل ستارا كافيا .
حين بلغت واجهة الأزهر اعتبرتها علامة ، انعطفت بعدها يمينا ، فأصبحت في الباطنية وتأكدت باللافتة المعلقة على مدخل الشارع . كان الهدوء مهيمنا بما لا يشعر بوجود يوم مختلف ، فالشارع خالٍ ، ومحلات قليلة جداً مفتوحة ، وليس من مظهر للعيد !! مضيت في طريقي متصنعاً عدم الاستغراب ، ولكن الحقيقة أنني بدأت أتوجس خيفة من نظر العابرين القلائل جداً إليّ ، وأنا أعرف عن نفسي أنني إذا تخاذلت فسيظهر ذلك بطريقة فاضحة ، سأطلق ساقي للريح ، فكرت في العودة ، ولكن دون إظهار الخوف . استدرت عائداً قبل أن أكمل غاية المكان ، وعندما شاهدت مئذنة الأزهر تشهدت على نفسي ، وعدوت إلى “أبو رجيلة” مكتفياً من الغنيمة بالإياب السريع إلى البيت .
مضى زمن ، ونشر أديب اكتسب بريقا سريعاً في مجال القصة القصيرة ، وبخاصة بعد أن اختارت السينما فيلماً من إحدى قصصه ، هو إسماعيل ولي الدين مؤلف قصة فيلم “حمام الملاطيلي” المشهود له بالعري دون منافس إلى اليوم . نشر مجموعة بعنوان “الباطنية” ، ولعلي لم أهتم بها ، ولكن صديقنا المخرج الإذاعي الأستاذ عبد المجيد شكري أبى إلا أن أناقش هذه المجموعة – مع المؤلف – في برنامجه النقدي (البرنامج الثقافي) وحاولت الاعتذار ، ولكن دون جدوى ، فقرأت المجموعة مبديا اهتماماً أكبر بالقصة التي يحمل الكتاب عنوانها ، ولاحظت أن التفكير (السينمائي) مسيطر على المشاهد ، لدرجة أن الشرطة حين تداهم حي الباطنية ، وتضبط المخدرات ، تكومها في الشارع ، وتشعل فيها النار ، مما يجعل المدمنين يطلون من منافذهم الخبيئة ليتشمموا رائحة الحشيش العطرة !! وفي المناقشة النقدية أبديت وجهة نظري في هذا المشهد ، وبأنه سينمائي ، وليس روائيا أو قصصيا ، لأنه يجافي الممكن ، وحتى المتخيل ، فما كان من إسماعيل ولي الدين إلا أن نهض منفعلاً وقال : هو فيه لسة حد بيناقش بالطريقة دي ؟ وغادر المكان ، دون أن يعتذر حتى للمخرج الذي دعاه !!
كان يحيى حقي – شيخنا وأستاذنا – أشاد طويلا بفن ولي الدين ، وبشر بأنه خليفة نجيب محفوظ المنتظر ، وقد تهكم بعضنا بهذه العبارة ، واتهم شيخنا (حقي) بأن العرق التركي الكامن في داخله استيقظ حين صادف تركيا آخر هو (ولي الدين) . بالطبع غضب عبد المجيد شكري ، وأخبرني بأنه سيكتب لإدارة الإذاعة باستبعاد مؤلفات ولي الدين ، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث ، وقد وضع ختام عجيب لندوة النقد التي لم تكتمل ، فأذيعت ، واستمر ولي الدين يعيش في أجواء الباطنية التي لا لم أعرف أبداً إلى أي مدى أوصلته . وبقيت ذكرى ذاك العيد ، وهذه المجموعة القصصية تعترض التنفس النقي مثل ذرات الغبار .