ما في الجراب يا حاوي ؟! – 5 يوليو 2018

ما في الجراب يا حاوي ؟! – 5 يوليو 2018

معزوفة على وتر الحنين
ما في الجراب يا حاوي ؟!
هذا تعبير شعبي شائع ، يحمل قدراً من التهكم على مزاعم من يتظاهر بإخفاء أو إضمار أمور خطيرة ، في حين أنه “على باب الله” أي ينتمي إلى طائفة “ملح الأرض” البسطاء الذين يمنحون حياتنا مذاقها المميز . هذه المرة الثانية التي يذكر فيها “الجراب” الذي يعني في المرتين انتهاء الرحلة ، وعرض حساباتها التي قد تفضي إلى اللاشيء . وحين استعنت بنفاضة الجراب إنما أردت أولئك الذين تشابكت جوانب من سلوكياتي بهم، فكانت النتيجة في غير صالحي ، وما أحسبني قد أفدت من ذلك ، ولهذا أجد بيت المتنبي يُلح على ذاكرتي ، ويعترضها مؤكداً على عبثية الحياة ، وغياب الجدوى في كل ما نزعم من منجزات ، ضيعنا فيها أعمارنا . أما المتنبي فيقول :
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت مني ، بحلمي الذي أعطت وتجريبي
غير أني لا أسرف على نفسي بهذا المدى من المساءلة والندم ، فما جري قد جرى ، ولا سبيل إلى استعادة اللبن المسكوب . سأروي أخر نفاضة حواها الجراب ، وأقيد نفسي بهذا حتى لا أساعدها على التمادي في تقدير ذاتها ، والتغني بأمجادها ، وكأنها لم تكن حياة مثقلة بأمور قد تصل حد الاستحالة في الإفضاء بها .
عرفته في الكويت مدرساً بالتربية ، يتمتع بدرجة عالية من الصلف ، والاعتزاز (غير المبرر) بالذات ، ومن بين هذا الاعتزاز مجافاتي في المجالس ، غير أنه حين اكتشف أنني على غير ما يظن بدأ يقترب (يتقرب إلى) حتى أصبحنا صديقين ، فلم يجد حرجاً من أن يحكي لي عن جده الذي عشق إحدى جميلات القرية ، وحين تزوجت بغيره أطلق آهة طويلة ، ثم (طق) ومات !! دهشت وأظهرت الإعجاب ، وسألته عن مهنة ذاك الجد ، فقال إنه كان جزاراً (في اللهجة الكويتية يفرقون بين الجزار الذي يذبح البهائم ، والقصاب الذي يتولى بيع اللحم) . لزمت الصمت أمام أول جزار يموت عشقاً !!
تعوّد صاحبنا أن ندعوه إلى بيتي في حفلات أو مناسبات عامة ، ضمن كثيرين ، وكانت له زوجة رقيقة ، ومن رقتها أنها كانت تحمل اسمه ، وبعد مدة انقلب على زوجته وجفاها ، وتركها في الكويت (حيث تعمل) وعاد إلى مصر ، وشغل وظيفة معيد ، وبدأ يعد الدكتوراه . جاءت مناسبة دعونا فيها تلك الزوجة ، فجاءت وحيدة !! شعرت بقدر من الحزن من أجل انفرادها ، فكتبت إليه رسالة أرفقت بها شيك بثمن تذكرة الطيران ، ليحضر من مصر لرؤية زوجته ، وتصفية الموقف معها . ولما كانت نبوات “أتخيل فتكون الأشياء كما أتخيل” كما قرر مولانا (دون كيشوت) فقد اعتقدت أنه قادم لا محالة ، وأنني سأتمكن من إعادة الوئام إلى بيته . لم يحضر !! وبعد زمن جاءتني منه رسالة تقول بأنه استفاد من الشيك في طباعة الدكتوراه !! وأنه يشكرني على ذلك ، ثم انقطعت أخباره ، فلم يدعني لحضور مناقشته ، ولم يهدني نسخة من أطروحته ، إجمالا : انقطع عني تماما . وعرفت أنه تزوج ، وأنجب ، ثم طلق ، فتزوج إحدى تلميذاته في الجامعة .
كانت أخباره تصل إليّ دون أن أسعى إليها ، غير أننا التقينا في أحد مؤتمرات الثقافة الجماهيرية ، فإذا به يقبل عليّ وكأنه لم ينقطع عني يوماً واحداً ، وقال متهللاً : أنت الآن رئيس قسم في الفيوم ، فيمكنك تعيين ابنتي معيدة معك وهي ممتازة ، وعندي عشم أن تقبلها !!
وكان هذا آخر ما يمكنني أن أتخيله !!

اترك تعليقاً