متصالح مع نفسه .. متصالح مع العالم – 26 يوليو 2018

متصالح مع نفسه .. متصالح مع العالم – 26 يوليو 2018

معزوفة على وتر الحنين
متصالح مع نفسه .. متصالح مع العالم
.. أما حين تسلم الأستاذ هارون أول مرتب أو على الأكثر : ثاني مرتب ، فقد ذهب إلى وكيل سيارات شيفروليه ، وحجز أحدث سيارة (لم تصل بعد من أمريكا) من طراز كابريس ، وهو أكبر وأفخر طرز الشيفروليه (وحين رأيتها تذكرت الدبابة ستالين حين تجولت في شوارع القاهرة أعقاب صفقة السلاح التشيكية عام 1955) ، ولأنه لم يكن قد تعلم قيادة السيارات ، فقد بدأ بتلقي دروس في شركة يملكها فلسطيني بمنطقة السالمية ، التي كان يقيم على شاطئ الخليج بها ، وبعد أن ظن أنه أقرب إلى تعلم القيادة ، وكنت في ذلك الوقت أذهب يومياً من بيتي في حولي ، إلى بيته في السالمية ، فأصطحبه بسيارتي إلى الجامعة ليقضي يومه ومحاضراته ، ثم أعيده إلى بيته وفي الأخير أعود إلى بيتي . ويعلم الله أنني فعلت هذا عشرات المرات بنفس راضية ، ومحبة ، بل شعور بالشرف والكبرياء أنني أحمل في سيارتي (العلاّمة عبد السلام هارون) . حدث ذات يوم ، وكان يجلس إلى جواري ، وأنا أتولى قيادة سيارتي بالطبع ( وكانت بيجو طراز العام نفسه)، وكان يجلس خلفنا أستاذ الفلسفة الأشهر الدكتور عبد الهادي أبو ريدة – الذي كان يقيم في نفس البناية التي يقيم بها هارون . ذلك اليوم طلب هارون أن يقود سيارتي !! انتابني الذعر ، فأنا أعرف بالملاحظة أنه لم يتمكن من القيادة بعد ، وأعرف بالطبع أن سيارتي البيجو حديثة لم يمر عليها أكثر من عام ، وما اشتريتها “إلا بعد هياط ومياط وشفاعة من قريش” – حسب عبارة شيخنا المعري في (رسالة الغفران) !! ولكن هل كنت أستطيع أن أقول لعبد السلام هارون (بجلالة قدره) أنت لا تستطيع ، وقد تعرضنا للخطر ؟ لم يحدث بالطبع ، إذ تخليت عن مكاني ، وطلبت من الدكتور أبو ريدة أن يغادر السيارة حرصا على سلامته !! الطريف أنه رفض أن يتزحزح من مكانه وقال بثقة : ليه؟ عبد السلام بيه هيسوق بعلم !! لم أعرف وقتها هل أضحك أم أبكي من هذا الربط بين إجادة قيادة سيارة وعلم النحو ، أو أصول تحقيق المخطوطات !! كان أستاذنا هارون – كما يبدو في صوره – قصيراً ، وبذلك وجد صعوبة في وصول قدمه إلى البنزين ، وكان حذاؤه عريضا ، فحين أخذ في قيادة السيارة كان يدوس البنزين والفرامل معاً ، فتجعل السيارة تتزلزل في مكانها ، ثم تنطلق ، وحدث أنه لم يمض أكثر من مئة متر حتى دخل في مشونات عمارة تحت الإنشاء ، تتقدمها أسياخ حديد !! فما كان مني إلا أن رميت نفسي في الدواسة ، وضغطت على الفرامل بيدي فتوقفت السيارة ، وقد لامس أحد أسياخ الحديد الصدئة اكصدام السيارة المعدني ، وترك فيه علامة ظلت ظاهرة حتى بعتها بعد خمس سنوات من اقتنائها . المهم ربنا سلم ، ولم يعد لمثل هذا الطلب وبخاصة أن سيارته الفارهة وصلت ، وأعدت – على عجل – برعاية وكيل الوزارة ، الصديق المحترم الدكتور يعقوب الغنيم (وزير التربية فيما بعد) ، وركبها أستاذنا ، وقادها بأمان ، ليس أكثر من أسبوع ، ثم اقتحم الرصيف ، وقضم عمود كهرباء ، وتحطم وجه السيارة بإصابات بالغة !! من الناحية المالية : تولت شركة التأمين إصلاح السيارة كاملاً ، وإن تأخرت عملية الإصلاح لأن قطع الغيار لم تكن وصلت بعد من أمريكا ، وقد استحضرت بالطائرة بعد زمن ليس طويلا ، وهكذا عاد إلى ركوب الكابريس الفارهة ، ولكن بقي “الحق العام” – قضية مرورية ، لأنه كسر عمود النور !! وحين أُعلن شيخنا بموعد الجلسة رأيته وقد تحول إلى شخص آخر ، متلعثم ، متضائل إلى درجة الخوف ، حتى وجدت نفسي أشجعه ، وقلت له : هذه المرة سأحمل أنا حقيبتك وأدخل خلفك ، وكأني سكرتيرك الخاص ، فربما أثر هذا إيجابيا في تلقي القاضي لك !! ووافق ، وفعلت ، وحين دخلنا الجلسة أخذنا موقعا في آخر الصفوف ، فلما نودي على اسمه تقدم ، وسرت خلفه ، ولكن القاضي منعني من الاستمرار ، فوقف وحيداً أمام القاضي الذي ما لبث أن نظر في الأوراق ، وكان القاضي سورياً (والسوريون مشهود لهم بثقافتهم العربية الرصينة) فتطلع إلى وجه الأستاذ وقال له بملامح محايدة : أنت يا أستاذ عبد السلام هارون المحقق المعروف ؟ هنا بعث شيخنا من جديد ، فاحمر وجهه ، وكثيرا ما كان يحمر وجهه لأقل انفعال ، وقال : نعم أنا ، وقد أحصى أحد تلاميذي عدد الصفحات التي قمت بتحقيقها فتجاوزت أربعين ألف صفحة ! لم تتغير نظرة القاضي ، وقال بنبرة خافتة : الحكم آخر الجلسة . وفي آخر الجلسة حكم على شيخنا بغرامة عشرين ديناراً تعويضا عن الحق العام ، وعبرت هذه المحنة الطريفة .
وحدث تحت ظروف طارئة أن تخلفت الشاعرة نازك الملائكة في بغداد ، وكانت متعاقدة مع جامعة الكويت وتقوم بتدريس النقد العربي القديم ، في حين كنت أقوم أنا بتدريس النقد الأدبي الحديث ، فلما تأخرت نازك ، رأى مدير الجامعة أن أقوم بتدريس مقرر النقد القديم ، ولم تكن لي به دراية تجعلني قادراً على الوفاء بحقه ، فكان لابد أن أعود إلى أسس التراث العربي النقدي (على الأقل : البيان والتبيين – ومختارات من الأغاني – وطبقات فحول الشعراء – ونقد الشعر لقدامة بن جعفر ) وهكذا سهرت الليالي ، وبتصميم على أن املك ناصية معرفة مناسبة لتدريس هذا المقرر ، فكان أن وجدت نفسي في مواجهة (صحيفة بشر بن المعتمر) التي قنن فيها لأصول التعبير البلاغي ، والمصدر الأساسي لهذه الصحيفة كتاب (البيان والتبيين) الذي حققه شيخنا ، فحين تمعنت في صياغة الصحيفة ، وجدت اختلاطاً أو تداخلا بين ما هو من قول الجاحظ (مؤلف الكتاب) و بشر بن المعتمر (مؤلف الصحيفة) ذلك بسبب تكرار عبارة “قال” فلا تعرف أيهما القائل : هل هو بشر ؟ أم الجاحظ نفسه ؟ وإضافة عبارة “قال” من صنع (الوراق) الذي نقل صيغة الكتاب !! رأيت أن أعود في هذا الالتباس إلى محقق الكتاب (عبد السلام هارون) ، فحين أطلعته على مصدر قلقي أخذ نفساً هادئا من البايب المعطر – كعادته – وراح يقرأ الصفحة ويحاول فك عقدة التعبير ، غير أنه لم يستطع أن يجزم بشيء ! تألمت من أجل إحراجه الذي لم يكن مقصودا على الإطلاق ، غير أنه – ربما – حفظها في نفسه ، فلم يغفر لي أنني أحرجت عملا علميا يتفاخر به دائما ، وزاد الأمر (إحراجا) حين جرى كلام عام في مجلس القسم ، تناول (تحقيق المخطوطات) فتحدثت عن ضرورة إجراء دراسة علمية وافية ، عن المخطوط ، وموقعه ، وسياقه ، وإضافاته ، وسلبياته .. عقب تحقيقه ، لأن التحقيق في ذاته مثل “ضرب الطوب” – أي تحويل الطين إلى حجارة ، فإنها تبقى مجرد حجارة مرصوصة إلى أن يهيأ لها من يقيم منها بناءً ، وهنا عقب شيخنا قائلا : مثلما فعلت أنا في (البيان والتبيين) فقد صدرته بمقدمة مهمة ، قلت – دون أن أكون واعيا تماماً لاحتمالات انحراف الفهم عن المعنى الذي أردت – هذه المقدمة يا أستاذنا ، أنا قرأتها ، وهي غير ما اقصده بإجراء دراسة علمية عن النص المحقق !! ازداد وجهه احمراراً ، ولمعت عيناه تحت نظارته السميكة ، وانتزع البايب من بين شفتيه ، وقال بنبرة هادئة وحزينة : كده ؟ مابقناش عاجبين ؟ أدركت خطئي وتسرعي ، وأنني آلمت أستاذي دون أن أقصد . اعتذرت له بحرارة وصدق ، دون أن أتراجع عن ما وضعت من شروط الدراسة الفنية للنص المحقق !!
كان هذا مشهداً مؤلما لي بحق ، ولأستاذي أيضا ، الذي أعرف حجم شعوره بالمنجز العلمي الرائع ، الذي أداه لأمته العربية ، ولتراثه العربي والإسلامي . هكذا بدأت المسافة تتسع بيني وبينه ، مع أنني وإلى يوم سفره عائدا إلى الوطن لم أحمل له إلا الحب الصادق ، والثقة العالية في كمال أخلاقه ، ونظافة لغته ، وسماحة روحه ، ورقة سلوكه .
أما ذلك الوافد الذي بدأ بتقبيل اليد وحمل الحقيبة ، فأوجد ثغرة بيني وبين أستاذي، فقد داوم على إظهار الخضوع ، حتى اشترك مع أستاذنا في تحقيق كتاب في النحو (الجزء الأول) الذي نشرته جامعة الكويت ، فلما عاد عبد السلام هارون إلى الوطن انفرد صاحبنا بتحقيق بقية أجزاء الكتاب دون أن يحافظ على شريكه القديم ، بل كان حريصا على أن يطلب من إدارة إسكان الجامعة أن ينتقل إلى شقة عبد السلام هارون !! وقد حققت له الإدارة هذه الرغبة .
رحم الله عبد السلام هارون رحمة واسعة ، وأحسن إثابته على كل ما صنع ، وليسامحني الله – وهو الغفور الرحيم – إذا كنت قد تجاوزت – دون حق – حدود الواجب .

اترك تعليقاً