كلا لمعرفة .. تحت إصبعه (1) – 30 يوليو 2018

كلا لمعرفة .. تحت إصبعه (1) – 30 يوليو 2018

معزوفة على وتر الحنين
كل المعرفة .. تحت إصبعه
التقـيت به قـبل أن أراه مرات كـثيرة ، عبر مؤلفاته الرصينة ، متعددة الاهتمامات ، وإن ظل المنهج (التأصيلي) هو نفسه لم يتغير ، تشعر من خلال قراءته أنه “معرفة قديمة” فليس فيه تطاول ، ولا مباهاة ، ولا فخر بالذات ، ولا إشارة إلى سبق ، حتى وإن كان السابق إلى إثارات أصيلة يستحق أن تنسب إليه عن جدارة . عقب كل قراءة لأثر من آثاره كنت أشـعر بمـزيد حاجـتي إلي صحبته ، وضرورة أن أستشيره ، وأستنير برأيه ، وكان نعم الصديق والرفيق والمعين في مواقف الحيرة والضياع .
ثم جاء “شوقي ضيف” أستاذا بقسم اللغة العربية ، بجامعة الكويت ، ورأيت – لأول مرة – الرجل الذي التقيت به عبر آلاف من الصفحات المضيئة بالجـهد العقـلي المثمر، ترسل شعاعها في اتجاهات شتي ، لا تتناقض ، وإنما تتكامل في بؤرة الوعي بالإنسان ، والإيـمان بخيرية النفس البشرية ، وتطلعها إلي الكمال ، تنشده عن طريق المعرفة والعمل ، كانت ” الرؤية ” تعميقا لما انطبع من قديم عبر لقاء الكلمات . ازددت له حبا ، وبه إعجابا ، ولمست من سماحة خلقه ، وجوده بوقته وعلمه علي تلاميذه ، كم هي رحيبة قلوب العلماء ، وكم هي سخية نفوسهم .
نال شوقي ضيف ، منذ عدة أعوام ، جائزة الملك فيصل ، وهي جائزة كبيرة إذا ما قيست إلي ما تعودت مؤسساتنا الثقافية أن تمنحه للعلماء ، ومع هذا فإن ما أعطاه شوقي ضيف لأمته العربية ، ولعقيدته الإسلامية ، يتجاوز بكثير ” حجم ” الجائزة ، ويبقي ” الرمز ” مؤشرا علي عرفان ، قد تأخر كثيرا علي المستوي الرسمي ، وإن لم يتأخر أو يتحول عند خاصة المثقفين ، وعامة القراء علي سواء .
شوقي ضيف بقـية عطر الثـقافة الرصينة ، مقرونة بالخلق الجميل ، وبـقية الثـقافة الموسوعية ، التي جمعت العمق والتنوع ، فلم تعش حبيسة التخصص الضيق ، ولم يستدرجها التوسع إلي التسطح ، فما من قارئ في مجـالات الأدب ، والنقد ، والفـكر ، واللـغة ، والنحو ، والقـرآن ، والبـلاغة ، ومناهج البحث ، والتحقيق العلمي … إلا ولشوقي ضيف في تكوين عقله نصيب ، بشكل مباشر أو غير مباشر . لقد غطي برؤيته الشاملة عصور الأدب العربي جميعا ، من الجاهلية ، حتى العصر الحديث ، واستوعب مناهج التأليف الأدبي : المنهج التاريخي ، والمنهج الفني ، والمنهج المقارن ، والشخصيات … الخ .
عرفت أساتذة أجلاء يحسنون ” التـأليف ” بدءا باختيار الموضوع واستمرارا مع الإحاطة بالجزئيات ، وحسن ترتيبها ، والقدرة علي الإفـادة من المصادر والمراجع ، وبـراعة التـأويل والاستنتاج ، ولكـنهم لا يحسنون التـعبير عن أفكارهم إذا مـا ناقشتهم ، أو استمعت إليـهم محـاضريـن ، وعرفت أساتذة علي عكس ذلك : يملكون القليل من بضاعة العلم ولكنهم حذقوا أسلوب ” تسويق ” هذا القليل ، وعرضه في صورة الجديد المبتكر ، المثير للدهشة ، وهو المألوف المستهلك ، فتنبهر عند سماعهم وتصد عنهم حين تقرأ كتبهم !!
نادرا ما نجد أستاذا يجمع في توازن بارع بين الجانبين ، من هذا الصنف النادر ، كان : ” شوقي ضيف “.
اقرأ كتابه عن شوقي – أمير الشعراء – ( وهو من أوائل ما ألف ) وستجد أن جميع من كتبوا عن شوقي لم يتجاوزوا ما بدأ به وإن توسعوا فيه ، أو تأولوا ، أو أعادوا صياغته . أما سلسلة ” تاريخ الأدب العربي ” فهي أول رؤية شاملة للأدب العربي، وهو جذور خفية في تربة الجزيرة ، إلي أن صار شجرة باسقة مترامية الأغصان والزهور ما بين المشرق والمغرب .
قضي شوقي ضـيف فـي آداب القـاهرة عمره الوظيفي ، معـيدا ، ومـدرسا ، وأستـاذا مساعدا ، وأستاذا ، فما تزعم حزبا ، ولا أثار حربا ، ولا أزري بخصم في خصومة فكرية ، وإنما عاش ينتج ويبدع ، وأتاح الفرصة لمن لا يملكون مقدرته ، أن يعيشوا من الرد علي مؤلفاته ، أو إعـادة صياغتها ، وعاش مشغولا عنهم بإضافة جديد في كل عام .
وعاش شوقي ضيف في آداب الكويت أربع سنوات ، فـما غـادر مكتبه في الكلـية إلا إلـي بيته ، وكان بيته كعبة قصاد لطلاب علمه من مختلف الجنسيات العربية، وخبرته التي لا تعوض ، وكانت الأمة العربية ممثلة في هؤلاء الطلاب ، من جميع أطرافها وأقاليمها ، وكم كان محرجا لنا ، ونحن أبناؤه وتلاميذه ، أن يصر علي القيام بواجب الضيافة بنفسه (إذ كان يعيش وحيداً) ، تجاه رواد بيته الذين لا ينقطعون ؛ فيقدم الشاي بنفسه ، وقد يحث جليسه علي الشرب أكثر من مرة ، كابن بلد أصيل ، ولكن حديثه الشائق لا ينقطع ، والفكرة عنه لا تغيب ، والدراية العميقة بما يتعرض له تطل في كل كلمة ، لا تشغله الحفاوة بجلسائه والترفق بهم عن توجيههم وتقويم أفكارهم .
يتبع …

اترك تعليقاً