ما أروع أن تقول بغير كلام (1) – 6 أغسطس 2018
معزوفة على وتر الحنين
ما أروع أن تقول بغير كلام
[ نشرت هذه الكلمة أعقاب رحيل الصديق الأديب الدكتور نجيب الكيلاني
مارس 1995 – بمجلة “أخبار الأدب” ]
أضع صورته أمامي بملامحه الهادئة، وسمته الريفي الذي يفيض طيبة وعذوبة . خمس سنوات مضت – قبل رحيله – لم يجمعنا لقاء . كانت مناسبات حضوره في القلب كثيرة ؛ مع كل ذكرى عزيزة كان يحضر، أسمع نبرات صوته الهادئ الحكيم حين تعصف من حولي شعارات هي طوفان من الجنون، تظن نفسها طوفان نوح ! ما كل هذا السلام في العينين؟ ومن أين جاءت هذه الوداعة في القسمات المصرية الصلبة، لشخص حكم عليه بعشر سنوات في السجن لضلوعه في أعمال خارجة على الشرعية ضمن “الجهاز السري” لجماعة دينية ؟
أقلب الصورة، أقرأ التوقيع : “نجيب الكيلاني” واضح تمامًا، وضوح أخلاقه وفكره، التاريخ تحت التوقيع: 14/ 9/ 1962
أذكر مناسبة إهداء هذه الصورة، كان قد بقي لي في مصر يومان فقط، أغادر ليل القاهرة، وصداقات الجامعة، وأحلام المستقبل العريضة، لتنكمش بالعمل مدرسًا في الكويت، التي لم أكن أعرف عنها غير اسمها، وأنها بلد فيه بترول، وأن العاملين بها يحضرون معهم في العطلات الصيفية قماش بدل “شاركستين”ونظارات “بيرسول”، ولا بد أن يكون أستيك الساعة ” فيكس فيلكس” !! كان قرار السفر – بالنسبة لي ، عكس المألوف في تلك المرحلة ، مرحلة الانفتاح الخليجي ، وبخاصة الكويتي على مصر ، في مجال التدريس خاصة – حزينًا محبطًا، أقسى شيء يعانيه إنسان الشعور بالظلم في الوطن، وأن تكون أخلصت الحب للصديق، أكثر من استطاعته أن يخلص لك!! ولكي أستبعد غموض هذا المعنى ، وإمكان التباسه ، فقد اعتقدت اعتقاداً جازماً بأنني أديت واجبي طالباً ، وحصلت في دفعتي على أعلى الدرجات ، ومع هذا تلكأت إدارة الكلية في الإعلان عن وظيفة معيد ، بما أشعرني بالظلم ، فلا تستبعد ولا تستغرب أنني حين ركبت الطائرة التي ستحملني إلى الكويت كانت عيناي مملوئتين بالدموع ، وكان الحزن عاطفة معلنة في قسماتي . غير أن هذه قضية أخرى ، لها ارتباط بسياق زمني لا يتصل بعلاقتي مع صاحب الصورة العزيزة : نجيب الكيلاني .
ليلة السفر: أتأمل الإهداء خلف الصورة ، في بساطته يذكرني بالعبارات المحفوظة التي كان يكتبها “أولاد” الإعدادي زمان : اكتب إليك بالقلم الرصاص، علامة المحبة والإخلاص!! يكتب نجيب : ” إلى الأخ العزيز الأستاذ محمد حسن عبد الله، أهدي صورتي تعبيرًا عما يكنه قلبي من حب ووفاء، وإلى اللقاء” . رائحة الفراق تفوح بحدة من “إلى اللقاء “فقد كنت على سفر، لكنها الآن، بعد هذه الأعوام الطوال تكتسب معنى آخر، فقد سافر نجيب هذه المرة، سبقني، وهاأنذا أبادله الحب والوفاء، وأهتف: إلى اللقاء!!
تتداعى الذكريات فلا يطول البحث عن ملابسات اللقاء الأول. كان ذلك مساء الأربعاء 8 أكتوبر 1958، وقد ازدان نادي القصة (68 شارع القصر العيني) وفتحت أبوابه على مصاريعها في انتظار قدوم العميد الدكتور طه حسين. كان كمال الدين حسين (أحد ضباط مجلس قيادة الثورة) وزيرا للمعارف، وكان حفل تسليم الجوائز تحت رعايته، غير أنه تأخر في حلف اليمين الدستورية أمام جمال عبد الناصر وزيرا “مركزيا لمصر وسوريا ” وكان على رأس الحضور محمود تيمور، ومحمد فريد أبو حديد في الصالون تأهبًا لاستقبال القادمين، ويوسف السباعي مثل : ” أم العروس ” فهو أمين عام النادي، أما عبد الحليم عبد الله أبي الروحي فقد كان فخورا بي حقًّا، إذ كنت الفائز الأول ذلك العام، أما نجيب الكيلاني فكانت له جائزة أيضًا.
كانت الصحف قد تحدثت عنه، فيما تحدثت عن الفائزين في مسابقة النادي ، ومن ثم تصدر ذكر نجيب الكيلاني لغرابة حالته ، والمفارقة العجيبة التي تجعل منه سجينا لعداوته للمجتمع ، وفائزاً في التعبير الإنساني الجمالي عن هذا المجتمع !! وهكذا تكرر الحديث عنه ، وعن ملابسات سجنه ، فأخرج تلك الليلة، ليتسلم جائزته ويعود عقبها إلى السجن. رأيته، ومن صوره المنشورة عرفته، تقدمت نحوه، عانقته، قلت بغير تحفظ منجذبا بعاطفتي التلقائية: سجنوك ظلمًا أولاد الكلب!! ابتسم بدهشة، نظر إلى الأرض، قال: خد بالك.. الجماعة بوليس!! كان يقف شبه منحني بين رجلين فارعين ، لم أنتبه إلى حقيقتهما قبل كلمته، التي لم يقلها همسا، عزّ علىّ أن أعدل موقفي أو أعتذر . بثبات مصنوع قلت: أنا عارف!!
بعد ساعتين من الاحتفال تسلمت ميدالية طه حسين الذهبية، وحصلت على مظروف به ستون جنيها نقدا، وانصرفت، وعاد نجيب إلى السجن . (الميدالية سرقت مع ميداليات ذهبية أخرى من مكتبتي المنزلية في عطلة أحد الأعياد منذ سنوات ، ولا تزال مباحث المعادي توالي التحري) .
استمرت الصحف تشير إلى الأديب الذي يعلم أبناءنا الحرية، وهو محروم منها، فقد كانت رواية “الطريق الطويل” قد فازت بمسابقة القراءة ذات الموضوع الواحد ، فقررت على الصف الثاني الثانوي، والرواية عن النضال ضد الاحتلال البريطاني . تمكن كمال الدين حسين (وزير المعارف) من الحصول على عفو “صحي” . فخرج نجيب من السجن بعد أسابيع ليست كثيرة ، وعاد ليكمل دراسته – وكان على مشارف البكالوريوس- في كلية طب القصر العيني ، بعد أربعين شهرًا في طره، والقلعة، وغيرهما.
وهكذا التقينا من جديد، هو طالب في الطب، وأنا طالب في دار العلوم، وتحت لواء العشق القصصي نلتقي: نقرأ ونراجع ما نكتب، ونتبادل الخبرة، ونزور المكتبات في ميدان الأوبرا القديم ، وكنت أحترم فيه تاريخه القديم في تنظيم جماعة الإخوان المسلمين، فلم أناقش معه أبدًا أهمية أو عدم أهمية، أو خطورة هذه التنظيمات، أو ظروف انتمائه إليها ، مع إيماني بخطأ وجريمة الجهاز السري ، ولعل سكوتي عن طرح هذا الموضوع كان بتأثير من حالة عاطفية ونفسية تملؤني تماماً حين أتحدث مع نجيب الكيلاني ، الذي لم يتجاوز – ولو لمرة واحدة – حدود اللياقة والسماحة في التعبير عن أي حدث ، أو أي شخص عرض له ، كما أنه لم يحدثني مطلقاً عن ذكرياته مع هذه الجماعة إلا من منظور ساخر ، يكشف عن الطرائف ، وأحيانا المظالم ، دون أن يناقش معي – ولو مرة واحدة – جوهر المبدأ ، فلعله شعر بأن هذا باب مغلق بالنسبة إليّ . أما إذا ساقتنا ذكرياته إلى أيام السجن ، فإنه كان يتحدث عنها حديث الفنان الساخر، وليس الممرور الحاقد، يصف طوابير الصباح، والإكراه على ترديد طوابير المساجين وراء أم كلثوم : “أجمل أعيادنا المصرية بنجاتك يوم المنشية” ، وعصا الحراس”تداعب” من لا يرفع صوته بالغناء، حتى لو كان الهضيبي نفسه! وكم ضحكنا من القلب وهو يصف طابور الذهاب إلى الحمام “جماعة” ، وما يترتب على هذا من كشف العورات، ومشاعر الحرج وأثقال الشعور بالإثم، وأعيش معه عبر وصفه المرح السعيد، وقد لعب معه “كيوبيد” لعبة خطرة وهو في سجن القلعة!! كان قبل أن يسجن ، قد عقد قرانه على إحدى قريباته، بعد إلحاح من والدته. لكن قلبه اختار اتجاهًا آخر، فكان لا بد من فصم العلاقة، قبل إعلان علاقة جديدة، أما “الكوميديا” فكانت في مرحلة الانتقال. إنه يلح على “صاحبة العقدة” أن تغنم حريتها، فيطلقها بدعوى أنه سجين ( وهو ادعاء حقيقي)، وهي أحق بمستقبلها وبحريتها !! لكنها -على سبيل الوفاء وكما يجب على بنات “الأصول”- ترفض فكرة الطلاق، حتى لو قضى في السجن عمره كله ستنتظره !! وتحت هذا الوفاء الصعب تواظب على زيارته في السجن، تأتي كل أسبوع من طنطا تحمل إليه الطعام والفاكهة والهدايا المسموح بها للمساجين ، أما الأخرى التي اختارها القلب فقد كان بيتها قريبًا من سجن القلعة (كان بيتها في حي السيدة عائشة) “يا لها من مصادفة روائية” فالزيارة عليها أيسر، والإشارات على البعد، قبل عصر الاستشعار، كان لغة معترفًا بها!!
[ يتبع .. ]