ملح الأرض !! – 13 أغسطس 2018
معزوفة على وتر الحنين
ملــــح الأرض !!
أحمل لصوته الجهوري ذكريات الرعب والجزع ، إذ كنت طفلا ، يوقظه صوتٌ مرعب ، ينطلق في ظلام ليل القرية : (حريقة .. حريقة) ويظل يكررها حتى تسرع إليه أرتال الناس ، وتتجمع وتهب لإطفاء الحريق . فكم من مرة صحوت على زعيقه ، ووقفت بباب دارنا بين سيقان أمي وأبي ، أشاهد الحريق في الجرن ، والناس يتجمعون ، ويلقون بأنفسهم على النار ، ومحمد ابن أم سلامة لا يتوقف عن إصدار صوته المزلزل (حريقة .. حريقة) !!
حين كبرت قليلاً ، وجدت لأم سلامة نفسها ذكرى غير طيبة في بيتنا ، فدار أم سلامة ملاصقة لدارنا ، وكان لدارنا بابان : باب على الواجهة البحرية ، مرتفع عن الأرض بعدة سلالم ، وله شراعة وزجاج ، ومطرقة على هيئة قبضة يد ، وباب جانبي ملاصق لدار أم سلامة ، تركنا متراً ونصف متر ليكون لنا الحق في فتحه على هذا الزقاق ، فلما بدأت أم سلامة تبني دارها ، لم تترك شبرا واحداً يفصل بيننا وبينها ، ومع هذا حاولت فتح شباك في هذا الزقاق الخاص ، فتصدى أبي لها ولأولادها ، ونشبت معركة ، ولم يفتح الشباك ، ولكن بقيت ذكرى المعركة تروى حينا بعد حين .
حين أصبحت صبياً ، كانت تلك المعركة القديمة قد أنسيت تقريباً ، وأصبحت أم سلامة تتردد على بيتنا كثيراً جداً ، ربما يومياً ، بدعوى أنها كانت زوجة لواحد من أبناء خالي ، وأنجبت منه ولداً يحمل اسم الضيف عبد الحميد (وكانت شهرته في بيتنا : الضيف أبو قرعة) . وكان لأم سلامة ولدٌ آخر اسمه عبد البصير عبد الهادي ، من زوج آخر ، وكان عبد البصير رقيق البشرة والمظهر ، حتى لتظنه من أبناء البندر ، بعكس أخيه من الأم : الضيف أبو قرعة ، وبعكس أخيهم الثالث ، الذي لم أعرف أبداً عنه غير أن اسمه محمد ابن أم سلامة ، وهو صاحب نذير الحرائق المرعب !!
كانت أم سلامة تتردد على أمي كثيراً ، وكانت أمي تداعبها فتقول لها : إيه الحلاوة دي يا أم سلامة ؟ فيظهر الانبساط على وجهها المتغضن ، الكالح ، وتضيق عيناها ، وقد سال من آماقهما (العماص) ، وتقول بتلقائية : والنبي أنا لسه ما غسلت وشي !! بمعنى أن ما نراه هو جمالها الطبيعي !!
كان لكل ولد من أولاد أم سلامة أبٌ مختلف ، ومصير مختلف ، فالضيف أبو قرعة كان يعمل بتجارة الحبوب في سوق القرية الأسبوعي ، وقد يستعين بالسلف من عمته (أمي) ، إلى أن تمكن من المشاركة في شراء سيارة نقل (شاحنة) من مخلفات الجيش البريطاني، كانت له حصة ضئيلة ، غير أنه كان سعيداً بها ، وقد يتفرغ لمتابعة السيارة ، التي لم تصمد للخدمة ، فكانت لا تتحرك إلا إذا دُفعت إلى منحدر ، ليساعدها على الانطلاق ، وربما أُشعل تحتها كمية من القش لتدفئ الموتور فيدور . ومن ثم زادت مصاريف السيارة على غلتها ، حتى أطلق عليها أهل القرية : المسعورة .
أما عبد البصير عبد الهادي ، فقد استطاع بمساعدة إحدى أخواتي المقيمات بالمنصورة ، أن يتزوج فتاة طيبة ، من أسرة تعمل في المقاولات ، وهكذا جاءت العروس المنصورية للإقامة في تمي ، ولكن بعد حين ضمها إخوتها إليهم ، ومعها أولادها ، ومعهم عبد البصير بالمرة ، الذي ازداد رقة غريبة على أهل القرية ، واختفت أخباره في زحام المدينة ، ولكن ربما تناهت إلينا عبارات عن نجاح أبنائه في التعليم .
بقي محمد ابن أم سلامة ، لاصقا بذاكرتي من خلال صوته المهول القديم ، وربما حملت هذه الذكرى المرعبة معي إلى المنصورة ، وقل ترددي على (البلد) ، غير أنني فوجئت – وقد ذهبت إلى سرادق يتوسط القرية لتلقي العزاء – بمحمد ابن أم سلامة ، يقف أمام الصوان ، ويستقبلني كأحسن (شماشرجي) بانحناءة جميلة ووجه باسم ، ويفاجئني بعبارة لم أكن انتبهت إليها ، أو قرأتها من قبل : قال بيدبا الفيلسوف لدبشليم الملك … ؟ يردد هذه العبارة مبتسماً سعيداً ، في حين تحار ذاكرتي المحدودة في الإمساك بها ، وقد احتجت زمناً ليس بالقصير لأجدها في كتاب (كليلة ودمنة) ، فهما الراوي والمروي له في تلك الحكايات . ولعله يؤسفني الآن أنني لم أستطع مجاوبته في سؤاله الطريف ، حين تغير الزمن ، وأصبح باستطاعتي تقديم الجواب .
أتذكر محمد ابن أم سلامة من خلال صورتيه المأثورتين : حين يوقظ القرية النائمة منبها إلى اشتعال حريق ، لا تعرف لماذا هو أكثر من غيره الأسرع تنبهاً ، وحين يبدي نحوي – أنا التلميذ في المدينة – احتراماً زائداً ، ينحني أمامي ، ويسأل بمرح : ماذا قال بيدبا الفيلسوف لدبشليم الملك ؟