يغير البحر ألوانه – 16 أغسطس 2018
معزوفة على وتر الحنين
– يغير البحر ألوانه !!
هذا عنوان أحد دواوين الشاعرة نازك الملائكة ، وقد أهدته إليّ ، زمن أن كنت زميلا لها في كلية الآداب – جامعة الكويت . هذا حق العنوان ، الذي منحني ما سأعرض له من اختلاف ألوان الشخصية حسب المواقف والسياق ، وحالات الرضا وعدم الرضا ، ولعلي أحاول أن أتحرر من ذكرى موجعة ليقيني بأن جوهر النفس – أية نفس – يظل بمثابة الخبيئة المستكنة في أغوار الأرض/البحر/الضمير ، ويقيني أيضا بأن الخطأ مثل الصواب يصعب أن يتسمر في موقع واحد لا يبارحه . ولأن أستاذي الدكتور عبد القادر القط هو الذي صنع نسج هذه الكلمات ، فكان اللائق ، والصادق ، كما أراه – أن يكون العنوان : يغير القط ألوانه !!
وهذا بعض ما جرى ..
كان ناقدا شاباً واعداً ، حين قرأنا له ونحن طلبة ، فلما ظهر كتاب في : “الأدب المصري المعاصر” عددناه ثورة نقدية تواكب ثورة الجيش في الدعوة إلى تجديد الحياة المصرية ، وبالفعل كان كتابا ينطوي على أفكار شجاعة ، بصفة خاصة ، ما كتبه عن “السلبية في القصة المصرية” وأدى إلى قطيعة بين المؤلف (القط) ، والثلاثة الذين تناول رواياتهم ، كنماذج ضعيفة : يوسف السباعي – محمد عبد الحليم عبدالله – محمد فريد أبو حديد .
رأيته لأول مرة ضيفا على موسم محاضرات دار العلوم (المنيرة) ، وحين أصدر نادي القصة كتاب “مختارات من القصص القصيرة” للأدباء الشبان ، كان لي فيه قصة ، وكان التعليق عليها من الدكتور القط ، وكان رأيه محايداً ، فلما شارك في مناقشة رسالتي للماجستير ، ووافق على منحي درجة ممتاز ، حتى بعد تعليقاته الصادمة أو المستهينة أحياناً ، تعلقت به أكثر ، كمثقف ، وأستاذ تجاوز ذكره جدران المؤسسة (الكلية) ، بل تجاوز حدود مصر ، وأصبح ناقداً عربياً مسموعاً . جدت ظروف لم تأذن لي بأن أسجل موضوع الدكتوراه في دار العلوم ، فتوجهت إلى (آداب عين شمس) ولأنني كنت مغترباً – في الكويت – فقد كتبت رسالة إلى الدكتور القط ، تتضمن مقترحي في موضوع الدكتوراه ، وتشرفي بإشرافه عليها ، وكان الرد – غير البطئ – إيجابياً ، لدرجة أنه كتب الطلب بخطه ، ووقع باسمي ، ودفع رسوم التسجيل من جيبه ، وعددت هذا فضلا لا يُنسى ، ويصعب أن يكافئه مثلي عليه .
مضت سنون ، وأعير القط إلى إحدى الجامعات الليبية ، فكاتبه الأستاذ عبد السلام هارون (أستاذي ورئيسي بآداب الكويت) لتستضيفه جامعة الكويت أسبوعين تحت مسمى : “الأستاذ الزائر” فوافق ، وحدد الموعد بعد أشهر قلائل ، وكان من أهداف الأستاذ عبد السلام مجاملتي ، وكنت قد أنهيت تحرير أطروحتي – أن يحملها الدكتور القط حين عودته إلى ليبيا ، ليتاح أن تناقش بجامعة عين شمس في عطلة الصيف بالقاهرة .
بالفعل حضر القط ، وقوبل بحفاوة كبيرة من إدارة جامعة الكويت ، ومن قسم اللغة العربية ، لدرجة أن مسلسل الولائم في بيوتنا لم يتوقف يوماً طوال الأسبوعين ، وكذلك تجمع حوله (زباين) لم نكن ندري عنهم شيئاً ، وهم عدة أفراد من خريجي عين شمس ، ومن مواطني قطاع غزة ، الذين سجلوا رسائلهم بإشراف الدكتور القط نفسه ، أو بإشراف تلميذه وصديقه الأثير الدكتور إبراهيم عبد الرحمن .كانت مزاحمة الغزاوية لنا مزعجة بدرجة ما ، لأنها كانت تفصله عنا ، مع هذا لم نفكر في احتكار الزيارة ، وتركناه للقاءاته المنفردة مع تلاميذه ، في هذا السياق قام القط بزيارة مجاملة (واجبة) لمدير الجامعة ، وكان (عبد الفتاح إسماعيل) – وكيل وزارة التعليم العالي في مصر سابقا – الذي رحب بالقط ، ولكن حين اقترح عليه أن يترك إعارته إلى ليبيا ويستكملها في الكويت ، كان مدير الجامعة صريحاً وجارحاً لأنه حدثه بحقيقة أن الكويت ، أو جامعة الكويت لا ترحب بأصحاب النزعة اليسارية (أو الشيوعيين) !!
تغير حال القط إلى الضد ، وأصبح ضائقا بالزيارة أو ما بقي منها ، متبرما بالولائم التي تقام له ، بما فيها الوليمة التي أقمتها في بيتي ، واستقدمت على شرفه جميع أعضاء القسم ، وكنت أعددت لابنه إسماعيل – وقد عرفت شغفه بالتصوير من الدكتور إبراهيم عبد الرحمن – جهاز بروجيكتور متطور ، ولكن الدكتور القط رفض قبول الهدية بعبارة لا تخلو من جفوة ، فإذا استهل اليوم الأخير في الزيارة لم أجد في نفسي قدرة على أن أطلب منه أن يحمل مخطوطة رسالتي ، تقديراً لظروف اغترابي واغترابه ، وأنه لا جامع بيننا غير العطلة الصيفية . مع هذا رأى الأستاذ عبد السلام هارون – بكل جلالة قدره – أن يحمل رسالتي ، ويقدمها للقط ، مع رجاء أن يقرأها على راحته في ليبيا لنكون جاهزين في العطلة الصيفية للمناقشة ، نظر القط إلى هارون بشيء من الغضب ، وقال : هل أحضرتموني من ليبيا من أجل رسالة محمد حسن ؟ قبل أن يبحث هارون عن جواب ، كان القط مد يده وأخذ مخطوطة الرسالة ، فما كان مني ومن الأستاذ هارون ، ومن جميع المشاركين في مشهد التوديع أن شكرناه شكراً عميقاً على تجاوز ما أصاب الزيارة من قلق ، بسبب كلمة مدير الجامعة ، وأيضا بسبب التفاف الغزاوية حوله !!
ودعناه على باب المطار ، وعدنا إلى بيوتنا ، وقد حمدت الله على أن رسالتي ستكون جاهزة للمناقشة أثناء العطلة الصيفية . في الصباح التالي جاء عبد السلام هارون لزيارة الدكتور عبد الحميد طلب – أستاذ النحو وجارنا في السكن (رحم الله الجميع) – وأرسل إليّ من يدعوني لمقابلته ، فذهبت على عجل متخوفاً ، وتأكد خوفي بأن راح الأستاذ عبد السلام هارون يسألني عن صحة أولادي وأحوالي ، فعددتها أسئلة في غير مكانها ، وقلت له : هل الدكتور القط رفض الرسالة ؟ أجاب : من الذي أخبرك ؟ ليته تركها في يدي كما أسلمتها إليه . لقد أودعها مع أحد مودعيه من شباب غزة ،واحضرها الفتى إليّ بعد مبارحة الطائرة مطار الكويت بساعة واحدة!!
كانت صدمة العمر ، التي أعجز إلى اليوم عن تكييفها ، وكشف دوافعها الحقيقية، وقد عانيت – بسبب سلوك القط – متاعب جمة ، إلى أن رسى الزورق الحائر عند مرفأ الدكتور مصطفى ناصف ، الذي يناقض زميله في كافة صفاته : الشخصية والعلمية على السواء ، وهذا حديث آخر ..
حين عدت إلى مصر التقيت بالدكتور القط مرات متعددة ، وإن تكن متباعدة ، وحاولت إسقاط الحادث القديم – رغم قسوته – في فضاء النسيان ، ولم يكن غريبا أن نتبادل التبسط والمزاح أحياناً ، لدرجة أنه قال لي ذات مرة : إنه عضو في لجنة مراجعة مسلسلات التليفزيون ، وأنه أصيب بتخمة من ترديد جملة : أنا طبخا لك دقية بامية تاكل صوابعك وراها . يقول هذا ساخراً ، ومتعجبا من مؤلفي المسلسلات ، لماذا لا يبحثون عن عبارة أخرى موازية ، أو مناقضة ، وسيجدون الكثير .
وحين تعددت محاولات البحث عن وظيفة مناسبة لي في مصر ، كان من بين ما عرضه سمير سرحان – رئيس هيئة الكتاب – على الدكتور أحمد هيكل (وزير الثقافة حينها) أن أشغل وظيفة : نائب رئيس تحرير مجلة إبداع ، التي كان يرأسها الدكتور القط ، لكي أتمرن على الموقع ، واشغل المنصب بعد اعتزال القط !!
ترددت .. تذكرت .. اعتذرت عن عدم القبول !!