مُلاعب الأسنة – 30 أغسطس 2018
معزوفة على وتر الحنين
مُــلاعب الأســـنّة
[ صورة قلمية مهداه للأستاذ الدكتور أحمد درويش ]
حين حدثني عنه صديق أديب أطرى ذكاءه العملي وقوة حضوره ، ولم يعرج على ذكائه العلمي ومنهجه الفكري ، فتساءلت في نفسي : إذا كان هذا الدكتور قضى بين جدران السربون عدد سنين ، ويعترف له بهذا التميز الخاص في نوع الذكاء ، فهل تغيرت خطة السربون في التنشئة فخالفت ما أقامت عليه دعائم محمود قاسم في الفلسفة وغنيمي هلال في النقد ، أم أجرى هو جراحته لنفسه وعدّل في مواصفات التخرج في هذا المعهد العريق ؟ بان لي حين التقينا بعد سنوات أن عبارة الواصف لم تحط بجوهر الموصوف ، وأذكر من طرائف ملابسات هذا اللقاء الأول أنني الذي سعيت إليه دون موعد لأطلب نسخة من كتابه عن الأدب في عمان . وكان صاحب الوصف حاضرا ، بطريق المصادفة ، على رغم أنف الحبكة الفنية التي تستبعد حق المصادفة في التأثير ، وبخاصة إذا قاربت نقطة التنوير . كانت الصورة المنقولة إلىّ عنه لا توحي بنداوة المودة، فيها قدر من توتر الثقة المفرطة بالنفس ، أو التلهف على إثبات الذات من مدخل مداهمة الآخر ، لست أدرى بالدرجة الواجبة من الدقة القادرة على ترصد الفروق ، تأكدت هذه الصورة حين أجاب على سؤالي بسؤال يحمل قدرا مما أشرت إليه ، ضرب يده في الجيب الخارجي للجاكيت السمني ، يلبسه على بنطلون رصاصي عادة ، وقال : وبدوّر علىّ ليه ؟! ( وترجمتها : لماذا تبحث عني ؟ ) قلت ببساطة من لم يعتد التفكير في إجابة تناسب المواقف المتغيرة : أنا في حاجة إلى كتابك عن أدب عمان ، لا يصح أن أتناول الموضوع دون استيعاب تجربتك !!
قال الصديق الأديب في وصف هذا اللقاء غير المدبر ، والطريقة التي سلكها الحوار القصير : كانت مواجهة غريبة ، قلت في نفسي : التقي أرطبون الروم بأرطبون العرب !! عجبت لمبالغته واستطرفتها أيضا ، لم أتساءل عن موقعي في هذه الاستعارة المركبة الجديدة (وقد فاتت شيخنا عبد القاهر الذي لم يتجاوز : تقدم رجلا وتؤخر أخرى، فظل كتابه يشغل هذا الموقع إلى اليوم) فأيّ الأرطبونين كنت؟ وتقبلت المشهد دون تدقيق، غير أني لم أوافق على ظن الصديق الأديب بأن الدكتور كان حين أطلق سؤاله يسنّ أظفاره ليهبش ، وعلامات غضب الطبيعة تتجمع من جهات وجهه لتستقر وقدا في عينيه ثم تنطلق لذعا . لكنه قبل أن يأخذ في استكمال تأهبه حسب توقعه ، كنت بادرته أنت بجواب لين فوضعته في جيبك في حركة واحدة !! . استنكفت هذا التصور ، ورفض ذوقي هذه الاستعارة ، وفي نفسي وصفت مقولة صديقي الأديب بأنها من بقايا أفكار المصطبة في القرية ، فقد كنت على طبيعتي تماما ، ولا أظن أنني أتمتع بسرعة التفكير الذي ابتكر الصواريخ المعترضة للصواريخ ، كما أنني أصبحت بعد تعدد اللقاءات أثق بأن صاحبي لا يُحمل حملا على أن يوضع عنوة في جيب أحد مهما كان مقامه ، وأن هذا – إذا حدث وهو أمر أقرب إلى المحال ، أو هو المحال ، فإنما يتم بحركة طوعية لحاجة في نفس يعقوب طواها ، ويمكن تلمس تعليل الطيّ في قاعدة استبدال نائب الفاعل بالفاعل نفسه !!
ترى .. ماذا لحق بانطباعات اللقاء الأول وقد مضى عليه أكثر من عشرين عاما ؟
كما هو متوقع ستكون احتمالات التغيير والتبديل محدودة جدا ، بالنسبة له ، كما بالنسبة لي ، ولكل كائن حيّ غادر مرحلة “سفر التكوين” واقترب من “صفر الخروج”، لا يملك إلاّ أن يكون هو نفسه ، ومع هذا ، بالنسبة لي ، فقد قضيت زمنا ليس بالقصير “على دكة الاحتياطي” ، غير مأذون لي بالنزول إلى الملعب إلاّ لفترات متقطعة يمكن أن تكون استثناء ، أو “على لغة من ينتظر” ، أما هو ، فعلى الرغم من غيابه عن مصر زمنا متصلا ليس بالقليل ، يكاد يقارب مدة عملي بالخارج ، فإنه – في غيابه كما في حضوره – مذكور يدخل في الحساب ، ويشغر مكانه إذا غاب حتى يئوب ، فإذا عاد تصدر الساحة وكأنه على رأس الموكب يوم الزينة ، وبهر الأنظار كما بهرها بندر شاه ، فليس لمثله صنعت دكة الاحتياطي ، وهو وإن لم يضع حول عضده علامة كابتن الفريق ، فإنه أقرب ما يكون إليه طوعا أو كرها ، حتى كأنه هو ، فإذا تحدث إلى غيرك أيقنت أنه يتحدث إليك ، وبعد قليل تشعر أنه يتحدث عنك ، ولا تستغرب أن يملأ وجدانك فإذا انصرفت إلى نفسك وتحدثت في داخلك وجدت أنه هو الذي يتحدث وما عليك إلاّ أن تستعيد معجبا ، وربما قادتك حلقات الكلام إلى أن تحاول العثور على نقطة البدء فلا تجدها ، أو تستحضر المناسبة فتتماهى في كليات يصعب فرزها ، وينتهي دورانك في اللونا بارك السحري لتسلم بأنه الذي صنع الموقف ، وخلق المناسبة ، وشكّل الحديث ، ووجّه حلقاته ، وأصدر توصياته ، وما كان لك منه إلاّ أن تكون نواسيا : “يراها ويشم نسيمها” دون أن يتطلع إلى مغادرة الدكة إياها . على أنه بكل ما يختزن من لباقة وخفة ظل وذكاء وقدرة على الحكي يقف أمامها “فقي القرية” مبهوتا ، يتقن فن الصرف: فلا يلحن في اللغة مطلقا، ويجيد فن الصرف بمعنى إنهاء المواقف الحرجة بحلول غير تقليدية ، فربما أعطاك كرة من السكر الملون تبهرك بحجمها وعبيرها ومذاقها ، حتى ليخيل إليك من سحرها أنها تسعى ، ولكن حين تخرج من دائرة التوهم تكتشف أنها كرة “غزل البنات” لا تزيد عن ملعقة سكر قلبت على نار هادئة ، ثم أدارتها يد صناع ، فأثارت تشهيك ، وأيقظت أطماعك ، وجددت دواعيك ، فاختطفتها عينك قبل أن تلمسها شفتك ، فأشبعت حواسك حتى التخمة ، وأشعرتك معنى الريّ بعد الصدى ، مع أن الكوب المملوء في يده وليس في يدك .
قالوا: إن مريديه يصنعون كتابا تكريميا ومن اللباقة أن تشارك !! قرأتها مصحفة (اللياقة)، ورأيتها مناسبة طيبة أن أكتب ، ولكني وجدت صعوبة حقيقية في أن أكتب عن شخصية هي كما وصفتها تحب الكلام جدا ، وتحب الحياة جدا ، وتحب نفسها جدا ، وتحب الفلوس جدا ، وتحب التعبير الجميل جدا ، وتحب جلسات المرح والفضفضة جدا .. وتحب أن تكون موضع اهتمام الآخرين جدا جدا ، وتحب أن تكون ممسكة بخيوط المسائل عارفة بأسرارها جدا جدا جدا ، اعتبرت هذا بمثابة عائق يعطل إمكان الإحاطة بهذا الفيض من الإمكانات ، ولكن سنح لي أنني أحمل نفس هذه الصفات – ربما مع اختلاف في الكميات ، وهنا قررت أن أكتب عن نفسي ، ثم أقوم بعملية إعادة تأهيل أو صيانة ، (يسمونها في مصر “تنكيس” ولا أدرى لماذا ، وهي كلمة قليلة الذوق مع أنهم يزعمون أن الذوق ما طلعش من مصر) ، وبهذه “النية الجوانية” يمكنك أن تقرأ الكلام السابق ، وتختار منه ، وتعيد توزيعه على الكاتب والمكتوب عنه ، كما يحلو لك دوم أن تقع في محظور .
لما داهمني وقت الكتابة تذكرت اسم رجل كان والدي يحبه جدا ، مع أنه توفى منذ ألف وأربعمائة عام ، كان مشاركا في حروب الردة ، وكان اسمه عامر (ولعل هذا سر التجاذب فهو اسم جدي الأكبر أيضا) ولكن اسمه الشائع في زمنه (أو لقبه) كان “ملاعب الأسنّة” أنا أزعم أن صديقي العزيز الذي أكتب مستمدا رؤيتي له تجتمع خصاله في هذا اللقب أو تقاربه إذا وضعنا في الاعتبار اختلاف أدوات الصراع وأسلحته مع اختلاف العصور ..
“ملاعب الأسنة” ، فلا يعني هذا أنه رجل قتال ودماء وشر ، لا يوصف القتال بأنه لعب ، إنه أقرب إلى طبيعة رجل الأكروبات عاشق الخطر ، إنه حريص على حياته أكثر من حرصك على حياتك ، لكنه يملك قدرة إبهارك فيلاعب الأسنة أو يلعب بالأسنة ، ليستشعر لذة الولادة الجديدة عقب كل لعبة ، يؤديها وعينه على التي بعدها !!