الإسكندرية 2050 : سبيكة مموهة من البينيات !!

الإسكندرية 2050 : سبيكة مموهة من البينيات !!

الإسكندرية 2050 : سبيكة مموهة من البينيات !!

 

[ دراسة تحليلية تقدمت بها إلى  “الملتقى الدولي السابع للإبداع الروائي العربي”، المقام بالقاهرة (أبريل 2019)، ونشرت ضمن كتاب الملتقى]

 

1- أربع مقدمات :

.. المقدمة الأولى

تتنادى في ذاكرة النقد مبادئ ومداخل متعددة ، تنطلق عبر مراحل القراءة لهذه الرواية الفريدة في تكوينها من بين روايات صبحي فحماوي ، مع التسليم بأن كل رواية من جملة نتاجه في هذا النوع الأدبي لها سمتها الخاص ، وطرافتها المميزة ، وبدرجة واضحة : لها صلتها بتجربته الذاتية الخصبة ، وملاحظاته الطريفة ، المستولدة من مشاهداته ورياضته للاحتمالات في مراحل عمره .

 

عرف النقد العالمي ، وفي سياقه النقد العربي – بدءاً من “مناهل الوُراد في علم الانتقاد” (1904) لمؤلفه : قسطاكي الحمصي – المدارس الأدبية التي تُعد بمثابة مداخل مؤسسة لمنظور نقدي مميز ، كما عرف نقادنا : الشكل والمضمون ، والقضية والأداة ، والفن للفن ، والفن في خدمة المجتمع .. إلى أن نصل زمن الحداثة ، لتشرع أبواب أساسها اللغة ، وأخرى أساسها علم الاجتماع ، أو علم النفس ، كما قد ننتقل فجأة من الحار (البنيوية) إلى البارد (التفكيكية) ، وحسب التعبير الفلسطيني : لا يزال الحبل على الجرار !! ، وفيما يخص فن الرواية ، فقد انقسمت – موضوعياً – إلى : رومانسية ( إذ ولد هذا الفن الروائي في إطارها الفلسفي الوجداني ) ، وواقعية ، ورمزية ، ثم فيما بعد – إذ تماهت هذه التقسيمات ، وتداخلت : انقسمت إلى رواية تاريخية ، واجتماعية ، وسيرة ذاتية ، وخيالية ، ثم كانت رواية الخيال العلمي جامعة بين المتناقضات ، فقد يكون لقدرة التخيل مشاركة في الاهتداء إلى الفرض العلمي ، غير أنه لا يكتسب هذا الوصف إلا بعد أن يتحول إلى قاعدة ، وقانون صارم مبرهن عليه .

 

.. المقدمة الثانية

حظيت هذه الرواية [ الإسكندرية 2050 ] باهتمام نقدي واضح ، حتى لقد صدر بخصوصها كتاب جمع أهم المقالات التي عرضت لمحاور وملامح مختلفة في هذه الرواية(1) ، ويمكن – إجمالا – القول بأن هذه المتابعات النقدية عرضت للغرائبية والعجائبية ، وما يتصل بهما من الخيال السحري ، والخيال العلمي ، والنظرة المستقبلية، وطابع الفانتازيا ، والاستشراف والنبوءة ، والواقع والسخرية ، والتمرد على قواعد فن الرواية . وهكذا يجد قارئ الرواية نفسه مضيقاً على رؤيته الخاصة بهذا الحشد من الرؤى المتقاربة أو المتباعدة . غير أن هذا لا يعني أن مجال القول قد أغلق ، أو استوفى حدود الممكن ، فلعل ما يسعف القراءة المستأنفة أن يكون صاحبها له من رصيد القراءة النقدية ، والمعرفة بأسرار فن الرواية ما يختلف فيه عن كل من سبقه ، ومن ثم قد يتاح لنا أن نقدم إضافات هي بمثابة “أضواء جانبية” تعزز ما سبقت الإشارة إليه ، وتبرز ما أغفله السابقون لسبب أو لآخر .

 

.. المقدمة الثالثة

         لقد تعرفت إلى روايات صبحي فحماوي قبل الالتقاء به ، ثم كان بيننا لقاء ، وتعارف ، وربما إعجاب أيضاً ، ربما كان الإعجاب من جانبي يعتمد على ما في شخصه من دماثة الخلق ، وقدرة على التسامح ، فتحت له مسارات متعددة في زمننا المعقد ، وما في (ذكاء) الانتماء لديه ، وقدرة على استيعاب المشاعر ، والأفكار التي قد تبدو متباعدة أو متناقضة ، فصبحي فحماوي أردني الإقامة والجنسية ، غير أن أهم رواياته لا تصرف نظرها عن معاناة أبناء جلدته ، أبناء فلسطين في وطنهم ، أو ما بقي منه ، كما في مهاجرهم ومنافيهم في أنحاء المعمورة !! ومن الملاحظ – فيما قرأت من دراسات أشرت إليها – أن ” فلسطينية الكاتب” لم تترك أثراً واضحاً في متابعات ناقديه ، على وضوح هذا المحور (الفلسطيني) في هذه الرواية خاصة ، وبدرجات مختلفة في بعض رواياته الأخرى. من ثم نعطي أنفسنا الحق في تعقب هذا المسار المهم في (الإسكندرية 2050) .

.. المقدمة الرابعة

لقد اخترنا عنواناً لهذه القراءة النقدية (الإسكندرية 2050 : سبيكة مموهة من البينيات) ليكون جامعاً لأهم المكونات (صانعة الشكل) في هذه السردية ، حال تواصلها إلى درجة التداخل أو الذي يصل إلى حد التماهي ، مكوناً المعمار/الشكل الجمالي لهذه الرواية ، إذ نزعم أن الكتابات السابقة لم تعرض لفلسفة التشكيل الفني ، وعلاقة المكونات من خلال التماهي في بينيات تتوارد عبر تداعي الأفكار والمشاعر ، وتعاقب السنين وإلحاح المواقف .. إلخ، لتصنع البدء/الختام في هذه الرواية المميزة في سياقها ، وهنا نشير – كما سنرى – أن البينية الكبرى التي استوعب الإطار العام للسرد تنهض على مفارقة زمنية وتصويرية وفكرية ، كما أن هذه البينية/المفارقة الكبرى ضمت في طوياها بينيات أو مفارقات أخرى سنشير إلي أهمها .

 

* * *

2- من التسجيل الوثائقي .. إلى الخيال العلمي :

هذه هي البينية الأولى الفارقة بين رواية (الإسكندرية 2050) وأية رواية أخرى من روايات ما وصف نقديا بأنها (روايات الخيال العلمي) . فإن افترضنا – استجابة لطابع التكرار وخاتمة السياق الذي صنعته حيوات ثلاثة أجيال متعاقبة في ذات الأسرة : [مشهور شاهر الشهري، وابنه برهان ، ثم حفيده كنعان (الأخضر)] أن هذا الفرض/الحدس العلمي بأن تصل الإنسانية إلى دمج الخلية في الجسد الإنساني بالأنسجة النباتية ، بحيث يؤدي هذا المزج إلى (سلالة) جديدة من البشر ، هي ما أطلقت عليه الرواية ” الإنسان الأخضر” – إذا كان هذا الكشف المتخيل هدف السردية ، فإن بلوغ هذه الغاية لم يكن يستدعي ذكر هذا الحشد من الأحداث ، والأماكن ، والشخصيات الموثقة التي عايشها المتلقي ، أو في الأقل – هو قريب منها ، ولا يزال متأثراً بوقائعها ومصائرها ، أو وقائعه معها !!

ويتشعب هذا الطابع التسجيلي (الوثائقي) في جهات شتى ، مثل : أسماء الأماكن ما بين عكا ، وطولكرم ، والقاهرة ، والإسكندرية ، وألمانيا ، وشنغهاي .. إلخ ، فهذه مدن وأقطار ماثلة في وعي المتلقي ، ولكل منها صورة مختزنة يصعب مسخها أو تغييرها ، ونلاحظ أن التقليد السائد في روايات الخيال العلمي يفضل (اختراع) اسم مدينة أو منطقة له إيحاء متحرر من خبرة الماضي ، ويحمل الإيحاء بالطابع المتوقع للمدينة أو المنطقة موضع الحدث الروائي . كما نلاحظ – في إطار هذا الجانب التوثيقي – النص على أسماء ذات حضور تاريخي بازغ مثل : الشيخ ضاهر والي عكا ، الذي تصدى لجيش نابليون ، وحمى مدينته ، ومثل جمال عبد الناصر – الشخصية الأثيرة عند المؤلف – بدءاً من الإهداء إلى عنوان البيت الذي ولد به جمال عبد الناصر في باكوس – الإسكندرية ، وإلى إعلان براءة التدبير (السياسي) لمظاهرات التنحي وما لحق ذلك من التخفيف من لوعة (النكسة) على مرارتها وأثرها السلبي على قضية فلسطين ، المستقرة في أعماق وجدان هذا الكاتب . فضلا عن ذكر أحداث مشهودة في زمنها ، ومروية إلى يومنا ، مثل تلك “الجملة” التي قالها المنشد الشيخ إمام ، والشاعر أحمد فؤاد نجم ، أعقاب نكسة 1967 ، وكانت ذات أثر إيجابي في يقظة الرأي العام المصري .

 

ويدخل في نطاق هذا العنصر التسجيلي – من بين عناصر التشكيل في هذه الرواية – ذكر أسماء أحياء الإسكندرية ، ودور السينما ، وتسجيل نصوص بعض الأغاني، وروايات السينما التي عاصرها الشاب (مشهور) ، وتوثيق ذلك الحفل الذي أقامه الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم في أحد المقاهى ، إذ لم تأذن لهما الجامعة بإقامة أمسيتهما !

هذه أحداث شهدها الواقع المباشر ، ومن ثم يعد ذكرها تسجيلاً ، وتأريخاً ، ويقترب من هذا الطابع هذه الفصول الثلاثة ما بين ص24 ، وص46 ، التي تعرض لحياة الطفل/الصبي/الشاب مشهور ، ما بين نشأته في المخيم ، وسعيه إلى مدرسة طولكرم ، وحتى مغادرة مطار قلندية إلى القاهرة لمواصلة تعليمه في إحدى جامعاتها . من الواضح أن رواية “الخيال العلمي” – الخالصة – لم تكن في حاجة إلى هذه الفصول الثلاثة ، فليست لها صلة عضوية بالإنسان الأخضر ، وهو جوهر الرؤية في هذه الرواية ، وكل ما بقي منها هو : ذكر مسقط الرأس في “عكا” ، الذي سيصبح بداية ونهاية لتطوير هذه السردية حتى تبلغ غايتها وكذلك لتؤكد دائرية الشكل الفني ، [ وقد درس مشهور الهندسة ، كما أن “الدائرة” أكمل الأشكال الهندسية ] ، وما ترسب في وجدان الصبي مشهور من وصية جدته عن ضرورة تجنب البنات [ درب البنات شوك ] وقد حافظ على هذه الوصية ، إلى أن اكتسحتها (تيتي) فتاة الإسكندرية المراهقة المعجبة .

 

من الواضح أن إدماج هذا العنصر التسجيلي (الوثائقي) – بالتحقق الوجودي التاريخي ، أو بالإيهام الذي تتولاه اللغة ، واختيار المفردات – أو التحامه بما أراد الكاتب لروايته أن تكون حاملة لأمل حضاري سياسي يتأسس على قاعدة علمية ، ومنجز بحثي لا يكاد يستقيم في رؤية المتلقي ، كما أنه لم يكن مستقيماً – من منظور منطقي – في تصور الكاتب نفسه ، فقد عاش (مشهور) في إطار تجاربه الواقعية التي مارسها ما بين المخيم ، والإسكندرية ، ثم دبي ، فيما بعد . أما اختراع أو اكتشاف أو توليد الإنسان النباتي ، أو الإنسان الأخضر ، فكان بجهد علمي خالص ، نهض به ابنه (برهان) – وفي التسمية أصالة علمية منهجية – منفصلا عن تجربة أبيه ، وممارساته العملية ، وإن كان هذا الأب (مشهور) هو الموجه منذ البدء ؛ إذ أرسل (برهان) للدراسة في ألمانيا .

 

على أن البدء من “عكا” والوقفة الطويلة – نسبيا – مع حياة المخيم الشاقة المجهدة ، يبدو ضرورياً ، وحتمياً في تلوين أحد معطيات هذه السردية ، وهو المعطى السياسي القومي ، في وجهه الفلسطيني ، كما أن ختام الأحداث في “عكا” سيقوي طابع (الحبكة) في الحكاية/الرواية ، فمنها بدأت ، وإليها انتهت .. كما سبقت الإشارة .

 

* * *

3- تأسيس قديم .. ومطلب ثابت :                     

هناك رابطة نسب بين “المدينة الفاضلة” و رواية ” الخيال العلمي” ، فكل منهما تبدأ من رفض الصورة الراهنة أو التمرد عليها ، وبدرجة ما : التسليم بالعجز عن تبديلها ، ومن ثم تتحرك طاقة التخيل – ذات الطابع الشعري – لافتراض واقع بديل ، يستبعد سلبيات الصورة الراهنة ، ويغرس البدائل التي يراها الخيال محققة للكمال ، أو مقربة إليه ، وهنا نشير إلى أن “المدينة الفاضلة” التي بدأها (أفلاطون)(427 – 347 ق . م ) ومنحها هذا الاسم ، افتتح بها هذا الضرب من التخيل المستند/المناقض للواقع الراهن في تجربته الحياتية ، الذي استمر عبر العصور ، وشاركت فيه مواهب/اجتهادات الفلاسفة والشعراء ، والمنظرين السياسيين ، والإصلاحيين عبر حقب التاريخ إلى هذا العصر الحديث(2) .

 

وهنا نلاحظ أن (مشاركة) الفكر العربي في هذا الفن معدومة تماماً ، حتى محاولة (الفارابي)- ( توفي 950م) – عن “المدينة الفاضلة” لم تحتسب بين الصور الإبداعية التي تستحق مكاناً يدل بجدارة على الخيال الخلاق ، وملكة التصوير ، والتشكيل المتكامل لمكونات (مدينة) قادرة على الوفاء بحاجات الإنسان ونزوعه الفطري إلى الكمال . وفي مقدمة كتاب “المدينة الفاضلة” تُعرف المترجمة هذا الفن بأنه يعني : ” نموذجا لمجتمع خيالي ، مثالي ، يتحقق فيه الكمال ، أو يقترب منه ، ويتحرر من الشرور التي تعاني منها البشرية” . ولابد أن يثير هذا (الغياب) العربي تساؤلات مقلقة ، فهل يدل على القناعة أو الاقتناع بالواقع ، أو يدل على النضوب والعجز ، وقصور الرؤية ، أو يدل على أن الإطار المعرفي (العربي) كان مسيساً بالخضوع والرضوخ للواقع الحاضر لأسباب دينية ، أو سياسية ؟ وهذا الجانب الأخير هو ما نرجحه ، وقد يحق لنا – في هذا السياق – أن نشير إلى أن الخليفة أبا جعفر المنصور – ( توفي775 م) قتل أحد مثقفي عصره الكبار (ابن المقفع)- ( توفي 759م) بعد أن نقل كتاب (كليلة ودمنة) من اللغة الفهلوية إلى اللغة العربية ، فأتاح للقارئ العربي – على اختلاف مستويات إدراكه ، أن يحصل على توجيهات ، وإرشادات سياسية ، تمس جوهر السلطة ومداها ، وتحبذ الشورى وقدسية العدالة .. إلخ ، مما ضاق به صدر الخليفة ، فلفق لابن المقفع تلك التهمة الجاهزة عبر العصور العربية الإسلامية (تهمة الهرطقة) . ولقد امتد هذا الكابح إلى أدبائنا في العصر الحديث ، إلى أن وجدوا ملاذا ، وغطاءً ، في رواية “الخيال العلمي” التي تنهض – تقريبا – على أسس المدينة الفاضلة ، من حيث الجوهر ، وإن كانت رواية “الخيال العلمي” تتأسس على معطيات الواقع ، وما استقر في علومه من المبادئ والحقائق العلمية ، لتنميها ، وتستثمرها في علاقات تبادلية متشابكة ، لتقيم منها تلك المدينة (الاقتراح) ، الذي يجمع بين إمكان النظرية العلمية ، وحرية التخيل في حدود المحتمل ، أو ما ينبغي أن يكون !!

 

من هذا الأساس (العلمي) انطلقت محاولة صبحي فحماوي (لاستنبات) جنس بشري جديد هو مزيج من الإنسان ومن النبات ، لتحقيق غايات استراتيجية بعيدة المدى في تأثيرها على مستقبل البشرية . وقبل أن نستوفي هذا الأساس العلمي المفترض ، الذي نهضت عليه الرواية ، نشير إلى “وجود” مخترعات علمية ، صنعها المؤلف بخياله ، ومع ذلك هي قريبة التحقق جداً ، بل إن الكثير منها متحقق بدرجة ما مثل : الإنسان الآلي (الروبوت) الذي يؤدي خدمات ، ويقوم بأعمال تفوق قدرة الإنسان العادي ، ومع ذلك فهذا الإنسان الآلي لا يخضع لمعطيات الحواس البشرية ، إذ لا يعرف الخجل أو المحرم ، أو حدود ما يجوز ومالا يجوز .. إلخ . إنه لا يعرف غير الطاعة المطلقة (المبرمجة) في تكوينه ، التي تحدد وظائفه ، وهذا الاقتراب من المنجز العلمي للروبوت لم يؤثر سلباً على النماذج والأعمال التي أسندت لهذا الروبوت في الرواية . ومثل ذلك يمكن أن يقال عن (الطائرات الورقية) و (البُسط المتحركة) وطرائق استمداد المعلومات من خلايا المخ ، واختصار إجراءات الدخول والخروج في المطارات ، اعتمادا على التوثيق الالكتروني ، والاعتماد على بصمة الصوت ، وإمكان إجراء الفحوصات الطبية على البعد .. إلخ .

ويبقى الأساس العلمي الذي يشرحه (برهان) بقوله : لقد تطورت أبحاثنا الوراثية يا أبي ، فبعد أن نجح العلماء الأوائل في دمج خلية نباتية مع خلية حيوانية ، وأنتجوا منها أول خلية لحيوان أخضر ، تابعنا بعدهم تطوير أبحاث الحيوان الأخضر(3) . وهنا يبدو (كنعان) ممثل الجيل الثالث في أسرة (مشهور) ، ومجسد الإنسان الأخضر : يانعاً مثل النباتات الظليلة الجميلة ، وهو يحتضن كلباً أخضر صغير الحجم ، ويلبس ملابس شفافة ، مصممة بلباقة لاستقبال أشعة الشمس ، لإجراء عملية التمثيل الكلوروفيلي ، وكي تقيه العوامل الجوية(4) . وبالتفصيل ؛ فإن كنعان الصبي في العاشرة من عمره شعره عشب نجيل أخضر ، يقف مشرئبا كثيفاً نضراً لامعاً ، وفي وجهه وجسده لمعة وطراوة أوراق البرتقال وخضرتها(5) . سنعود إلى إيثار البرتقال ورمزية اختياره ، والمهم أن اللون الأخضر يشمل الكائنات الحية ، وحتى البعوض والذباب والنحل والفراش ، والنسر والحمامة ، والخراف والماعز ، والأسود والنمور ، وإذا كانت هذه الصورة متخيلة حلم بها (مشهور) في غفوة القيلولة ، فإن هذه الخضرة (المفروضة) تهدف إلى إلغاء المبدأ الحياتي المهم ، القائم على الصراع ، والتنافس بين السلالات والأنواع ، بإحلال التوافق والمحبة بين جميع الكائنات ، ترتيباً على استغنائها عن الغذاء ، ومن ثم الصراع في سبيل الحصول عليه ، والاكتفاء بمعطيات الطبيعة ، كما خلقها الله (الشمس والهواء والماء) ، وبذلك يرتسم أفق آخر للوجود الإنساني هو : المحبة ، والاستمتاع بالجمال !!

 

ويجمل (برهان) تصوره لأهداف هذا الكائن الجديد ، بأنه خطوة في اتجاه تحقيق الجنة على الأرض(6) . فيقول : ” حين لم تفلح الأديان ولا الأمم غير المتحدة في زراعة المحبة بين الناس ، وفي تقليم أظافر النهش والقتل والتدمير ، والاستيلاء على الآخرين ، نحن نقوم بالمهمة . الوراثة تقوم الآن بتحويل جينات الإنسان والحيوان القائمة على الاعتداء على الآخر ، إلى جينات محبة للآخر ، وتقوم بإطالة عمر الإنسان ، وكل الكائنات الحية ، لتغيير فلسفة الحياة ، وتحويل الصراع إلى التناغم والتكامل . نحن نسعى لخلق الجنة على الأرض . الآن تختفي أمامنا مقولة : إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب. ونستبدل بعبارة الإنسان مفكر مبدع جميل ، وفنان محب ، ورفيق بإخوانه : الإنسان والحيوان والنبات(7) .

 

لا نملك الحق في مناقشة الأساس الذي قامت عليه هذه الرواية ، وإن كان تحققه علمياً مرهون بأزمنة قد تأتي في المستقبل القريب أو البعيد ، وهو اتحاد الخلية الحيوانية بالخلية النباتية ، بما يؤدي إلى إنتاج إنسان نباتي ، يعيش على هبات الطبيعة التي تصله ، دون صراع أو جهد . وهنا نشعر بوجود (فجوة) تؤثر سلباً على إقناع المتلقي بجدوى هذه المغامرة العلمية (المفترضة) !! فإذا غاب عنصر الصراع ، والتنافس ، والسعي إلى الغلبة ، واحتواء القوة ، فما البديل – أو البدائل – التي يعتنقها الإنسان الأخضر ، ويعمل من أجل إعلائها ؟ إن جميع العصور التي عاشتها البشرية في أزمانها المختلفة ، وجماعاتها المتباينة مارست حياتها/نضالها من أجل الوجود والتفوق ، بتأثير منظومة من القيم المستخلصة من التجريب والمعاناة والأمل في الحصول على الأقوى ، والأجمل ، والأنفع ، بما يعني أن طاقة التخيل وراء كل منجز إنساني ، وأن العمل/التجريب هو مفتاح الوجود وصانع التقدم . وهكذا سنكتشف أن البديل الأخضر يحتاج إلى حافز أو حوافز بديلة . أم أن هذا الإنسان الأخضر (ومعه المؤلف) يريد منا أن نؤمن بأن الحياة غاية في ذاتها ، وأنها ستكون على نحو أطيب فيما لو أنها خلت من المنافسة ، ومن القلق تجاه المستقبل، وما يتطلب من السعي نحو الكمال ، والقوة ، بالمعايير الإنسانية ؟!

إن “المدن الفاضلة” – كما عرفناها ، وأحصاها أو قربها إلينا كتاب (ماريا لويزا برنيري) لم تستبعد الطبيعة الإنسانية ، حتى وإن أقامت مدائن بديلة في مناطق مجهولة ، أو (لا مكانية) – كما يدل على ذلك مصطلح (يوتوبيا utopia) كما ابتدعه (توماس مور). ونرجح أن الكاتب (الفلسطيني) المثقل بوقائع ، وسلبيات أمته العربية ، وانعكاسها على ما يجري من عملية المسخ ، والإحالة لوطنه الفلسطيني ، لم يجد بداً من التفكير في اتجاه التغيير الشامل للجنس البشري ، بإسقاط الطبائع السائدة ، وإحلال طبائع مناقضة ، ليحصل على حقه في وطنه السليب ، الذي حرص على تسجيل حضوره في سياقات مختلفة من هذه الرواية ، كما سنرى(8) .

 

* * *

4- عتبات النص :

لقد أغنتنا الدراسات النقدية المترجمة والمؤلفة عن شرح مفهوم العتبة ، وآثر العتبات في توجيه التلقي ، وإثارة التشويق ، وتحفيز الفكر . وطبيعي أن تكون العتبات (وفية) بأهم مكونات النص ، وفي الرواية التي نحن بصددها ، تعددت العتبات ما بين : صورة الغلاف ، وعنوان الرواية ، والإهداء ، والاقتباسات الأربعة في صدرها ، ثم في تقسيم جسد السردية إلى فصول (37 فصلا) ، استقل كل فصل فيها بعنوان/عتبة يخصه ، ومع هذا فإن هذه العتبة التي تصدرت الفصول المتعاقبة ، لم تؤد أبداً إلى حصر للمحتوى في حدود ما تعنيه تلك العتبة ، وهذه السمة سائدة في كافة عناصر التكوين للرواية ، بالطريقة التي سنكشف عنها حين نعرض لهذه العناصر .

 

كما تتضمن لوحة الغلاف مفارقة في المنظور الشكلي (المعماري) ، تقوم على التناقض/المفارقة بين الزاوية اليمنى ، وفيها تنهض عمائر شامخة ، والزاوية اليسرى وتتشكل من أكواخ عديمة “الشخصية” ، على أنهما – معاً – تطلان على بحر أزرق رائق، فإن عنوان الرواية يتضمن مفارقة أخرى في الجمع بين المكان المحقق (الإسكندرية) ، والزمان الذي لم يحدث بعد (2050) ، ومن طبيعة هذا العنوان أن يوجه التلقي إلى افق يتجاوز التوقع !! . ثم تأتي أربع فقرات مقتبسة من (أوفيد) ، و (جبران) ، و (توماس بلفينش) ، و (هرمان هيسه) ، وهي – على التتابع – تشبه رؤوس أو مداخل الطرق المفضية إلى أفق لا يُرى ، وإن بدت محدداته البعيدة . فأدونيس ولد من شجرة وارفة الظلال – كما يذكر أوفيد ، ويحلم جبران ببشر يعيشون على عبير الأرض كالنبات ، أما العبارتان الأخريان : فتشيران إلى التحول في اتجاه معاكس ، عن مصبات النيل الجافة ، وانهيار العالم العتيق ، الذي لابد أن يجدد نفسه !! وإذاً فإن هاتين العتبتين الأخيرتين تقدمان “النذير” الذي يرى أن “التحول” عن الأنماط السائدة هو ملاذ النجاة من هلاك آت لا ريب فيه !  

 

ومع أن هذه الاقتباسات الأربعة تضمر أهم عناصر الفكرة الجوهرية للرواية ، وهي التحول في سبيل غاية جمالية ، أو مثالية . فإن إحداها – ربما – كانت تكفي ، وإن كنا لا نستطيع أن نصادر حق المبدع في (توقيعات) فكره ، والكشف عن مصادر جانب من خبراته . أما الإهداء : فقد وجهه ” إلى 18 شارع قنوات ، حي باكوس ، الإسكندرية” وهذا العنوان – مطلق السراح – يحدد المكان الذي ولد فيه (جمال عبد الناصر) ! فكأن الرواية – في جوهرها – مهداة إلى هذا الزعيم المؤثر في الصحوة العربية ، التي نعيشها من منتصف القرن العشرين ، ربما ، إلى منتصف القرن الحادي والعشرين ، المثبت في عنوان الرواية .

 

أما عناوين/عتبات الفصول ، فقد جمعت بين ما يمكن أن يعد بمثابة (إكسسوارات) تحمل دلالات مختلفة ، تتدرج بين التاريخي ، والواقعي ، والمستقبلي ، والعلمي ، والخيالي ، والمجتمعي ، والنفسي ، والشخصي ، والموهوم ، والمفهوم ، والمستنتج ، والساخر ، والحائر… وكل ما يمكن أن يخطر ببال من يفتح (مخزناً) أودع فيه ما يصعب إحصاؤه من ذكرياته القديمة ، التي ربما نسيها هو نفسه ، فلا يذكرها إلا بقوة الاستدعاء وحضور المثير الوقتي – كما سنرى في تشكيل مادة هذه الرواية البديعة . 

 

* * *

5- التكافؤ .. والتناقض :      

ومع ما بين هذين المصطلحين من تضاد في المدلول ، فإن تحققهما مطلوب لإبراز خصوصية التجربة ، بل نزعم أن التكافؤ والتناقض هما بمثابة الإطار ، الذي يجسد المتخيل ويمنحه درجته من القبول .

 

التكافؤ – فيما نحن بصدده – يعني أن تراعى النسبية فيما تسوق السردية من شواخص ، وسلوكيات ، وأعمال ، وصفات . وهذا الجانب قد أدى وظيفته السياقية على نحو ملائم لجوهر التجربة/الفكرة الأساس ؛ فإذا كان التلاقح بين (الخلية الحيوانية والخلية النباتية) ممكنا ، فإن الكائن الذي ينتج عن هذه العملية ينبغي أن يحمل صفات النوعين بدرجات ملحوظة ، وبالمثل تكون الطائرة الورقية في قوة الفولاذ ، وتكون سرعتها مستمدة من أربعة أجنحة ، ويكون الأداء الوظيفي في المطار تنهض به الآلة وليس البشر – كما هو معهود – كما أن العمائر (الأبراج) الزجاجية التي تحتفظ بشمس النهار لتضيء الليل ، إجراءً مكافئاً ومتوقعاً للبؤرة المتحكمة في الرواية ، وحتى البشر السائرين قفزاً مثل الكنغر ، فهنا تتلاءم نسبة السرعة مع ترامي المسافات وشاهق المرتفعات .. إلخ . وننظر إلى علاقة الألوان ، والأماكن ، فنجدها محققة لهذا التكافؤ الذي يؤثر من الاحتمالات أقربها إلى التحقق ، قياساً إلى جوهر الرؤية في الإنسان الأخضر ، فليس عبثاً أن يهيمن اللون الأصفر – رمز الصين – فنحن نعيش زمن قوة جماعية ناهضة ، تعمل بنظام خلايا النمل أو النحل ، وقد أضيفت الصين – عبر زماننا – إلى رصيد القوى الكبرى في العالم ، واللون الأصفر ، المعهود في الشخصية الصينية ، نقيض للون الأخضر الذي تسعى البشرية إلى الاحتماء به من سلبيات زمانها الراهن ، متعدد الألوان ( أو : الذي يفقد اللون) . وقد كان السارد حريصاً على استبعاد عنصر الكراهية والتوجس ، والرفض الجاهز لأي تدخل أجنبي . بعبارة أخرى : لم يسند هذا الدور العلمي ، الاقتصادي الفاعل إلى قوة حاضرة ، نعاين جبروتها (أمريكا) ، ليتجنب إثارة تجارب الماضي العربي القريب ، مع هذه القوة العظمى ، التي تبدو في المنظور العام أكثر تقدماً من الصين ، غير أن حضورها في الرواية – وقد ارتبطت بالموقف التاريخي والسياسي ، بمساندة إسرائيل (العدو التاريخي لأمة العرب ، ومنتهب أرض فلسطين ووجودها التاريخي) فإنها لم تكن لتصلح لحمل مفاتيح المستقبل ، ومبشراته بالتقدم . ومهما يكن من أمر ، فإن السارد حصر الحضور الصيني في الجانب العلمي ، والهيمنة الاقتصادية ، وسكت تماماً عما يستلزم ذلك بالضرورة من سطوة القرار السياسي ، وحِدّته . واللون الأصفر هو النقيض اللوني للأخضر ، فهل نظر السارد إلى استخدام الألوان من منظور رمزي ؟ بما يعني أن الأخضر حين يوجد وينتشر سيكون بالطبيعة عامل إزاحة للأصفر ؟!! ومن المنظور نفسه أرسل مؤسس الأسرة (في الرواية : مشهور) ولده (برهان) إلى ألمانيا ليكمل تعليمه ، فأتاحت له معاملها وعناصرها العلمية بلوغ غايته بتحقيق حلم الإنسان الأخضر ، واختيار ألمانيا موفق إلى قدر كبير ، فليس لهذا القطر تاريخ عدائي من العرب ، بل ربما كان الأمر على العكس ، كما أن الشخصية الألمانية في العلم ، كما في الفلسفة ، والفن ، وطاقة العمل ، تعد نموذجاً رفيعاً ، ومتقدماً في هذه المجالات . وقد تزوج (برهان) زميلته العالمة الألمانية ، وهذا الزواج يحمل طاقة الرمز ، وشارة التطلع إلى درجة من التوحد بالتجربة الألمانية في تلك المجالات المشار إليها .

 

أما التناقض ، فله تجليات متعددة الطبقات والاتجاهات في هيكل هذه الرواية ، كما في مشاهدها وشخوصها ، وهذا مستفاد سلباً – في جملته – من غياب “الشخصية المصرية” في إدارة (إسكندرية 2050) غيابا شاملاً ؛ إذ لم نجد شخصية مصرية واحدة تقوم بعمل في المطار ، أو في الطائرة ، أو حتى في معبد كيلوباترا الغارق ، أو منارته الساطعة !! لقد ارتبط حضور العنصر البشري السكندري ، بسكندرية الستينيات حين نزل إليها (مشهور) ليلتحق بجامعتها ، فكان هذا “السيل” من الشخصيات الشعبية شديدة الحيوية ، والواقعية ، كما سنراها ، غير أن (مشهور) حين غادر إلى العمل في دبي أسقط زمن الإسكندرية من إحساسه تماماً ، باستثناء تعاطفه مع جورج ، وإلحاقه بعمل تحت إدارته بدافع الوفاء لزمنه السكندري . أما “الشريحة” السكندرية الشعبية عام (2050) فإنها تأخذ شكل الكتلة أو الجماعة التي لا يتميز فيها شخص عن آخر ، فنعرف ما صنعته المؤسسات الصينية القوية بالأحياء الوطنية القديمة ، وكيف أزيح العنصر الوطني إلى أطراف المدينة ، وضربت عليهم الذلة والمسكنة ، وباؤوا بإهمال السيطرة العلمية ، وكأنهم خارج الوضع الإنساني ، أو عبء عليه ، وهذه المفارقة بين المنجز العلمي الغامر ، الذي تزدهي به جنبات (إسكندرية 2050) ، وتدني أوضاع ، واكتساح مواقع الطبقات الشعبية ، تبدو في نسق الرواية ، وكأنها الجانب الكابوسي المقابل لزهو التقدم ، وسطوة العلم ، مع أن هذا التقدم ، وذاك العلم ، ما كانا ليعدما وسيلة لتلوين هذه المساحة القاتمة في زمن صراع الألوان ، وتوافق النقيضين : الأصفر والأخضر . أما التناقض الأكبر (الذي غفل عنه خيال السارد) فإنه يتجلى في الأخذ (حرفياً) بإحدى النبوءات العلمية ، التي تتوقع أن ازدياد درجة الحرارة – على الأرض بوجه عام – ستؤدي إلى ارتفاع مستوى الماء في البحار ، بما يؤدي إلى غرق الدلتا المصرية !! لقد سلم السارد بهذه النتيجة ، وكأنها حتم مقضي ، فلم يسعفه خياله العلمي – الذي استطاع أن يوحد الخلية النباتية بالخلية الحيوانية – باكتشاف حل يبقي على الدلتا المصرية ، وتظل الإسكندرية مدينة عامرة بأهلها ، حتى مع “الغزوة الصينية” العلمية لأرضها !!  

 

لقد أخذ (التكافؤ) نصيباً يمكن وصفه وتعليله بإمكانات الوراثة ، عبر الأجيال الثلاثة :  ( مشهور     برهان     كنعان ) ، غير أن هذا التكافؤ بين الجد والابن والحفيد ينحصر في : المنهج العلمي . أما جانب الممارسة الحياتية ، فإنه يناقض هذا التكافؤ ، فقد كان الجد مشغوفاً بالحياة ، متطلعاً إلى اكتساب خبرة بالأشخاص وبالأشياء ، وقد ارتقى هذا الشغف الشخصي في الجد ، إلى شغف منهجي/علمي في الابن ، حتى إذا بلغنا الحفيد وجدناه لا يشغل نفسه بشيء بالمرة !! لعل هذا الموقع المحايد يناسب الجانب النباتي في الشخصية ، المصنوعة من عنصرين ، غير أن إبطال فاعلية الجانب البشري في الشخصية ذاتها ، يحكم عليها ، وعلى المستقبل في جملته ، بأنه “لا معنى له” أو ” لا هدف له” ، وكأن الحياة – مجرد الحياة ، دون أي عمل – هدف في ذاتها !! وقد تبدو هذه الغاية بمثابة حل (علمي) لزمن الزحام والتلوث ، وسُعار المنافسة .. إلخ . ولكن البديل يتبنى منطق الإحباط والسلبية ، إذ لم تخطط الرواية أفقاً يتطلع إليه هذا الإنسان الأخضر، ويعمل في سبيل تحقيقه ، كما سبق القول . إن البحث عن (السلام) غاية أساسية مضمرة في هذه الرواية ، ودوافع هذا التطلع إلى السلام ، ترمز إليها عبارات وأحداث متعددة ، وكما سنرى فإن السارد ربط ما يهدف إليه من إعلاء الإنسان الأخضر بالحياة المسالمة التي تتسع لكل البشر – عبر إسقاط المنافسة ، وإلغاء الحروب – بحلمه المشروع بالعودة إلى ارض أجداده في فلسطين ، وهذه قضية أخرى تستحق أن نناقشها منفردة .

 

* * *

6 – فلسطين الحاضرة .. دائما :

تشغل فلسطين محوراً مؤثراً في تشكيل مادة هذه الرواية ، يتجاوز أن أحداثها تبدأ في مدينة (عكا) وإليها تنتهي ، وأن الشخصية الرئيسة في هذه الرواية (مشهور شاهر الشهري) عكاوي ، معتز بالانتماء إلى إقليمه ، وإن عاش صباه في مخيم قريب من طولكرم ، كما عاش شبابه ما بين الإسكندرية ودبي . إن اختيار مدينة عكا منطلقاً ، ثم ختاماً لأحداث الرواية ، يكشف عن حلم خبيء في وجدان السارد الفلسطيني(9) . سنمضي عن المغزى الخيالي العلمي ، الذي تمثله شبكة الإنتاج المتخصصة للتجسس ، وتسجيل وقائع حياة الشخص في الساعات الأخيرة ، بتسجيل رقمي لحظي [ وقد حدث هذا بإذن خاص من برهان ] وهذا أمر يستدعي أن نهتم به ، فإذا كان اختيار “عكا” لما تحمله هذه المدينة من رمز البطولة والمقاومة (مع أنها سقطت في يد اليهود حتى قبل إعلان دولتهم في فلسطين) زمن واليها ضاهر العمر ، فإن حرْص (برهان) ، ممثل جيل الوسط ، على أن يعرف تفاصيل التفاصيل الخاصة بحياة أبيه مستفيداً من هذه التقنية المبتكرة ، يثير التساؤل : فالسلوك الفطري ، المتوقع، من الأبناء يتجه عادة إلى الحرص على كرامة الأب المتوفى ، ومن مظاهر هذه الكرامة عدم النبش في سلوكياته الماضية (المخفية خاصة) ، غير أننا نفاجأ بالابن وقد حرص على معرفة كل أسرار أبيه ، فحصل عليها . وبصرف النظر – مؤقتا – عن أن “السردية” هي في تعاقب مشاهدها وأحداثها ، كما سجلها هذا التسجيل الرقمي الخاص لرجل يحتضر ، يتذكر كل ما سلف من أفعاله ، وأقواله ، فإن ما يعنينا هنا الموقف (الأخلاقي) للابن تجاه الأب المحتضر . وإذ نستعيد ما سرده الشريط الرقمي عن علاقة (مشهور) بابنه (برهان) لن نجد توتراً ، أو قلقاً ، أو غضباً يقتحم هذه العلاقة ، بل الأمر على العكس : فنحن بإزاء أبوة حانية ، وبنوة فاضلة ، وتوافق في الرغبات والأهداف . وهنا يتجه تفكير المتلقي لكي يملأ هذا الجانب المسكوت عنه ، إلى حرص أجيال أبناء فلسطين على الحفاظ عن (كل) ما صادف الآباء ، وما فعلوا ، وما قالوا ، وما اجترحوا ، دون تحرز أو إصدار أحكام . فالهدف هنا هو الحفاظ على ” أسرار” الشخصية الفلسطينية، وحماية موروثها الخاص من التآكل أمام زحف الشتات على العلاقات الأسرية . وهذا أمر ينعكس على حياة الأب (مشهور) في الإسكندرية ، ثم في دبي ، وحياة ابنه في ألمانيا ، وتحول حفيده إلى مواطن عالمي …!! بل إن الحفيد (الأخضر) كنعان يذكر لجده حين يلقاه بالإسكندرية أن والده حكى له عن كل ما كان ، بما يعني الحرص على استبقاء التجربة الخاصة ، وحمايتها من التآكل . على أن الحضور الفلسطيني يؤكد ذاته عبر الأزمنة ، ليس في الأشخاص وحسب ، بل في ملامح الحياة العامة ، فسمر – ابنة مشهور – لم تغادر عكا ، وتعيش مع أولادها فيها ، في حين يسبق (غالب) أخاه (مشهور) للعمل في دبي ، ليتمكن من إعالة أخيه في الإسكندرية(10) ، وهذا أمر مشهود لأبناء فلسطين (خاصة) إلى اليوم .. ويحظى بقدسية عالية !!

 

 وتتوافق مرحلة المخيم ، مع مرحلة المراهقة في عمر مشهور ، فعلى الطريق إلى طولكرم تحرك الحب المبكر في وجدانه ، وفي شوارع طولكرم عرف الجوع ، والطعام الردئ ، ومع ذلك تبقى نقاط الضوء مرتبطة بهذا المكان ؛ إذ لا يزال يذكر مكتبة السفارين ، ومحل عادل الغضبان (أشهر خياط بدلات) في طولكرم ، كما لا يزال يتحدث عن صندوق جدته عند زفافها ، وقد أُحضر من الشام ، وتركته هذه الجدة في عكا ، وهذا المستوى الشعري يهيمن على استدعاءات الوطن الفلسطيني في الرواية ، حتى تكون (الجنة تحت أقدام البرتقال)(11) ، ويكون كنعان مكتنزاً لرائحة الوطن البرتقالي(12) ، ومع هذه الشعرية العالية سنجد الهجائيات المتبادلة (المألوفة) بين أقاليم الوطن الواحد ، كالاتهام بالبخل ، أو بالهوج .. إلخ . كما ردد مشهور مفردات وعبارات فلسطينية تنتمي إلى زمنه فيها .

 

هذا المستوى الشخصي أو الفردي متناثر على امتداد الرواية ، يبدو في التماعات سلوكية أو عبارات فالتة عند انفعال معين ، وهي موجودة على لسان مشهور ، دون أن نلمس لها حضوراً – بأية درجة – على لسان ولده برهان ، وهذا اعتراف بأثر الشتات ، وقوة الانتماء على الشخصية الفلسطينية ، المهددة في هويتها ، وعمق معرفتها بطبائع الحياة في وطنها .

 

وإذا كنا لا نملك أن نخصص فقرة لطريقة صياغة أسماء الشخصيات ، فإننا لا نستطيع أن نغفل ما يعنيه (مشهور) من معنى الانتشار ، و(برهان) من معنى النزوع العلمي ، والتأصيل والعقلانية ، وما يعنيه (كنعان) وهو اسم تاريخي عُرف به أهل فلسطين في الكتاب المقدس (ينظر سِفر القضاة من العهد القديم “التوراة”) الذي وصف معارك متعددة بين المتربصين من بني إسرائيل ، وبين الكنعانيين أهل البلاد الأصليين . فكأن هذا الجيل الثالث من أبناء فلسطين ، ومن خلال (هوية) خاصة متميزة ، هو المؤهَل لتجاوز طبائع المرحلة الصراعية التي نعيشها فيما قبل عام (2050) !!  

 

وفي هذا المحور الفلسطيني – إن صحت التسمية – يكتسب المحور القومي العربي درجة حضوره البازغة ، فإذا كان العالم كله قد تغيرت ملامحه ، وأقسامه ، ومسمى هذه الأقسام ، فإن الدول العربية أصبحت (الولايات العربية) . إذ تحققت الوحدة بين هذه الدول ، وهذا أمل لا يزال مرموقاً ، ومجمداً .. ولو إلى حين (13) .

* * *

7- الرومانسية .. والواقعية :

من المعروف في تاريخ النقد ، وتعاقب المدارس الفنية ، أنه في زمن “الرومانسية” حصلت الكتابة بـ” لغة النثر” على مشروعية الاعتداد بها ، فكانت (الرواية) أهم منجزات العصر الرومانسي . ومن المعروف كذلك أن “الواقعية” (سليلة) الرومانسية ، ومتمردة عليها في ذات الوقت ، كما يتمرد جيل الأبناء على الآباء . وفي ضوء الواقعية حقق فن (الرواية) أعلى مستويات بزوغه بين فنون الإبداع .. إلى اليوم !! فليس مستغرباً أن تتشكل رواية في القرن الحادي والعشرين من خيوط أُسس لها قبل قرنين من الزمان ، حتى وإن تراجع التقسيم الفني (رومانسية/واقعية) أمام التقسيمات الأسلوبية . في هذه الرواية نشير إلى أمرين احتشدا – كدافعين مؤثرين – في تعميق الملامح الرومانسية ، ثم الملامح الواقعية ، وهذان الأمران يعودان إلى تأسيس فكرة الرواية على المقابلة بين زمانين ، وتنقل الكاتب/السارد بين حياتين ، أو حيوات ، من الطبيعي أن تترك أثرها المباشر على تصوراته ، واحتشاد ذكرياته ، فضلا عن أن هذا الكاتب ، وقد عاش في مصر عدد سنين يكشف – في هذه الرواية بخاصة – عن طبائع وذائقة ومزاج شديد القرب من الطابع العام للشخصية المصرية ، ويمكن أن نتلمس هذا في بناء اللغة ، واستخدام المفردات والمصطلحات المحلية .

 

على أننا لا نستطيع – في تعقب مكونات هذه الرواية – أن نفصل عناصرها “الرومانسية” عن العناصر الأخرى “الواقعية” ، فصلاً مرحلياً أو مكانياً ، فمع سيولة (الزمن) وتداخل الذكريات ، وتحرر التداعيات دون تقيد بحدود المكان ، تلتمع إشارات رومانسية ، وأخرى واقعية طوال مراحل هذه الرواية .

 

لابد أن تلفتنا عتبة (جبران) من بين العتبات الأربع (سابقة الذكر) ، ففضلا عن أنها تؤسس لفلسفة الرواية في ذاتها ، فإنها تقوم على “أمنية” أن يعيش الإنسان على عبير الأرض ، فيكتفي بالنور كالنبات(14) ، ومبدأ “وحدة الكون” هو مبدأ رومانسي (فضلا عن أنه جوهر الرؤية الشعرية) ، كما أن الإبعاد في التخيل (أو الشطح – حسب المصطلح الصوفي) هو من صميم الرومانسية كذلك . كما أن الحلم “بواقع بديل” هو أيضا من ملامح الرومانسية ، فإذا أمعنا النظر في (شخص) المؤلف فنعرف أنه ينتمي إلى بلد آخر غير مصر ، فإن اعتداده بهذا البلد الآخر ، والكتابة عنه بعاطفة حانية ، هو في ذاته ملمح رومانسي ، وفي هذا الإطار تدخل نزعته القومية الواضحة في اختيار معطيات الحياة البديلة (المأمولة) ، والحلم بدولة الولايات العربية .. إلخ . وما يتبعه من انتقال مركز الحضارة إلى الشرق العربي …

 

ومن المفارقات حقا ، الطريف – كذلك- أن الفتى الفلسطيني – مشهور – لم يكن رومانسياً صاحب خيال أو شطحات ، بقدر ما كان ضعيف الثقة في نفسه ، ومذعوراً بدرجة ما ، وهذا تعليل لظاهره المتجافي مع دعوات الحب والجنس في بواكير زمنه بالإسكندرية لم يكن (مشهور) متمسكاً بالعفة ، أو التعالي على اللذة ، والخوف من الخطيئة .. بقدر ما كان يفتقد روح المغامرة والرغبة في الاكتشاف ، وإذا كانت (تيتي) المراهقة الجريئة، استطاعت أن تكتسح مخاوفه ، فإنه ظل على حذره فلم يفض إلينا – عبر الجانب الاعترافي في روايته – بتجارب أخرى . من ثم يمكن القول : إن الجانب الرومانسي في (الإسكندرية 2050) ظل محصورا في الأفكار والأمنيات والأحلام ، حتى يعبر عن حق العودة بـ(واجب العودة)(15) . وفي خضم تدافع الأحداث الصغيرة ، التي تملأ حياة طالب مراهق مغترب ، يلتقط صورة “راهب الدير”(16) القريب من مسجد (سيدي جابر) وكيف يقوم على خدمة قاصديه ، وتيسير مهماتهم المتعلقة بطلب العلم في أريحية وتجرد يليق بحياة الرهبان . كما أنه اختار شخص (محمد محمد محمد) صديقه وزميله في السكن ليكون رمزاً للاستشهاد في معركة العبور ، ولعبر عن تقديسه للذكرى وللصداقة من خلال هذا الفقد لرفيق شبابه في الجامعة !!

 

هكذا تتشعب الأحلام والأمنيات الرومانسية ، بدءاً من الإطار العام لهذه الرواية ، وإلى تلوين أهم أفكارها ، وما تضمنت من حلم وطني ، وحلم قومي ، وشخصيات انطوت على مثالية في لحظة فارقة .

 

أما المكونات الواقعية في (الاسكندرية2050) فيمكن أن توصف بأنها صاحبة اللون الغالب ، حتى وإن تضمن هذا الوصف قدراً من الافتيات أو الصدام مع الطابع السائد ، وهي أنها – في جملتها – رواية من الخيال العلمي ، تنهض على أحلام ، وتصورات ذات صلة بالواقع ، ومتحررة منه في ذات الوقت . وإذا كان الإطار الفكري للرواية رومانسياً بالضرورة من حيث وجود مسافة بينه وبين الواقع المعاش – فباستثناء (برهان) وكلبه الأخضر وحشراته الخضراء ، وصديقته الخضراء ، وقدرته على المشي تحت الماء ، بما يبشر بإمكان إقامة مدن في طوايا البحار ، بما يفرج عن كرب الزحام البشري على الأرض – تهيمن الواقعية على أهم عناصر التشكيل الروائي من الشخصيات إلى الأماكن ، والأحداث الصغيرة ، وتسجيل الوقائع التاريخية .. إلخ . فمنذ (زمن المخيم) قريباً من طولكرم ، كانت أفكار وممارسات (مشهور) واقعية ، ومداركه وشعوره بالعجز ، حتى عن تحصيل وجبة نظيفة ، أو مرافقة فتاة على الطريق، وقد صحبته هذه النزعة الواقعية التي بلغت مدىً متميزاً (فنياً) في وصف مشاهد متعددة تبدأ بوصف رحلته الأولى بالقطار ما بين القاهرة والإسكندرية ، وغياب نظرة الإعجاب أو الانبهار (المتوقعة) – أو المنتظرة من جانبنا – في نظراتنا لمراهق قادم مخيم حين يشاهد بحر الإسكندرية ، وبلاجاتها التي ليس له بها عهد . هناك عبارات وصفية تدخل في نطاق الشعر (الذي تستحقه الإسكندرية بمغزاها التاريخي ، وجمالها الفريد) غير أن هذه العبارات ، ما لبثت أن تماهت بإيثار الطابع التسجيلي لأسماء الأحياء : سيدي جابر ، باكوس ، محطة الرمل، كرموز .. إلخ . ثم بعد هذا المنظور الكلي يتوقف عند الشارع ، ثم المنزل ، ثم الغرفة ، ليشبعها وصفاً محايداً ، ليس فيه ازدراء وليس فيه تعاطف ، ثم يتأصل وصف الأماكن بتصوير الشخصيات التي واجهها ، أو تعامل معها (مشهور) وهي في جملتها لا تحمل مشاعر نبيلة أو جميلة ، بقدر ما تحمل من المكر والانتهازية ، والتناقض ، بل قد تضمر الشر والاستغلال ، وسوء الرأي ، وسوء الظن ، وسوءات أخرى كشفت عنها الأحداث الجزئية في سياق الرواية ، حتى تلك (الأنثى مهيضة الجناح)(17) ، التي كانت زوجة مستورة ، دفعها سوء حظها ، أو سوء تقدير زوجها ، من طهارة الحياة البيتية المستورة ، إلى ممارسة البغاء في الملاهي الليلية !! . وكما نعرف ؛ فإن نموذج (البغي) عرفته الرومانسية ، كما صورته الواقعية ، على أنه في المنظور الرومانسي يغلب عليه طابع الأنثى الضحية لقسوة المجتمع ، وفي المنظور الواقعي تعد شخصية البغي مؤشراً على المظالم الطبقية وشيوع الحرمان ، كما يدل على فساد بعض الطبائع البشرية . أما (الأنثى مهيضة الجناح) فقد ظلت اقرب إلى ضحية المعاملة القاسية من زوج سيء التقدير ، وفي الرواية بغايا مختلفات ، ليس من بينهن من تمارس تلك الحرفة من منظور أنها ” قدر مكتوب” بقدر ما تعبر عن فقر مادي ضل طريقه إلى منافذ الكسب ، ويستدعي تعدد البغايا اللاتي يفضلن التعامل مع طلبة الجامعات، أن نشير إلى المشاهد الجنسية الصريحة (القبيحة) التي قد تجد “الواقعية” حرجاً في الإشارة إليها ، وإن تجرأ عليها التوجه (الطبيعي) المبالغ في واقعيته = المبالغ في وصف ما تعف النفس عن الرغبة في ذكره أو مشاهدته ، حتى نرى الفتاة تجلس بين الشابين بقميصها الرقيق المبتل ، الذي يكشف عن تضاريس ما يجب إخفاؤه من جسمها، ونرى (مشهور) نفسه يتشمم قطعة من الثياب الداخلية للفتاة ، فيجد في هذا لذةً واشتهاءً(18) .

 

كما تضمنت الرواية إشارات محددة إلى التفاوت الطبقي الاجتماعي(19) ، واثر الزحام في تراجع الحاسة الأخلاقية ، أو انعدامها(20) . وإبراز طابع الانتهازية وازدواج الشخصية ، مما أظهرته الروايات الواقعية بصفة عامة .

 

يمكن أن نقول – في ختام هذه الفقرة – أن الجانب الرومانسي ارتبط بالفكرة التي تأسست عليها الرواية ، وبما يتصل بالحلم الفلسطيني ما بين المهجر ، والعودة إلى حضن الوطن ، ثم في إيثار العودة إلى “ذكريات” زمن الشباب في الإسكندرية ، حتى وإن غلبت النزعة الواقعية على طبائع الشخصيات السكندرية ، في حين ظل مشهور نفسه على طبيعته التي يغلب عليها طابع التردد والدهشة ، والاكتفاء بالمشاهدة ، دون المشاركة ، حتى في أحداث ما ترتب على النكسة من ثورة الرفض والاحتجاج بين زملائه في الجامعة ، واحتفظت بها ذاكرته حتى لحظة احتضاره !! من ثم ، لا يبقى في مساحة “التمرد” غير تلك اللحظة الفريدة التي اقتنصته فيها ” تيتي” فاكتسحت ذعره المضمر – حتى غادر إلى (دبي) !!

 

* * *

8- من حركة الزمن .. إلى حركة اللغة :              

ينفتح الفصل الأول في السردية على المشهد الختامي في زمن الرواية : مشهور ، الجد العجوز ، الذي تجاوز المائة من الأعوام ، يعيش لحظة احتضاره ، فيأذن ابنه (برهان) لشركة مختصة بالتسجيل الرقمي لأحداث العمر كاملة في تلك اللحظة الفريدة ، ويتم هذا (الخيال العلمي) عقب عودة (مشهور) من الإسكندرية إلى مسقط رأسه (عكا) ، ويدل تسجيل التاريخ على أنه قضى في عكا بضعة أشهر ، لا نعرف ماذا جرى فيها ، مع ما يمكن – أو ما كان يمكن – أن تمثله هذه الأشهر من عام (2051) من إضافات مهمة ، نتخيل   – بدورنا- أن محتواها كان سيقوم على التناقض بين الحلم بعالم واحد خلا من العداء والتنافس ، واطمأن – في عصره الأخضر – إلى المحبة والسلام .. إلخ ، وبين واقع مدينة عكا التي تعيش في زمنها (الإسرائيلي) بوقائعه التي نعرف قياساً على المشاهد في حاضرنا ، من ثم يصعب تعليل إسقاط هذا المدى الزمني ما بين حياة مشهور في الإسكندرية أعقاب لقائه بولده وحفيده (2050) وبين وفاته في عكا (2051) . على أن الرواية تبدأ مرة أخرى – بفصلها الثاني تحت عنوان “الزمن الأصفر” – بعبارات رومانسية (شعرية) تتغنى بجمال الإسكندرية :

” يا إلهي ما أبهاكِ أيتها البجعة البيضاء الجميلة ، الطافية فوق بحر أزرق ، أيتها الجنة المضطجعة على رمال شاطئ من ذهب ! ما أشهاكِ يا أجمل الجميلات ، وقد ضمخك عطر البرتقال ، حتى لقد تُيمت بحبك النسمات ، ما أنقاكِ وموج البحر يغسل قدميكِ … ” .. إلخ (21)  .

 

ولنا على هذا البدء ثلاث ملاحظات : أنه – زمنياً – يعبر عن مشاعر مشهور القديمة ، تلك المشاعر الصادرة عن ذكريات حياته في الإسكندرية أواسط ستينيات القرن العشرين ، وسنجد لهذه المشاعر الجاهزة في حنينها للذكريات اصداء في ممارساته السابقة إبان معيشته طالباً بالإسكندرية . وهذا العنوان عن (الزمن الأصفر) يجافي محتوى الفصل ، إذ يومئ إلى  ما ستدركه الشخصية (مشهور) فيما سيأتي من تفصيل عن هيمنة المؤسسات الصينية على مدينة الذكريات العزيزة ، كما أن هذا الاستهلال يستدعي إلى الذاكرة تلك العبارات الشعرية التي رددها (عامر وجدي) في رواية (ميرامار) حين أشرف على الإسكندرية(22) . على أن عبارات الصحفي العجوز عند نجيب محفوظ تناسب مهنته ، وتلك المرحلة من عمره ، وشوقه العميق إلى صفاء النفس ، والعزلة الهادئة . أما ما ردده (مشهور) فإنه – على رونقه الشعري – ما لبث أن استمر بإضافة أوصاف تدرجت إلى حالات ومراحل ما بين تاريخية وعصرية ، هي في جملتها مناقضة لهذا الاستهلال الشعري ، ومؤثرة – سلباً – في الاحتفاظ به في ذاكرة التلقي . إذ غلب على محتوى هذا الفصل – الذي يمكن اعتباره الفصل الأول في سردية حياة (مشهور) – الاستعراض العام لتاريخ المدينة ، وتاريخه الشخصي فيما بعد تجربته فيها .       

 

وينكسر التعاقب الزمني – مرة ثالثة – مع استهلال الفصل الثالث ، الذي سيجمع بين لحظة الوصول إلى المطار ، وتداعي ذكريات الطفولة المؤلمة في المخيم ، ومعاناة الحياة الشاقة فيه ، وفي رحلته اليومية إلى المدرسة في طولكرم ، ثم سيصبح هذا (النمط) مهيمناً على مكونات الفصول المتعاقبة ؛ إذ يبدأ الفصل بوصف مشهدي لوقائع وتجليات (الزمن الأخضر) بدءاً من مطار الإسكندرية ، وتكوينه العجائبي ، ثم يستدرج السرد إلى وقائع الحياة الماثلة في الإسكندرية حين نزل بها للمرة الأولى . ونستطيع أن نلاحظ بكثير من اليسر ، أن صورة الإسكندرية حين شاهدها (مشهور) لأول مرة ، وعبر سنوات دراسته بجامعتها – هي الصورة الغالبة على محتوى الفصول المتعاقبة ، التي عرفنا أنه يبدأ كل فصل منها بوصف مشهد ، هو انعكاس لمعطيات الزمن السردي الراهن، أي منتصف القرن الحادي والعشرين ، فهنا – في مادة كل فصل – نوع من الانقسام الزمني بين زمن الذكريات ، ومحتوياته الواقعية ، والزمن الحاضر الذي تحمل الرواية اسمه ، وهو زمن متخيل ، وطبيعي أن هذا التقابل يصنع مفارقة تتجدد مع كل فصل ، أو تكشف عن وجه من وجوه هذه المفارقة الشاملة التي يجسدها الشكل العام لهذه الرواية ، وهي أنها – بالخيال العلمي – تقابل بين حياتين في ذات المدينة . على أننا نفتقد هذا التكوين في الفصول السبعة الأخيرة من هذه الرواية ، بدءاً بالفصل المعنون ” من ها الشنب يا ريس” (ص263) ، وهو الفصل الذي وصف أحداث النكسة وما ترتب عليها ، ففي هذا الفصل الذي يبدأ بإعلان تنحي عبد الناصر ، تخلى السارد عن البدء بعجائب مشاهداته في الإسكندرية أو في غيرها ، وفي هذا الانكسار في مسار التقنية السائدة في فصول الرواية ، تتجسد جوهرية حادث النكسة ؛ إذ فرضت التغيير في النمط تغييراً شاملاً في حياة الناس ، كما في النسق الزمني المكون لفصول هذه الرواية ، ففي هذه الفصول الأخيرة لم يعد يستفتح الفصل بعجائب الزمن الأخضر ، أو غرائب مطار الإسكندرية وعماراتها ، وإنما يبدأ حسب الترتيب الزمني لوقائع الحياة المصرية ، ما بين سنة النكسة ، وحتى مغادرة (مشهور) لمصر ، والتحاقه بأخيه للعمل في دبي !! 

 

هذا ما يتسم به التدفق العام للزمن في (الإسكندرية 2050) . أما حركة الزمن في كل فصل على حدة ، فقد عرفنا أن افتتاح الفصل – كل فصل بوجه عام- يتجه إلى عجائب منتصف القرن الحادي والعشرين ، لبضع فقرات أو بضعة أسطر ، ثم – ولأدنى ملابسة – ينهمر سيل الذكريات المتحررة غالباً من السياق الزمني للرواية ، المعبرة عن زمنها الخاص ، وفي هذا الإطار يمكن أن نشير إلى أن هذه الرواية قد تضمنت في بنائها الشكلي ، المحكوم بتعاقب أحداثها الجزئية – تقديم عدد من الأشخاص ، والمشاهد ، والأحداث التي يشكل كل منها في ذاته ما يمكن أن يعد (قصة قصيرة) قائمة بذاتها ؛ بمعنى أنها ليست مرتبطة عضوياً بمطالب السياق ، وهذا المعنى ماثل – عادة – في السرديات التي تعتمد على تداعي الذكريات ، وتجاذب الأشباه ، أو النقائض .. إلخ . قد يكون لهذه الأقاصيص القائمة على رسم الشخصيات ، أو وصف بعض المشاهد القائمة بذاتها ، ما يدل على إمكان استغناء السياق عنها ، دون إلحاق ضرر بسيولة السرد ، وتعاقب موجاته ، لغياب منطق السببية المشكل لجوهر بنية الرواية (التقليدية) عادة ، غير أنه – مع هذا – يكسب السياق مزيداً من الحيوية ، والشعور بصدقية الرصد لمجريات حياة طالب مغترب ، تتفتح عيناه ، وتنصت أذناه ، ويترصد إحساسه لكل ما هو غريب ، عن طبائع مجتمعه في وطنه(23) .

       

إن هذه المساحات القادرة على اختطاف اهتمام المتلقي من السياق العام للانشغال بهذا النموذج أو هذا المشهد ، قد نجد له نظائر في فن الرواية الواقعية بصفة خاصة ، غير أنه لا يأخذ شكل “الجزيرة” المعزولة ، وإنما يمهد له ، كما ينتهي إلى الارتباط بالسياق العام ، وهذا ما يمكن تحققه في بعض هذه التشكيلات الخاصة ؛ إذ تنقطع صلتها بالسياق السردي ، كما تستقل بزمنها الحاضر دون أن تصب في التيار العام للأحداث ، حتى وإن شكلت بعض قسماته المشتركة .

 

وفيما يتعلق بعنصر اللغة ، سنجد أنفسنا بإزاء مستويات مختلفة من التعامل مع اللغة ، سواءٌ في مفرداتها ، كما في تراكيبها . ومن المتوقع – بوجه عام – أن نجد فارقاً بين لغة زمن الذكريات (سواء في المخيم ، أو في الإسكندرية عند قدوم مشهور إليها) ولغة الزمن الراهن ؛ أي زمن الإنسان الأخضر ، وهذا فرق طبيعي بين الواقع ، والواقع المتخيل ، أو بين ما كان ، وما هو كائن في الخيال راهناً . وهذه القسمة العامة يمكن تلمسها في المقابلة بين الوصف المشهدي الواقعي (كما نجده في فصل : بلطية أنفوشية ، وأنثى مهيضة الجناح ، وسراويل! ، وخناقة اسكندراني) على سبيل المثال . وبين لغة السرد في (الزمن الأصفر ، وعالم بلا تحديات ، وحزب الخضر) على سبيل المقابلة بالفصول السابقة . وكذلك من الطبيعي على مستوى زمن الستينيات أن تكون فروق اللهجة ، وما تعتمده من نطق بعض الأصوات ، والكلمات ، والانحراف بالدلالات – حاضرة بين لهجة المخيم الفلسطيني ، ولهجة الإسكندرانية ، وقد (لعب) صبحي فحماوي على هذه الفروق اللهجية بطريقة مثيرة ومشوقة ومقبولة في كثير من مواقعها وسياقاتها ، بحيث دلت هذه الفروق – لا نقول : على ملامح فارقة بين قطاعات ومواقع العرب في بلادهم المختلفة ، بقدر ما تدل على رسوخ الشخصية الوطنية المميزة – إقليمياً – بلهجتها الخاصة ، حتى وإن حاول صبحي فحماوي أن يؤصل فارقاً آخر في الملامح العضوية ، إذ جعل ” تهافت” مراهقات الإسكندرية على الطالب (مشهور) لما يتمتع به من عينين زرقاوين ، وبشرة بيضاء صافية ، شأن جملة أهل فلسطين في شماليها خاصة .

 

مع هذا فقد اتسمت لغة السرد بصفتين مميزتين أضافا إلى عنصر التشويق في السرد حيوية وغرابة ، وصدمة أحياناً . وفي الحالين ستكون (الواقعية) أو ما أطلق عليه محمد مندور (مشاكلة الواقع)(24) ، هو الوصف المسوّغ لهذا الاستخدام اللغوي .

 

 سنشهد للسارد بقدرة فريدة على محاكاة المعجم المصري الشعبي ، بصياغاته ، واختصاراته ، وإشاراته المميزة ، التي تتداولها – فيما بينها – بدلالتها المحددة مجتمعياً لدى الطبقة التي تستخدمها ؛ مثل :

  • دفعت خلوها الشيء الفلاني – ص 111 ، 147 ، 253 .
  • يصيح بأغنية أي كلام – ص 112 .  
  • شوية ناس فاقدين – ص113 .
  • والذي منه – ص139 .
  • بنات يعني – ص151 .
  • فضيحة بجلاجل – ص157 .
  • ابن الحلال اللي يلمها ويشكمها – ص158 .
  • رقعت بالصوت – ص163 .
  • رتبة ح الصول – ص181 .
  • إياكش تولع – ص229 .
  • يلعب الفار في عبك – ص247 .
  • نغاشيش انفك – ص255 .
  • وحتى لغة ذلك المخنث : فك ديئتي إلهي ما يحطك في ديئه – ص255 .

 

هذه العبارات جميعها قالها (مشهور) أو جرت في ضميره ، وهي من صميم المعجم الشعبي ، ولا يجيد استخدامها في سياقاتها إلا الذي خالط قائليها ، واستوعب مضمونها النفسي ، واختزالها الدلالي ، وقد أجاد السارد في هذا الجانب بلا شك ، غير أنه ” لعب” – في سياق محدد – على التفاوت الدلالي في بعض الأصوات المعبرة عن حالة خاصة ، مثل (أحه) – المأذون بها في اللهجة الفلسطينية ، تعبيراً عن الشعور بالبرد ، والمرفوضة – تهذيبياً – في اللهجات المصرية ، لمغزاها السوقي الجنسي (وإن كان استخدمها في سياق الهجاء السياسي لعملية التنحي ، إذ هتفت الجماهير : أحه .. لا تتنحى – (ص265) ، وكذلك (ترخص) السارد بذكر مفردات مستقبحة ، كان يمكن أن يستبدل بها عبارات أو أوصاف أخرى ، مثل (ضراط – ويضرط – وفساء – وهتشخ منين /ص259  – والبراز /ص95 ،128) .                                     

 هذه المفردات مستقبحة في العرف ، وخارجة عن الطبع المتوازن ، مع هذا فإن الحكم الفني حيالها ، لا يصنفها في وصف القبح المطلق ، فقد يتولد عنها شعور صادم ، غير أنه يجدد حاسة التلقي ، ويستفز الطبائع والأحاسيس ، وقد يستدعي جانباً من ذكريات غاصت تحت الوعي ، ووجدت فرصتها ، لتبث الحيوية في المشهد ، وبذلك تدخل فيما يطلق عليه “جمالية القبح” !!

 

وفي إطار هذا التلوين اللغوي ، ينبغي أن نتوقف عند نقيض جمالية القبح في المفردات السالفة ، وهو (الشعرية) التي أسس عليها السارد حكايته ؛ إذ تشق طريقها (السردي) بين الواقع والمتخيل ، ليصنع مفارقة متعددة الاتجاهات على المستويات : الفكري ، والعلمي ، والوصفي للمنظور ، كما أن هذه المفارقة الكبرى التي استوعبت هيكل الرواية في جملتها ، فكانت منطلقاً وإطاراً للشعرية ، انطوت على أهم العناصر المؤسسة للشعرية ، مثل (المجاز) العلمي ، الماثل في شبكة الإنتاج المتخصصة ، فهذا تصوير (مادي) للحظة انكشاف الغطاء ) فبصرك اليوم حديد( تعبيراً عن حضور وقائع الحياة كاملة في طرفة عين يتراءى لها شبح الانسحاب من الحياة ، واستمراراً مع (درب البنات شوك) في لغة (مجاز) الجدة العجوز بالمخيم ، وحتى تهريج جمهور الدرجة الثالثة في بعض دور السينما بالإسكندرية ؛ حيث تجتمع الأضداد ، فالمحذرة من درب البنات هي بالفطرة بنت كذلك ، وجمهور سينما الدرجة الثالثة يفترض أنه جاء ليتسلى وليس ليعرض فنونه الشعبية المرتجلة . فهذا الجمع بين الأضداد ، وهذه الصور الطريفة ، وهذه اللغة الخاصة ، وهذا التمرد العميق في عديد من شخصيات الرواية ، هو في جوهره من عناصر الشعرية التي استوعبتها المفارقة الكبرى ، التي تأسست على مقابلات مستمرة ، ومضادات متعاقبة بين مشاهد طرفي المرحلة الزمنية التي تغطيها الذاكرة في جانبها الماضي ، وتستوعبها المشاهدة في مثولها الحاضر في الزمن الأخضر.

 

9- وختاماً ..

نقول إن هذه الرواية لكاتبها صبحي فحماوي ، تنتمي إلى تجربته الخاصة ، تجربة الفلسطيني ، الذي أجبر على مغادرة وطنه ، فلم يفقد ذاته ، ولا هويته الخاصة ، وإنما أخذ نفسه بالشدة في مواجهة أزمات مفروضة أو مفترضة ، في انطلاقته الإجبارية التي يندفع إليها رغبة أو رهبة أو اضطراراً . وفي هذه الرواية امتياز خاص في نسقها الفني ، إذ قام هيكلها على مفارقة مستمرة بين خمسينيات القرن الماضي ، وخمسينيات القرن الراهن ، والسارد – فحماوي – ينحاز بقلبه إلى زمانه الماضي في الإسكندرية ، معبراً عن شعور قومي عميق ، وصادق ، يبدأ من إهداء العمل إلى مسقط رأس (جمال عبد الناصر) وتستمر تجلياته في مختاراته المكانية ، وشخصياته السكندرية ، حتى وإن وصف بعضها بسقوط الهمة ، أو سقوط الأخلاق ، فقد كان السرد حريصاً على تعليل هذه المناطق (السلوكية) المنحلة ، تحت ضغوط الضرورة المادية ، وخلل البنية الاجتماعية ، وأحياناً : بسبب انحرافات فطرية لا سبيل إلى تفاديها ، والمهم أن تعليلات (البراءة) تلاحق (أوصاف الإدانة) فيما نسب إلى هذه الشخصيات . من ثم تعد هذه الرواية عملاً فلسطينياً ، تسجيلياً ، حتى في تطلعه وحلمه العلمي ، لأن تحل قضية وطنه السليب ، من خلال تبدلات عالمية بإعادة توزيع مناطق التقدم والنفوذ ، واتخاذ القرار ، وهو حلم كبير ينطوي على قدر من التفاؤل ، وقدر من التشاؤم أو اليأس ، يصعب وصفه ، أو الانحياز إلى أحد طرفي هذه المفارقة على المستوى السياسي . مع هذا لا نملك إلا أن نبدي ملاحظة على علاقة الأجيال الثلاثة بمسقط الرأس (عكا) ، فقد ظلت حاضرة في وجدان (مشهور) الذي عانى واقع المحنة ، وتعرض لآثارها الماحقة ، ولكنه – حسب كناية طريفة للأستاذ محمد عبد الحليم عبدالله ، وصف بها إحدى شخصياته الروائية بأن الأقدار التي قلبت به الزورق مكنته من ركوبه مقلوباً !! فمشهور الذي كان مشروعه – افتراضاً- يمكن أن يتوقف عند جامعة الإسكندرية ، ثم العودة إلى (الضفة الغربية) لحق بأخيه في دبي ، ومن خلال هذا الامتداد أرسل ولده (برهان) ليدرس الهندسة الوراثية في ألمانيا ، فلا يلبث أن يلقي بجذوره هناك ، ويصنع مجتمعاً خاصاً به ، وهذا أمر مألوف بالنسبة للأسر الفلسطينية المضطرة إلى الهجرة . على أن (برهان) الذي يحتفظ بالقليل من ذكريات والده عن الزمن الفلسطيني ، لم ينقل شيئاً منها إلي ولده الأخضر (كنعان) الذي أصبح ينطوي بطبيعة خصوصية تكوينه إلى ما يمكن أن يطلق عليه : (الإنسان العالمي) المتحرر من هوية المكان ، وهوية الأوطان ، وإن يكن تحت وهم التخلص من دوافع الصراع والمنافسة العالمية .

 

إن هذه الرواية المتميزة بأساسها الفكري ، القائم على المفارقة بين الواقع والمتخيل ، يمكن أن نتلمس بعض الجوانب الأصيلة فيها ، موجودة كإشارات أو لمحات في روايات سابقة للمؤلف ، وقد تحمل هذه السوابق دلالة على تجذرها في وجدان الكاتب، وتعبيرها المباشر عن بعض ميوله ، أو قناعاته بالنسبة لأهل بلده أو قضيته الخاصة .

 

وفي غاية هذا الختام المختصر .. نستدعي مبدأً نقدياً يصدق في تحليل رواية ، كما في تحليل قصيدة ، أو مسرحية ، أو أي شكل فني من أشكال التعبير الأدبي ، وهذا المبدأ يرى أن لكل شكل فني تقسيماته ، أو عناصر تكوينه المميزة له ، وأنه مهما اجتهدت المحاولة النقدية في قراءة وإضاءة عناصر هذا التكوين ، وحتى الكشف عن علاقاتها التبادلية في حدود البنية الخاصة ، فسيبقى دائماً قدرٌ من (أسرار الصنعة) و (جماليات التكوين) يصعب الوصول إليها . وكما نعرف من “قواعد” العلوم : أن الصفات المتحققة في المزيج المكون من عناصر تختلف ، وتتجاوز الصفات التي ينطوي عليها كل عنصر في ذاته !!

 

* * *

 الــهـــــوامـــش :

  • ينظر كتاب ” الخيال العلمي في رواية صبحي فحماوي ” الإسكندرية 2050″ – دراسات نقدية – جمعته ومهدت لمقالاته وعلقت عليها الدكتورة ماجدة صلاح – الناشر : دار جليس الزمان للنشر والتوزيع – الأردن – 2019 .
  • ينظر كتاب : “المدينة الفاضلة عبر التاريخ ” – ماريا لويزا برنيري – ترجمة : الدكتورة عطيات أبو السعود – سلسلة عالم المعرفة – الكويت – العدد 225 – سبتمبر 1997 . وقد قُسمت مادة الكتاب حسب الأزمنة والعصور : العصر القديم – عصر النهضة – يوتوبيات الثورة الإنجليزية – يوتوبيات عصر التنوير – اليوتوبيات الحديثة .
  • رواية ” الإسكندرية 2050″ – ص54 .
  • الرواية – ص84 .
  • الرواية – ص 86 .
  • الرواية – ص189 .
  • الرواية – ص224 ، 225 . الصواب : ” نستبدل بها عبارة ” ، لأن الباء تدخل على المتروك .
  • وهنا نذكر المثل الشعبي ( جنة من غير ناس ما تنداس ) . ونستدعي بيت شوقي (أمير الشعراء) :

وطني لو شغلت بالخلد عنه     نازعتني إليه في الخلد نفسي

  • سنجد لهذا الحلم تجليات أخرى ، ووجوه مختلفة في رواية “حرمتان ومحرم” و “صديقتي اليهودية” .
  • الرواية – ص56 .
  • الرواية – ص84 .
  • الرواية – ص87 .
  • تسكت الرواية عن ما يمكن أن تمثله (إسرائيل) في إطار الولايات العربية ، وهل تماهت إسرائيل في التكوين العربي الشامل كولاية ، أم أنها أزيحت من الصورة بكاملها ، وهنا نذكر أمرين :
  • أن أسرة (مشهور) لم تغادر عكا ، ولم تحل الإجراءات بينه وبين العودة إليها ، في حين يذكر السياق أنه في أعقاب النكسة (1967) أصبحت فلسطين بكاملها ، محمية بحراب إسرائيل ، وقد حيل بين الفلسطينيين وبين العودة إلى أي جزء منها .
  • عندما تمت الوحدة بين مصر وسورية (1958) زمن عبد الناصر ، تباشر العرب بأن ما جرى بين هذين القطرين مقدمة لانضمام أقطار أخرى لدولة الوحدة ، بل شطح خيال الأديب الصحافي (فكري أباظة) وكان حينها رئيسا لتحرير مجلة المصور – فرأى بعين خياله – أن انضمام الدول العربية إلى دولة الوحدة ، ودخول إسرائيل في إطار هذه الدولة الواحدة ، يمكن أن يكون حلا مستقبلا لقضية فلسطين . ونشر (أباظة) تصوره هذا في مقالته الأسبوعية ، وقد غضب عبد الناصر لهذا التصور الافتراضي ، الذي لا يتوافق مع مشروعه القومي ، حتى عزل فكري أباظة عن منصبه ، وإن أعاده إليه فيما بعد .
  • مقدمة الرواية – ص7 .
  • الرواية – ص294 .
  • الرواية – ص235 .
  • هذا عنوان الفصل ال17 من الرواية – ص142 .
  • الرواية – ص154 .
  • الرواية – ص167 .
  • الرواية – ص219 .
  • الرواية – ص15 .
  • عامر وجدي : الإسكندرية أخيرا . الإسكندرية قطر الندى ، نفثة السحابة البيضاء ، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء ، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع . رواية ” ميرامار” لنجيب محفوظ – الناشر : مكتبة مصر – 1967 – ص7 .
  • من هذه الفصول أو الفقرات ، التي تغري بتلقيها من منظور قصة قصيرة قائمة بذاتها ، وصف رحلة القطار ما بين القاهرة والإسكندرية (شيء لله يا سيد يا بدوي) – ص65 . وحكاية تلك المرأة التي طردها زوجها ، فالتقطها تاجر الرقيق الأبيض (أنثى مهيضة الجناح) – ص142 . و(مطعم الدمنهوري) – ص18 ، وتصوير شخصية الطالبة تهاني الكفراوي ، التي تميزت بين زميلاتها بالثياب المحتشمة ، فتعرضت للسخرية ، حتى امتنعت عن إتمام تعليمها –ص156 .. إلخ .
  • ابتدع محمد مندور هذا المصطلح في مناقشته لرواية طه حسين ” دعاء الكروان” في كتابه ” في الميزان الجديد” .

      

اترك تعليقاً