تجـذر الهــوية وقلــق التجــريب .. سرديات صبحي فحماوي نموذجاً
جامعة الكويت
كلية الآداب
———
مؤتمر الثقافة والهوية في العالم العربي :
من الوحدة إلى التنوع
محور : الأدب والهوية الثقافية
* * *
تجـذر الهــوية وقلــق التجــريب
سرديات صبحي فحماوي نموذجاً
أ.د . محمد حسن عبدالله
أولاً : الكاتب، والهوية، والتجريب :
(أ) الكاتب ..
صبحي فحماوي (صبحي أحمد خليل فحماوي- ولد في أم الزينات – فلسطين عام النكبة1948) كاتب أديب فلسطيني، يعيش راهناً في الأردن، ويحمل جنسيتها، مارس فن الكتابة، موظفاً ثقافته العلمية ومتجاوزاً معطياتها الثابتة، حصل على بكالوريوس هندسة زراعية من جامعة الإسكندرية عام 1969، وعلى دبلوم الدراسات العليا في هندسة الحدائق من جامعة لوس أنجلوس – أمريكا عام 1983.
وقد أضاف ” فحماوي” إلى خبرته العلمية، خبرة عملية، وسلوكية، استمدها من شغفه بالرحلة والسفر إلى جهات العالم، وتنمية علاقاته من خلال مهرجانات الأزهار التي يحرص على حضورها، فضلا عن عضويته بعدد من الجماعات والأندية الثقافية في أنحاء الوطن العربي، مما اكسبه (شبكة) من المعارف والأصدقاء ، الذين يمكن أن نجد أصداء حضورهم في حياته وتجربته المعاشة في رواياته التي نُعنى بها .
صدرت له إبداعات في المسرح، والقصة القصيرة، والمقال الصحفي، ولكن صورته الأدبية استقرت عبر عشر روايات تعاقبت على النسق التالي :
- رواية (عذبة) دار الفارابي – بيروت – 2005 .
- رواية (حرمتان ومحرم ) دار الهلال – بمصر– 2007 .
- رواية (الحب في زمن العولمة) دار الهلال – بمصر – 2008 .
- رواية (قصة عشق كنعانية) دار الفارابي – بيروت – 2009 .
- رواية (الإسكندرية 2050) دار الفارابي – بيروت – 2009 .
- رواية (الأرملة السوداء) دار الهلال – بمصر – 2011 .
- رواية (على باب الهوى) دار الفارابي – بيروت – 2014 .
- رواية ( سروال بلقيس) مكتبة كل شيء – حيفا – 2014 .
- رواية (صديقتي اليهودية) المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – 2015 .
- رواية (قاع البلد) مكتبة كل شيء – حيفا – 2017 .
وبتأمل تاريخ صدور الطبعات الأولى المشار إليها ندرك مدى نشاط الكاتب، وإيثاره للشكل الروائي، وهذا الإيثار سيبدو بوضوح أكثر حين نتأمل مكونات كل رواية، والعلاقة بين شخصياتها، والقضية التي تشغلهم، أو تشغل الشخصية الرئيسية فيها . هنا سنجد ” الهوية ” بمثابة المرتكز أو الهدف الذي تسعى مكونات التشكيل الفني إلى جلائه، وإقناع المتلقي به، أو دعوته إليه . وهنا ملاحظة إضافية : فقد بدأ نشاطه في النشر بالاعتماد على بيروت، وهي إحدى العواصم الثقافية المهمة عربياً، غير أنه ما لبث أن اتجه إلى القاهرة، ثم (قفز) إلى حيفا، فكأنما كان الفحماوي يحوم حول الحمى، ويختبر إمكاناته الأدبية في مخاطبة بني وطنه الفلسطيني في صميم موقعهم. وبذلك أعطى إيحاءً مهماً بالنسبة للقضية التي نحن بصددها – قضية الهوية- التي تحركت في عدد من الدوائر المتماسة أحياناً، والمتداخلة أحيانا أخرى، كما سنرى في دراستنا التحليلية لهذه القضية .. قضية الهوية، وهي وجه آخر لقضية الانتماء . وقد صدرت عدة دراسات حاولت تعقب إبداعات فحماوي الروائية خاصة، بما يؤكد أن فن الرواية هو الأقوى حضوراً وتأثيراً في جملة ما كتب(1) .
(ب) الهوية (Identity)..
يختصر “المعجم الوسيط” تعريف هذا المصطلح فلسفياً في قوله:”الهوية: حقيقة الشيء أو الشخص التي تميزه عن غيره. وتضيف الفلسفة لهذا المصطلح دلالتين على قدر من الاختلاف غالباً، والتداخل أحياناً، حسب المنهج وسياق الطرح . الدلالة الأولى فلسفية، وعن هذه الهوية الفلسفية يقول حسن حنفي : “الهوية موضوع فلسفي بالأصالة، عالجه الفلاسفة المثاليون والوجوديون على حد سواء، المثاليون ميتافيزيقياً، وحولوه إلى قانون “الهُوية”. والوجوديون نفسياً منعاً لانقسام الذات على نفسها، ومن ثم إنكار الوجود الإنساني. وقد يصبح عند بعض الفلاسفة القانون الأول في الفكر وفي الوجود … ويتداخل مفهوم الهوية مع مفهوم الماهية، فالهوية لغوياً أن يكون الشيء هو هو، وليس غيره، وهو قائم على التطابق أو الاتساق في المنطق . والماهية أن يكون الشيء “ما هو” بزيادة حرف الصلة “ما” على الضمير المنفصل “هو” . والمعنى واحد، قد يجعل البعض الماهية أكثر عمقاً من الهُوية”(2)
وقد يأخذ معنى الهوية طابعاً شخصياً ذاتياً محدداً ومباشراً، كما نجد في هذه العبارة :
” الهوية أو الهوية الشخصية هي إحساس الفرد بذاته والذي يحدده مجموعة من السمات الجسمانية والنفسية، وأخرى مستمدة من التفاعل مع الآخرين، ولا تتشابه تلك السمات تشابها تاما أو مطلقا مع سمات أي شخص آخر، وكذلك مجموع الانتماءات(الانتماء العرقي على سبيل المثال) و الأدوار الاجتماعية. وينطوي مفهوم الهوية على معنى الاستمرارية، كشعور الإنسان انه ذات الشخص الذي كان عليه بالأمس رغم التغيرات الجسمانية التي طرأت عليه ، و هو الشعور المستمد من إدراك الشخص أن أحاسيسه و صورته و ذكرياته و أهدافه و توقعاته و معتقداته ملك لذاته وحدها(3).
لا نستطيع أن نستبعد هذا المعنى الفسلفي لمصطلح”الهوية”، وبخاصة أننا سنجد له انعكاسات في بعض الروايات التي نُعنى بها، فالهوية إحدى وجهات البحث في الماهية، كما أنها ستجد لها مجالا رحيباً في ملامح هي من أهم خصوصيات بطل الرواية عند فحماوي، وبخاصة حين ترتبط الشخصية بقضية الحرية، وبقضية الاغتراب، وبتوجيه اللاشعور في البحث عن مخرج لحالات الحصار التي يستشعرها (أبطال) روايات فحماوي.
(ج) التجريبية( Experimental ) :
التجريب في العلم – كما يقول المعجم الوسيط : اختبار منظم لظاهرة أو ظواهر، يُرد ملاحظتها ملاحظة دقيقة ومنهجية، للكشف عن نتيجة ما، أو تحقيق غرض معين . وهناك دلالات أخرى لا تنتمي إلى ما نحن بصدده . وفي تأسيس المنهج التجريبي تذكر أسماء الفلاسفة : أوجست كونت ، وجون ستيوارت ميل ، وهيبوليت تين ، وجميعهم من فلاسفة ونقاد القرن التاسع عشر .
وتحرص دائرة المعارف البريطانية على تأكيد العلاقة المؤكدة بين منهج التجريب، ونشأة الأفكار، فكأنما هما : السبب والمسبب، دون أن تتخلى عن البعد الفلسفي في طرح مفهوم التجريب، ونص عبارتها :
” التجريبية من منظور الفلسفة مذهب يرى أن الأفكار َمنَشُؤها التجربة، وان الأفكار جميعها تتعلق بأشياء يمكننا أن نخبرها أو قابلة للتطبيق على ما نخبره، كل المعتقدات أو الفرضيات المنطقية التي يقبلها العقل لا يمكن معرفتها أو تعليلها إلا بالتجربة. و يتفق هذا المفهوم العام مع الأصل اليوناني للكلمة empeiria بمعنى خبرة أو تجربة.
وتكون الأفكار “استدلالية” إن كانت قابلة للتطبيق بناء على خبرة، أو “بدهية” إن كان يمكن تطبيقها بمعزل عن الخبرة، وكذلك المعتقدات والفرضيات، قد تكون “استدلالية” إذا أمكن معرفتها بناء على خبرة أو بالدليل التجريبى أو “بدهية” إن لم تستند إلى خبرة. و طبقا لهذا التصور فجميع الأفكار أو المعتقدات و الفرضيات التي يقبلها العقل “استدلالية” و ليست “بدهية”(4).
وخلاصة مقولتهم : أن المعرفة المثمرة هي معرفة الحقائق وحدها، وأن العلوم التجريبية هي التي تمدنا بالمعارف اليقينية، وأن الفكر الإنساني لا يستطيع أن يعتصم من الخطأ – في الفلسفة وفي العلوم – إلا بعكوفه الدائم على التجربة، وبتخليه عن كل أفكاره الذاتية السابقة، وأن الأشياء في ذاتها لا يمكن إدراكها، لأن الفكر لا يستطيع إدراك شيء منها سوى العلاقات، ثم القوانين التي تخضع لها العلاقات(5) . غير أن محمد غنيمي هلال يضيف استدراكاً مهماً سيكون مطلوبا في قراءتنا لأعمال فحماوي الروائية بصفة خاصة، إذ يضيف :” لم تقتصر القصة الواقعية والطبيعية على الوقوف عند حدود الوقائع الطبيعية، وتحاشي الأحداث العجيبة، وغير المألوفة. بل أضافت إلى اهتمامها بالطبقات الدنيا والمتوسطة خاصة أخرى، هي كشف جوانب السوء والشر في النفس الإنسانية، فصورت المجتمعات والنفوس المترفة فريسة للفساد، وللغرائز الحيوانية ..”(6)
وفي ختام هذا العرض الموجز الكاشف عن أبعاد الكلمات الموجهة لمحتوى هذه الدراسة عن روايات صبحي فحماوي؛ ننبه إلى ملاحظة مستمدة من قراءتنا لمسارات الإبداع الأدبي، واختلاف مدارسه، وأساليبه: فقد لاحظنا وجود نوع من التلازم بين (القلق) عند الفرد أو عند الجماعة، وطرح موضوع الهوية على مائدة البحث العلمي، أو اتخاذها (الهوية) ركيزة لتفسير سلوكيات بعض شخصيات الرواية (البطل غالبا أو دائماً في روايات فحماوي) فإذا كان المعنى السائد والمستقر (ثقافياً) أن الهوية موضوعها (الانتماء) وأنها بتمامها حين يحمل الفرد أو تحمل الجماعة ملامحها الأساسية، وقضاياها التاريخية، وتواجه متغيرات الزمن متمسكة بهذه الملامح وتلك السلوكيات، فإن الأمم المستقرة التي لا تواجه تحديات تهدد كيانها، أو تهجن خصوصيتها، لا تجد ضرورة في طرح هذا الموضوع بمستواه الأدبي، أو الفلسفي خارج قاعات البحث . أما فنون الرواية (والمسرح كذلك) فإنها لا تعطي الهوية الوطنية اهتماماً خاصاً، يمكن أن نتلمس هذا في روايات مثل: تشارلز ديكينز، الذي شغلته قضايا التطور الاجتماعي إلى العصر الصناعي، وما ترتب عليه من الصراع الطبقي ..إلخ. وإذا قرأنا مسرح شكسبير لن نجد فيه أثراً يعرض أو يناقش خصوصيات مجتمعه الإنجليزي، بدعوى أنها مستهدفة ومضيق عليها من مجتمعات أخرى.
أما في إبداعنا العربي الحديث، ربما في مجال الرواية خاصة، سنجد اتجاهات مختلفة في توصيف الهوية، وربطها بأهداف الشخصية أو الشخصيات في رواية بعينها، وفي كتاب “الواقعية في الرواية العربية” عرضت للرواية التاريخية في مصر خاصة، ورصدت اتجاهين متباعدين في محاولة اكتشاف الهوية المصرية ، من خلال الماضي أو تحفيز الاتجاه إليها من خلال الراهن. فبين كُتاب الرواية (التاريخية) من عني بإبراز طبائع العصر الفرعوني، وتمجيدها بعدّها الجذر الحقيقي والصريح (النقي) للمصريين, ومن كُتاب الرواية التاريخية من اتجه إلى التاريخ العربي، ممجداً أحداثه وشخصياته وبطولاته ليكشف عن جذور المجتمع المصري وطبائعه، كما يراه(7) . ومن الملاحظ أن موضوع الفرعونية والعربية كان مطروحاً بقوة في الثلث الثاني من القرن الماضي، حين كانت مصر على مفترق طريق التقدم والصحوة السياسية. أما الآن – في القرن الحادي والعشرين- وإلى هذا العام الذي نعيش، فإن موضوع الهوية لم يعد مطروحاً بين كُتاب مصر ، حتى وإن حاك في بعض الصدور . وهذا ما يقدم لنا دليلاً على أحد دوافع الروائي صبحي فحماوي في الاهتمام بموضوع الهوية، وهذا المنحى التجريبي الذي مارسه في مختلف رواياته، فكما سنرى أن هذه الروايات جميعاً تنتهي إلى محاولة اكتشاف أفق لفلسطين، ولأبناء فلسطين العرب في داخل وطنهم المحتل، وفي دول الشتات التي يعانون ممارسة الحياة فيها دون أن يتخلوا، أو يتغافلوا عن ذكر وطنهم، والانتماء إليه .
وقبل أن نبدأ الرصد والتحليل لتجليات الهوية في روايات فحماوي، نضيف ملاحظتين:
الملاحظة الأولى : أننا لن نعرض لروايات فحماوي بترتيب صدورها، لأن طرح الهوية والبحث فيها أو عنها، لم يأخذ شكلاً أو تقسيماً معداً سلفاً، بمعنى أنه لم يفكر فيه بطريقة تجريدية (فيما نتصور) وإنما كان عنصر الحكاية (أو القصة في داخل الرواية) وما تستدعي أو تقوم عليه من شخصيات هو الذي يجلب معه تجليات الهوية، المحكومة بسياق السرد، وطبائع الشخصيات .
الملاحظة الثانية : أن تعدد المستويات، أو الاتجاهات في طرح “الهوية” لا يعني أن الكاتب اختلط عليه الأمر، أو تراجع عن بعض مقولاته، فقد رصد الظاهرة على كافة مستوياتها – زمناً وواقعاً- فهذا التعدد يدخل في نطاق استكمال وسائل الدفاع في القضية الشاغلة للكاتب . ومن دأب الدفاع البحث في الأدلة، والغوص وراء الغامض، وتساند البراهين، واستيعاب الأزمنة .
* * *
ثانيا : “الهوية” في مركز الرؤية من الجهات الأربع :
كما عرفنا سابقاً، فإن صبحي فحماوي أنتج عشر روايات، تستقل كل منها بنسق التشكيل، وخصوصية الشخصيات، واختلاف المكان، وسياق الزمن وملامحه، ولا يعني هذا خلو هذه الروايات من تكرار بعض المعاني أو المعالم، فهذا متوقع بفعل تسلط بعض الثوابت على فكر الكاتب، وتمازجها بتجربته المباشرة، وحنينه الثابت إليها، ويقينه بقيمتها الرمزية، كما سنرى في مكان آخر (8).
وكما هو مقرر في كلاسيكيات فن الرواية، فإن العناصر الأساسية المكونة لهيكل البناء الفني، تهيمن عليها أربعة : الشخصية، والزمان، والمكان، والحدث، وقد استخدم الكاتب هذه العناصر، محققاً الوفاء للفن الروائي بإشباع أركانه المؤسسة، ومحققاً الجِدة، والابتكار في كل عمل على حدة، فاكتسب شخصيته وإيقاعه (وفلسفته) المميزة، في حين احتفظ كل عمل بنصيبه من طرح الهوية، كما يتراءى للكاتب من منظور الزاوية التي يطل منها على الموضوع الفلسطيني، وهو الشاغل الأساسي، بل الوحيد، والعنصر المشترك بين هذه الروايات العشر. ومن الممكن أن نجد الكاتب (فحماوي) ماثلا في بعض هذه الروايات بملامحه، وطبائعه التي نعرفها، ومن الممكن أن نجد تعديلاً في الصورة، وبخاصة حين تؤدي أدواراً مختلفة، ولكننا غالباً سنلقي بانتباهنا إلى (الآخر) المقابل أو النقيض أو المختلف عن شخصية الراوي/فحماوي الذي نعرفه .
أما هذه الاتجاهات الأربعة التي أطللنا من زواياها على الركيزة (الهوية) فقد صنعها عنصرا الزمان والمكان خاصة ، والحدث تابعاً للعنصرين السابقين. ويمكن أن نقول – باختصار- إن عنصر الزمن تحرك بين الماضي السحيق، وتجلياته، والزمن الآتي واحتمالاته. وبالنسبة للمكان؛ اختلفت المواقع محكومة بفعل الزمن ما بين داخل فلسطين، وعلى مشارفها ، فهذه أقسام أربعة باستطاعتها أن تتيح رؤية أكثر وضوحاً لمعنى الهوية (الفلسطينية) ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، كما تتراءى للكاتب وتجلت في رواياته (أو بعضها) – كما سنرى .
الاتجاه الأول : كنعان : الأرضية الصلبة .. والحضور المتجدد :
تحمل الرواية الرابعة عنوان : “قصة عشق كنعانية” فنفاجأ بهذا التحديد الذي يمزج بين التاريخ والأسطورة في الإشارة إلى “كنعان” ، والكنعانيون هم : الفلسطينيون القدماء الذين واجهوا الغزو اليهودي لبلادهم ، وقد كانت الحرب سجالاً ، وهذا ما ذكره (العهد القديم) إلى أن تمكن اليهود بقيادة داوود، ثم ابنه سليمان من إقامة مملكة أورشليم(9) . ومن المعروف تاريخياً أن هذه المملكة انقسمت أولاً ، ثم انهارت ، وحين فتح أبو عبيدة بن الجراح (عام 15هجرية – 636 ميلادية) الشام وفلسطين، كانت القدس تحمل اسم إيلياء ، وهذا ما نصت عليه (العهدة العمرية) ، ولم يكن بها يهود تقريباً .
وقبل أن نتمهل عند هذه الرواية الرابعة، سنجد لكنعان ذكراً في الإهداء الذي تصدّر روايته الأولى (عذبة-2005)، وهو العتبة الثالثة، بعد لوحة الغلاف والعنوان ، ونصه : “إلى عمي عبد الرحمن الحسن، الذي بقي هناك تحت شجرة البلوط الكنعانية العملاقة”(10). وسيتردد وصف شجرة البلوط الكنعانية العملاقة غير مرة (ص48 ، 52) والرواية تعرض للكفاح الفلسطيني إبان زمن الانتداب البريطاني على فلسطين، أعقاب نهاية الحرب العالمية الأولى . ذلك الانتداب الذي مارس التمكين لليهود المهاجرين إلى فلسطين ، والتضييق على أهل البلاد من العرب، مما استدعى قيام جماعات مقاومة مختلفة، منها : تلك الجماعة التي قادها أبو درة ، وكان من مجاهديها عم الكاتب، الذي جرى إعدامه ورفاقه، ودفنهم تحت تلك الشجرة الكنعانية العتيقة .
ستكون لنا مع رواية “عذبة” وقفة تستحقها، فهي تمثل “روعة الاستهلال” الروائي عند هذا الكاتب، و”جوف الفرا” الذي يحتوي في باطنه كل أنواع الصيد(11) . أما كنعان الذي حظي بعناية فائقة في رواية ” قصة عشق كنعانية”، فقد وجدنا لذكره أصداء في روايات تالية، كما في رواية “الأرملة السوداء” إشارة إلى (ربة الطهر الكنعانية عناة) (الرواية/ ص135) وفي رواية “على باب الهوى” وصف هاني بعل بأنه أمازيغي(الرواية/ ص134) والأمازيغ -حسب رؤية الكاتب – كنعانيون ينحدرون من هذا الجد الذي يمثل الأرومة العربية !! وفي رواية “سروال بلقيس” يذكر أبو رزق حامل الخيمة بما فيها على كاهله، أنه مثل الراعي الغريب شمشون الجبار، الذي أغلقوا عليه باب مملكة غزة الكنعانية !! (الرواية/ ص74) . أما في رواية “صديقتي اليهودية” فيذكر هاني بعل (الرواية/ ص192) وكنعان، ويتردد الوصف بكنعاني في الصفحات (58،69،125) . وفي رواية “قاع البلد” آخر الروايات التي قرأناها للكاتب، يعبر عن المسيح بأنه المسيح الكنعاني (الرواية/ ص29، 32، 37)
وإذاً فإن الصعود بالانتماء الفلسطيني – أرضا وبشراً – إلى كنعان ، شاغل لصبحي فحماوي قبل روايته ” قصة عشق كنعانية” وبعدها كذلك . وهذا الشغف بذكر كنعان، وإقحامه لأدنى ملابسة – كما يقول التعبير التراثي- بل مجافاته لمألوف التعبير، وآدابه في وصف المسيح بأنه كنعاني (كما لا يجوز أن يعبر عن محمد – صلى الله عليه وسلم) بأنه : محمد القرشي، أو السامي !! فإنه – على صدقه – ليس مما يليق بذكر الأنبياء . وخلاصة هذا كله أن عوامل ضاغطة – فيما نرجح – كانت تمارس تأثيرها على وجدان الكاتب ومشاعره، وأول هذه العوامل : اعتزاء (إسرائيل) إلى أصلها السامي، وتمسكها بانتمائها العرقي للنبي يعقوب (= إسرائيل) ، فلم يكن أمام الكاتب بديلاً إلا أن يواجه “الدعوى” بنظيرها ، بل بمن يسبقها ويتفوق عليها . فكنعان – على تعدد التعليلات – جد قديم للعرب، بل للبشرية، قد يكون اسم ابن نوح، الذي أغرقه الطوفان، أو كنعان بن حام بن نوح !! وسواء كان هذا أو ذاك، فإنه بالنسبة إلى إسرائيل أسبق في الزمن ، وأقوى في الانتساب إلى الأنبياء !! وربما تأثر فحماوي بما يبدو أحياناً من شغف بعض المصريين بالانتساب إلى الفراعنة ، والفخر بزمانهم وأمجادهم، وشغف أهل الساحل اللبناني بفينيقيا، والاعتزاء إليهم، وتعداد هجراتهم إلى الشرق (في اتجاه عمان) وإلى الغرب (في اتجاه تونس) … ومع أن ” أرض فلسطين” – بما يعيش عليها من بشر – من حقها أن تعتزي إلى العرب القدماء الفاتحين، فإن صبحي فحماوي لم يفعل ذلك، ربما خجلاً من الواقع العربي المتخلف حضارياً، والمتشرذم قومياً . ومن ثم كان (اكتشافه) لـ(كنعان) الذي جعله أباً للفلسطينيين، بل أباً لكل شعوب الشرق العربي، وامتداداته، كما سنرى .
لقد تضمنت رواية ” قصة عشق كنعانية” كل ما جنح إليه هوى المؤلف من أمجاد أراد أن يسبغها على جد الفلسطينيين، وجد كل شعوب المنطقة ، ومكوّن أخلاقها، وأفكارها، وآدابها . وقد تصدرت الرواية ثلاث عتبات : العنوان؛ الذي ينص على كنعان، وصفاً لقصة عشق ، ويبدو أنه عشق المؤلف نفسه لهذه المرحلة من تاريخ فلسطين ، أما العتبة الثانية فهي من عدة اقتباسات لأقوال حكماء ومفكرين، تشير إلى أن : “الأمم مثل: الروايات تفقد جذورها في خضم الزمان وأساطيره، ولا تستعيد أفقها إلا في الخيال”- ومثل: ” يحتاج التاريخ الفلسطيني أيضا إلى أن يخلق لنفسه فضاءً، حتى يتمكن من إنتاج روايته الخاصة للماضي، وبهذا يساعد على استعادة أصوات السكان الأصليين ، التي تم إسكاتها في خضم اختلاق إسرائيل القديمة”. وأخيراً: ” إننا نجد في الخيال حياة حقيقية أكثر واقعية مما يسميه الناس العالم الحقيقي” ..
هذا بعض أو أهم ما نبهت إليه تلك العتبة الثانية – في صدر الرواية – عن فلسفتها ودوافعها – في هذا الترحل العكسي، إلى زمن الأسطورة ، وما قبل التاريخ .
أما العتبة الثالثة: الإهداء؛ فقد أهدى الكاتب روايته إلى ولده عمر (الذي اكتشف كهف عناة ، المتوّج بالكنعانيات، نافرات النهود، كقطوف عنب النبيذ الناضجة) .
لقد أشار الكاتب في صدر روايته إلى مخطوطات ، وإلى اكتشاف كهف يحمل ملامح الزمن الكنعاني ، وهذه المخطوطات – كما يدل الهامش ص26- في حوزة دائرة الآثار الكنعانية الفينيقية الفلسطينية – وهذه المخطوطات تحمل هذا التاريخ الأسطوري، الذي حرص الكاتب على بسطه، والتعريف بشخصياته الإلهية والبشرية، وصراعاته الدينية والسياسية ليؤكد – في النهاية – أن الزمن الكنعاني الذي عرض له، كان الشعب الذي يعيش على أرض فلسطين ، رغم انقساماته وصراعاته، قد وصل إلى مبدأ التوحيد، وإلى مستوى من الفكر والتهذيب، يعد راقياً جداً. كما نجد أصداء لملحمة جلجامش (الرواية/ ص61) ، وقد نكتشف علاقة قوية بين الوصايا الكنعانية السبع (الرواية/ ص80)، ووصايا المسيح، ومن قبلهما : وصايا ما عُرف عند المصريين المعاصرين: بـ”كتاب الموتى”(12) .
الاتجاه الثاني : هل يحمل التقدم العلمي الحل الأمثل للشتات الفلسطيني ؟
هذه الفقرة التي تحاول بسط ما يمكن عده (الاتجاه المعاكس) للاتجاه الأول الماثل في الكشف عن الأصول الأسطورية التاريخية لأرض فلسطين وأهلها، المنتسبين إلى كنعان- تبحث عن الحل النقيض في التقدم العلمي الذي تقوم دلائل كثيرة على أنه ينطوي – بالنسبة للبشرية، وللكرة الأرضية – على احتمال أحد المصيرين: القضاء على مستقبل الأرض ومن عليها، أو تطوير آليات الحياة البشرية بحيث تتسع الأرض لكل من عليها حالياً ومستقبلاً . وهذا الاتجاه يأخذ مداه الكامل في رواية “الإسكندرية 2050” (صدرت 2009) ونمهد لعرض وتحليل ما طرحته الرواية من تصورات بثلاث مقدمات :
- أن رواية “الإسكندرية 2050” تنتمي إلى نوع رواية (الخيال العلمي) وهذا النوع من الروايات له تجليات عديدة قد نشير إلى أهمها . وروايات الخيال العلمي ارتبطت بتقدم العلم التجريبي، وما هو ماثل من تجارب العلماء في مجالات عدة، من أهمها : علم الفيزياء، وعلم الوراثة .
- أن هذه الرواية انفردت من بين روايات فحماوي بصدور كتاب عن : “الخيال العلمي” فيها، قامت مادته على جمع إحدى عشرة دراسة نقدية عرضت لها من مستويات مختلفة(13) وأهم هذه الدراسات وأقواها صلة بالأساس العلمي لفن هذا النوع من الروايات، دراسة بعنوان : “رواية المستقبل والخيال العلمي: الإسكندرية 2050 نموذجاً ” شارك بها المؤلف نفسه في مؤتمر للرواية العربية بالقاهرة – عام 2010 . غير أنه – على الرغم من أنه المؤلف العالم ببواطن الأمور، وما تعنيه ظلال الكلمات، والإشارات – لم يعط أهمية للقضية التي نبرزها في هذا الفصل، وهي أن هذه الرواية – على الرغم من جوها الواقعي التسجيلي المرح – قد انطوت على أمنية غامضة متسربة في أن يحمل مستقبل التطور العلمي العالمي حلا ممكنا (يرضي جميع الأطراف، ويقضي على جميع المشكلات الراهنة المعقدة، على المستوى القطري والعالمي) .
- أنه سبق لي أن عرضت لهذه الرواية في دراسة تحليلية تقدمت بها إلى “الملتقى الدولي السابع للإبداع الروائي العربي”، المقام بالقاهرة (أبريل 2019) تحت عنوان : “الرواية في عصر المعلومات” وكانت مشاركتي تحت عنوان : “الإسكندرية 2050 : سبيكة مموهة من البينيات” . وكانت الفقرة الأولى من هذه البينيات عن : أحداث الرواية بين التسجيل الوثائقي، والخيال العلمي . وهو ما يعنينا في هذه الدراسة، ونتوسع فيه للكشف عن وجه من أوجه القلق في البحث عن الهوية، وتلمسها فيما يقدم العلم من تحولات واختراعات يحاول بها أن يتغلب على مشكلات لا حل لها على مستوى الواقع الراهن .
إن الطابع العام لمسار هذه الرواية عن مستقبل الإسكندرية، يغلب عليه : طابع المذكرات والذكريات (زمن ستينيات القرن الماضي)، وفي مساحته الغالبة يرصد وقائع حياة الشاب الفلسطيني (مشهور شاهر الشهري) الذي غادر المخيم الفلسطيني على مشارف طولكرم (إحدى المدن التي بقيت بحوزة الفلسطينيين، فيما يطلق عليه الضفة الغربية من أرض فلسطين التاريخية) ليدرس بجامعة الإسكندرية، ويصف الشاب “مشهور” حياته وممارساته فيها، ويصور من طبائع أهلها ما يؤكد أصالة موهبته في رسم الأشخاص وتمييز الطبائع والتقاط زوايا الرؤية الدالة، والتفطن للفروق وما وراءها … إلخ . غير أنه – في عتبات النص ، وفي أثنائه – يؤصل لقانون من قوانين الحياة الطبيعية والوجود الإنساني، وهو “التحول” – فلا شيء يبقى على حاله، مادام الزمن يتحرك، والأجيال تتعاقب، والبشر تفنى وتتكاثر، والأرض – بمساحتها الثابتة – تضيق! فبدءاً من عنوان الرواية نستشعر هذا التحول الذي يأخذ صيغة التوقع بما ستكون عليه المدينة الجميلة بعد أربعين عاماً من تاريخ صدور الرواية . كما يتأكد التحول في العتبة الثانية التي تقوم على اقتباسات من مصادر مختلفة أسطورية وشعرية، إذ تحولت الجميلة مورا إلى شجرة وارفة الظلال، خرج الوليد أدونيس من جذعها (أوفيد). كما يعبر جبران خليل جبران عن حلم مستحيل، يستطيع الإنسان أن يعيش فيه على عبير الأرض، فيكتفي بالنور كالنبات، ويشعر الاقتباس عن النيل بسلبية التحول، وتتأكد هذه السلبية بالإعلان – بعبارة هسّه : إن العالم يريد أن يجدد نفسه !!
كل هذه الاقتباسات السابقة، التي سنجد لها ما يتراسل معها في سياق فصول الرواية، تؤكد على أن “التحول”، و”التجدد” أمل إنساني مستقر في الوجدان الجمعي للبشرية، يسكن عقول العلماء، ويشكل مناهج بحوثهم، بعد أن استقر – عبر عصور متمادية- في الأساطير، وفي المدن الفاضلة.. وغيرها(14) .
هذه إذاً سوابق الخيال الإنساني، ولعبه بصور الكائنات، وفي السياق سيضيف إليها بعض ما سجلته ليالي ألف ليلة، عن طاقية الإخفاء، وعن بساط الريح، غير أن الكاتب لا يبرز هذه الشطحات التي لعب بها الخيال، بقدر ما يبرز ما يمكن أن يُعد من الحقائق العلمية، والنظريات التي تجري تجاربها في المعامل، كما تكشف عنها عدسات المجهر، ويستحيل إدراكها بالعين المجردة . وهكذا نكون على أعتاب تجربة الابن “برهان” الذي أنجبه “مشهور” فتمكن من تحسين ظروف عمله، بعد تخرجه في جامعة الإسكندرية، بأن أرسل ابنه للدراسة بألمانيا، وقد تزوج “برهان” الذي يعمل في مراكز أبحاث الوراثة، وبجهده والفريق المشارك له من العلماء، يصل إلى دمج الخلية الحيوانية/البشرية بالخلية النباتية، فيكون الناتج كائناً بشرياً/نباتياً، أطلق عليه: (الإنسان الأخضر) الذي يجمع بين قامة الإنسان وشكله وعقله، وبين التحرر من سطوة الطعام، اكتفاءً بالبديل الماثل في : الضوء، والماء، والهواء .
يذكر “برهان” في الثلث الأخير من الرواية، أن الأديان لم تفلح، ولا الأمم غير المتحدة أفلحت في زراعة المحبة بين الناس، وفي تقليم أظافر النهش والقتل والتدمير، والاستيلاء على الآخرين . ثم يقرر : نحن نقوم بالمهمة . الوراثة تقوم الآن بتحويل جينات الإنسان والحيوان القائمة على الاعتداء على الآخر، إلى جينات محبة للآخر، وتقوم بإطالة عمر الإنسان وكل الكائنات الحية لتغيير فلسفة الحياة، وتحويل الصراع إلى التناغم والتكامل . نحن نسعى لخلق الجنة على الأرض . الآن تختفي أمامنا مقولة : إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب . ونستبدل بعبارة : “الإنسان مفكر مبدع جميل، وفنان محب، ورفيق إخوانه: الإنسان والحيوان والنبات” !! (الرواية/ 224 ، 225) .
ويبذل الكاتب جهداً في تمكين فكرة اتحاد الخلية الحيوانية/الإنسانية، بالخلية النباتية، مستفيداً من خبرته العلمية المعملية، في دراسته بكلية الزراعة، وفي علاقته العلمية العملية بالنبات في الحدائق التي يحترف تخطيطها وتنسيقها . ويطيل التمهل عند هذه الفكرة المؤسسة لمفهوم تحول الكون إلى خضرة (الرواية/ ص41). وكشأن الباحث العلمي التجريبي يردد أثناء عملية التحضير: هل تنجح عملية التحضير هذه فيسيطر الحيوان الأخضر على هذا الكون الحيواني المتوحش؟، هل نشاهد مرحلة انتقالية جديدة، بعد الإنسان الأول الذي تحضر، فانتقل إلى مرحلة الإنسان الثاني، وها هو بعد أن توحشت حضارته، ودمرت الأرض، نراه يتشكل بتكوينه الأخضر، فنشهد مرحلة (الإنسان الثالث الأخضر) كما نشهد هذا الكون المتحول إلى الخضرة (الرواية/ص40 ، 41) . وفي سياق هذا الطرح التمهيدي لتقبل نظريته في التحول، ينسب ما حدث في أرض فلسطين إلى “التحول”!!، إذ استُبدل بالفلسطينيين العرب غرباء اقتحموها من بقاع الأرض كافة، ويرى “مشهور” أن هذا الاستبدال نوع من “التعديل الوراثي” (الرواية/ ص43) حتى وإن زعم الغاصبون أن الرب هو الذي وعد بإعطائهم أرضا كنعانية ليست لهم، ولغة كنعانية ليست لهم، وهيكلاً كنعانيا ليس لهم، ونجمة كنعانية ليست لهم(15) .
والآن نصل إلى “برهان” وهو يشرح بحثه المتطور بقلم الكاتب : يقول برهان محدثا والده مشهور، ممهداً لموضوعه :” لقد تطورت أبحاثنا الوراثية يا أبي، فبعد أن نجح العلماء الأوائل في دمج خلية نباتية مع خلية حيوانية، وأنتجوا منهما أول خلية لحيوان أخضر، تابعنا بعده تطوير أبحاث الحيوان الأخضر” (الرواية/ ص54) .
وفي مكان آخر سنرى الحفيد الأخضر “كنعان” يحتضن كلباً أخضر، صغير الحجم، ويلبس ملابس شفافة، مصممة بلباقة لاستقبال أشعة الشمس لإجراء عملية التمثيل الكلوروفيلي (الرواية/ ص84) .
ويكون رد فعل الجدّ (مشهور) على رؤية حفيده كنعان، الرضا عن تحوله، وقده الأخضر الممشوق، وشعره الذي يبدو كعشب نجيل أخضر، وفي وجهه وجسده لمعة وطراوة أوراق البرتقال وخضرتها . وهنا يأتي ذكر فلسطين (وطن البرتقال) التي احتفظ بها كنعان، كما يمكن إضفاء روائح أخرى فلسطينية كذلك، مثل :الزيتون، والسنديان. وفي هذا السياق يتكلم الحفيد كنعان مع جده باللغة العربية، وتظهر جوانب معرفته بوطنه الأصلي، ليؤكد الكاتب من خلال هذا المشهد أن هذا التحول لم يقطع الهوية التي ظلت متصلة، وإن تجسدت في رائحة البرتقال، وفي اتجاه المعرفة العامة .
سيحرص الكاتب على تسجيل خصوصية الأخضر وسلوكياته (الرواية/ ص88)، ووصف صديقته أو فتاته النباتية مثله (الرواية/ ص290) ، مع الحرص على تسجيل الشكل والإمكانات وتجميل هذا التحول، بحيث يبدو موضع الرضا والاقتناع بالجدوى، وأملا لمن يتوق إلى الخلاص من عالم الصراع والفتك .
وهنا نصل إلى جوهر ما يمكن أن نعدّه رسالة الكاتب، أو أمنيته المتخيلة، المعلقة بضمير العلم والعلماء في اتجاه تخليص أرض فلسطين وشعبها من تلك الكبوة اللعينة التي تعجز عن حلها قدرات البشر عبر قرن كامل .
يجري حوار بين الأب (مشهور) وولده (برهان) فيقول الأب : “نحن الفلسطينيين الذين كنا محرومين من الوطن، نحاول تفسير عقدنا الوطنية بالعمل الدؤوب والإبداع يعوضنا جزئياً عن مرارة التهجير. فمن المخيم خرجت إلى القاهرة، ومن دبي أرسلتك إلى ألمانيا، وها أنت تصنع المعجزات، وتساهم في تغيير الحياة على الأرض، وها هو كنعان يفكر بأنسنة – وليس غزو- الفضاء، كما يقول . هذه الإبداعات الطموحة تعوضنا قليلاً عن الحرمان. فيقول برهان بتفاؤل : ” ها قد انتهى عصر التمييز العنصري في عكا، وحيفا، ويافا بعد تنفيذ حق العودة المطلق للفلسطينيين، وانتهت معاداة السامية بالاعتراف بأن العرب المسلمين والمسيحيين وقدامى اليهود هم ساميون، ومتساوون في الحقوق والواجبات دون تمييز عرقي أو ديني، وتم قبول ولايتنا على أنها جزء لا يتجزأ من اتحاد الولايات العربية. وصارت ولايتنا بعد هذا الاتحاد واحة أمان حرة لكل الأديان السماوية بلا تمييز، الذي يعتبر إنجازاً تاريخيا يحسب لهؤلاء العربان، الذين كانوا في القرون الأخيرة لا في العير ولا في النفير ” (الرواية/ص124 ، 125) .
هذه هي النتيجة الافتراضية (الإيجابية) التي سجلها (مشهور) كثمرة متوقعة لسيادة الإنسان الأخضر على العالم، أما تطلعه إلى تكوين (اتحاد الولايات العربية) الذي يضم ولاية فلسطين، بجملة سكانها العرب والإسرائيليين، فهو (حلم سياسي) تطلع إليه الأديب الصحافي المصري (فكري أباظة باشا) عقب إعلان قيام ” الجمهورية العربية المتحدة” بإقليميها: السوري والمصري، وقد سجله في افتتاحية مجلة (المصور) المصرية، فعزله الرئيس جمال عبد الناصر عن جميع مناصبه، عدة اشهر ، ثم أعاده بعد أن اعتذر عن اقتراح هذا الحل، الذي لم تعلنه القيادة السياسية (الناصرية) .
وخلاصة هذه الرؤية الاستشرافية أنها ستصل بالبشرية – حين يسود الإنسان الثالث : الأخضر – إلى عالم هو جنة على الأرض، طعامه في شمسه وهوائه ومائه، فهو عالم بلا تحديات ، بلا مشكلات، بلا أزمات ، وإذا كان ثمة مشكلة عند كنعان – كنموذج للإنسان الأخضر، أنه لا يستخدم كثيراً أجهزته التقليدية كالجهاز الهضمي، ولا يستخدم رئتيه للتنفس. أما جسده فيقوم بالتمثيل الكلوروفيلي؛ إذا يستهلك ثاني أكسيد الكربون، ويفرز الأكسجين الذي يستهلكه جسده، ومن ثم يستطيع الإنسان الأخضر أن يبني بيوته تحت الماء، فيحصل على النقاء والاتساع والسلام في ذات الوقت .
هذه رؤية استكشافية، تجمع بين مبادئ علمية مقررة ومجربة ، وأمنيات حالمة، وشطحات تبدو مستحيلة ، غير أنها تحاول أن تبني من هذا المزيج الملون بالمقولات العلمية والنظريات المقررة ، عالماً جديداً ، أو جنة دنيوية خالية من الصراع والتنافس والاستعلاء ، بسقوط الأسباب المؤدية إلى هذه الآفات القاتلة. وفي ظلالها سيحصل الفلسطينيون في المنافي على (واجب العودة) وليس (حق العودة).
على أن هذه العودة إلى فلسطين عن طريق التحول بقوة العلم، سبقتها دعوة أخرى لعودة اللاجئين والمهجرين إلى وطنهم، على مراحل متدرجة حتى يكتمل عقدهم في أرضهم، وهذا التصور إحدى شطحات (عنان) الذي هاجر إلى بلاد النفط زمن شبابه، وحمل جنسيتها، فشغل منصباً مرموقاً، ولكن تجاوزاً غير مقصود جرده من العمل ثم من الجنسية، فأصبح لزاماً عليه أن يتذكر أصله الفلسطيني، وأن يتخذ إجراءً يعيده إلى فلسطين، ولكن ما السبيل وجدار الفصل العنصري حاجز يصعب اجتيازه لفرد، ومن المحال أن تتسرب من خلاله عائلة؟! هنا يأتي الاقتراح/الشطحة: يقول الراوي (عماد المنذر) في رواية عذبة :” صار عنان يفكر في العودة من جديد، ولكن كيف يعود؟ فكل السبل مسدودة؛ والجدار العازل حول فلسطين مقوى من الجانبين! وحتى لو عاد هو فماذا ..؟ فكر في الجيل القادم وسألني ذات صباح: ما رأيك يا عماد لو زوجنا كل أولادنا وبناتنا إلى بنات وأولاد أهلنا في الأرض المحتلة؟ ما رأيك بشبابنا وصبايانا المنزرعات بمنازلهن في حيفا ويافا والجليل والقدس؟ ما رأيك في أن يلتقي الشباب والشابات على سنة الله ورسوله بالأحضان، فيتزوجون و… كنت أنا أول المؤيدين لهذه الفكرة الحتمية ..العودة إلى فلسطين عريساً أو عروساً، ولم لا ؟ ألست أنا أقدم من انتظر حبيبته “عذبة” منذ أكثر من خمسة وأربعين سنة؟ فكر عنان كثيراً بالأمر وقال لي : سأبحث لهم هناك، وسأزوجهم داخل فلسطين48، ليعيشوا فيها ويخلفوا أبناءً وبناتاً داخل الوطن”!!
فهذا حل (مستقبلي) آخر، قد يبدو أقل غرابة من التحول العلمي للخلية، ولكنه ليس دونها واقعية، وامكاناً للتحقق !!
تعليق في منتصف الطريق :
سبقت الإشارة إلى أن الكاتب الذي لم يغادر الموضوع الفلسطيني، كان يضع بين عينيه جوهر قضية وطنه السليب، وما يعاني أهله من محن، ما بين الاعتقال داخل الوطن، والشتات خارجه !! كما سبقت الإشارة إلى أن عناصر بناء الرواية: الزمان، والمكان، والشخصية، والحدث. هذه أمور مستقرة بكونها تمثل (الهيكل العظمي للرواية) .. أية رواية !! وقد اعتمد القسمان السابقان على عنصر الزمن، إذ عاد أولهما إلى الماضي السحيق، يكشف عن كنعان ويمجده ، ويظهر أثره العميق على حضارات العالم ، وكأنما يتلمس الروائي عنده (تذكرة عبور) إلى العصر وإلى فلسطين خاصة، مانحاً أهلها العرب حقهم التاريخي الموروث . واستشرف ثانيهما الزمن الآتي، فضرب في المجهول حتى رصد التحولات الممكنة، فاختار من بينها ما يعيد تشكيل هوية الإنسان، وعلاقته بسائر العناصر والكائنات . فكان الخيال العلمي الذي أوصله إلى الإنسان الأخضر (الثالث) الذي اعتنق البراءة، وتحرر من كل أدران الحضارة، حتى وإن كان كيانه يعتمد على أحد منجزات تلك الحضارة !! ومن ثم لم يعد – في عنصر الزمن – غير الزمن الراهن أو القريب، وهنا يتجلى العنصران الآخران من خلال الشخصيات والمكان . وإذا كان المكان (الجغرافي) محدداً بأرض فلسطين، وهي المرتكز، لتتوالى دوائر الأماكن قرباً وبعداً عنها، جغرافياً أو تأثيراً ؛ فإن الشخصيات لن تذهب بعيداً عن هذه القسمة ذاتها، فشخصيات الرواية يحتل فيها الإنسان الفلسطيني مركز الدائرة، ومن بعده تختلف النسب والاتجاهات ما بين العرب الأقربين (مكاناً أو نسباً) وغير العرب بمن فيهم أولئك الذين اغتصبوا أرض فلسطين، وأكرهوا جانباً من أهلها على مغادرتها قسراً، بطرق مختلفة .
الاتجاه الثالث : حلم الصحوة القومية :
هناك عبارات مأثورة متداولة بين أبناء فلسطين (جيل 1948– وشهرته: جيل النكبة) ؛ فعلى الرغم من أن خطة دولة الانتداب البريطاني على أرض فلسطين ، وإعانتها للصهيونية العالمية كانت واضحة ولا يُختلف علي ما يتوقع منها، فإن أهل فلسطين قد تجمعوا، وتسلحوا في حدود قدراتهم الهزيلة ، ودون فرض تنظيم صارم يحمي الحقوق ويتصدى للموجة العاتية، بمقاومة متكافئة مع الفعل ذاته . وقد أدرك اليهود نقاط الضعف في الوجدان العربي، فأمعنوا في الإعلان عن الفظائع التي يرتكبونها إذا استولوا على موقع، لتكون النتيجة : رحيل المواقع التالية، تفادياً لهذه الفظائع، وبخاصة ما يتعلق بالنساء، وشرف البنات والزوجات !! وفي هذا السياق تتردد العبارة المأثورة وهي أن قادة الجيوش العربية التي اجتازت حدود فلسطين منتصف ليل 15 مايو 1948 هم الذين أغروا المقاتلين وكافة أبناء فلسطين بالرحيل عنها، ليتاح للجيوش أن تقاتل العدو الصهيوني (دون رهائن) !! وليس في مقدورنا ولا يطلب منا أن نستوثق من صحة هذا القول ، أما ما ترتب على النزوح فإنه أدى إلى تسليم الكثير من المواقع للأعداء دون قتال، وهذا جعل من مهمة الجيوش العربية عملاً شاقاً، وبخاصة مع ضعف التدريب، وهوان التسليح.
مع هذا فإن عرب فلسطين الذين نزحوا عنها لم يكن أمامهم – مرحلياً- غير النزول في مخيمات اتخذت لها مكاناً، فيما بقي من أرض فلسطين، أو في المناطق المجاورة لها . لقد عنيت روايات فحماوي برصد هذه الفترة الزمنية، بكل ما تنطوي عليه من ضياع، وعناء ، وقهر ، وشعور بالغربة والعجز، واختفاء أسباب الرزق وسبل التعليم. لقد صور صبحي فحماوي هذه الجوانب ، لا نبالغ إذا قلنا إنها حاضرة في كل رواياته، وإن اختلفت مساحة الاهتمام، ومدى تجذرها في موضوع الرواية . وسنعرض لبعض صور هذه المعاناة على فظاعتها، وما أكسبت – من وجه آخر- الفلسطيني: المرأة خاصة – من طاقة مقاومة الضياع، والدفاع عن كيان الأسرة بما يستدعي من الاحتيال على مصادر الرزق، وتدبير طرق لتعليم الأطفال، وتدبير بدائل وظيفية وثقافية .. إلخ .
وقد اخترنا عنواناً لهذه الفقرة “حلم الصحوة القومية”، فالمعروف أن أرض فلسطين كانت الأكثر سخاءً، وأهلها الأكثر ثراءً وتقدماً من بين أقاليم الشام، ولهذا كان يرحل إلى بلادهم الكثير من جيرانهم في لبنان وسورية خاصة، وهؤلاء الجيران هم الذين تبنوا الحلم القومي قبل غيرهم، ولكن بفعل النكبة أصبح أهل فلسطين (النازحون) الأكثر تعلقاً بحلم الصحوة القومية ، بعدّها أحد المفاتيح المهمة لولوج المستقبل، سواءٌ بطرد اليهود من فلسطين، أو بحملهم حملاً على قبول حق العودة للنازحين . سيعاني الحلم القومي موجات من الصعود والهبوط ما بين الثورة المصرية(1952)، والوحدة المصرية السورية، والانفصال، وثورة اليمن، والنكسة(1967) .. إلخ . غير أن عوامل إحباط هذا الحلم القومي كانت أكثر تأثيراً ومثولاً من عوامل استلهامه والعمل بمقتضاه لدى الفلسطينيين. فلا يغفل صبحي فحماوي عوامل الإحباط والتفرقة بين الفلسطينيين أنفسهم في معاملة جيران فلسطين لهم، الذين حملوا منذ البدء صفة “لاجئ” ، ومنحوا بطاقات، وكما تقول الرواية الأولى : “عذبة” – ص77 : ” إن وكالة الغوث أعطت المئونة والغوث لللاجئين أهل المدن وأهل القرى، وحرمت منه البدو؛ إذ قالوا يومها : لم يكن للبدو ارض يفقدونها، فهم رعاة متنقلون في مرج ابن عامر، وصحراء النقب، وبئر السبع وغيرها، ولذلك فهم غير متضررين من الهجرة !!” والمفارقة المحزنة حقاً أن هؤلاء البدو، الذين وصفوا بأنهم لم تكن لهم أرض يفقدونها كانوا الأكثر تضرراً، لأن هذه المناطق ذاتها – المتاحة والمباحة لهم سابقاً : مرج ابن عامر .. إلخ . أصبحت بيد الدولة اليهودية، التي لن تأذن لهؤلاء البدو بالإقامة بها ! هذه التفرقة التي مارستها وكالة الغوث، لم تكن بعيدة عن أساليب أخرى للتفرقة مارستها الدول العربية المجاورة لفلسطين والبعيدة عنها على السواء، وهكذا أصبح يمكن أن يقال : “أنت وطني ولا لاجئ؟”(16) . وفي رواية “حرمتان ومحرم” يصطدم اللاجئ المسافر للعمل في بلاد النفط، بدرجة من الجفاء والاستهانة تجعله يرى أن (العربي على العربي مثل الشحم على النار)!!(17) . كما يُحبس الفلسطينيون في الحافلة انتظاراً لقدوم السفينة، فلا يؤذن لهم بالتريض خارجها، ويسمعون بآذانهم هذه العبارات : (انتم عرب جرب وغير حضاريين)(18) … (بلا مؤاخذة معظمكم فلسطينيون، وغير مسموح لكم بالنزول على سطح القمر، أسف على سطح الأرض، خوفاً من التسلل والهروب إلى داخل البلاد)(19) .
لا نجد ضرورة للاستمرار في رصد مظاهر الهوان والمعاناة، التي عاشها اللاجئون في المخيمات، وفي محاولة التوطن في دول الجوار(العربية)، وإن كان من الضروري أن ننبه إلى أحداث (صابرا وشاتيلا وتل الزعتر)، وأحداث أيلول الأسود، ولسنا بصدد تحديد من الجاني، ومن الضحية . فقد كانت النتيجة لا تذهب بعيداً عن انعدام الثقة في القومية العربية، وفيما يمكن أن يعلق عليها من حل مستقبلي، سواء كان هذا الحل يقوم على الاندماج الكامل في المجتمعات العربية القريبة، أو استخلاص حق العودة إلى ارض فلسطين .
في رواية “الإسكندرية 2050” رفض بعض المصريين ما يبدو من تحمس للقومية، بدعوى أن المصريين أصولهم فرعونية، وليسوا عرباً(20). والطريف أن يبذل الكاتب جهداً في إثبات أن العرب مصريون (!!) . مع أن المطلوب هو إثبات أن المصريين يعودون إلى جذور عربية، فاضت على جنبات الهلال الخصيب، مهاجرة من عمق الجزيرة السخية بأبنائها، الفقيرة بمواردها !!
ومن الإنصاف للكاتب وقدرته على تحليل الشريحة المنتقاة، التي يجري عليها تجربة الرواية – أن نذكر إلى جوار ما يعاني اللاجئون في المخيمات من أنواع الجوع، والهوان، وقسوة المعاملة من الأجهزة الشرطية (العربية)، ومن موظفي وكالة الغوث على السواء – يذكر وجوهاً مختلفة لمعاناة المواطن العربي، المستقر في بلده (لم يهاجر) المحكوم ببني جلدته – من فساد أجهزة السلطة وقسوتها وتعسفها، بطلب الرشوة، وتزوير الاتهامات، فضلا عن معاناة ما يتعرض له انتقال العربي عن قطره إلى قطر آخر عربي كذلك ، والحواجز التي توضع أمامه لكي لا يتقارب مع غيره من أهل البلاد، أو يحاول الاندماج معهم، ولو بالمصاهرة، أو المشاركة التجارية. فإذا كانت رواية “سروال بلقيس” قد جسدت أشد درجات الهوان التي عاشها المهجرون اللاجئون في المخيمات، فإن رواية “على باب الهوى” كشفت الوجه الآخر للمعاناة؛ المعاناة المزدوجة للفلسطينيين، ولأهل البلاد أنفسهم . كما يمكن أن نشير إلى أن رواية “الإسكندرية 2050” قد صورت معاناة مشهور شاهر الشهري إبان طفولته وصباه في المخيم، على مشارف طولكرم، وكيف استقبله المواطن المصري بكثير من التعاطف والألفة، حتى اختفى لديه تماماً الشعور بالغربة – رغم اختلاف الطبائع، وكانت دراسته بجامعة الإسكندرية الباب الذي فتح له طريق الحياة المتطلعة القوية، التي ترتب عليها كل ما تمتع به من حضور إنساني، وسعادة شخصية .
الاتجاه الرابع : الفلسطينيون : إعادة الاعتبار
هذا الاتجاه الأخير في محاولة الكشف عن الهوية، لإنفاذ الحق، وإنقاذ الشعب الذي أُجبر على مغادرة وطنه، قد تأخر إبرازه كعنصر مؤسس في تأكيد الهوية، والتطلع إلى انتصار القضية في الروايات التي عرضنا لها. ولا يعني هذا أن الكاتب كان غافلاً عن أهمية هذا العنصر الفلسطيني، فهو الأساس المنطقي والفاعل المنتظر، والمرتجى مهما تعددت الرؤى. غير أن كاتب الرواية – أي كاتب لأية رواية – يكتبها (لأجل فلسطين)، وليس (للفلسطينيينِ)، من ثم اتجه الخطاب، وانطلقت الرؤية تجوب الجهات، ما بين الماضي والآتي، والدائرة الأوسع (القومية) لتستقر عند موطئ القدم (فلسطين) وهذا أمر مألوف في الطباع البشرية، والاستطاعة البدنية، فالنظر تحت الأقدام هو آخر ما نستطلع في كل ما نبحث عنه .
الفلسطينيون حاضرون في جميع الروايات، وهذا طبيعي ومتوقع، ولكن من الطبيعي المتوقع كذلك أن تختلف مستويات التداخل، ودرجات تركيز الضوء، والشعور بالأهمية (على الأقل لدى المتلقي) وطبائع ونماذج الشخصيات المختارة . وإذ تتعدد الانفعالات والعواطف التي تسعى هذه الروايات (العشر) إلى إثارتها في وجدان متلقيها؛ فإنها لابد أن تختلف موضوعياً ويختلف موقع الشخصيات الفلسطينية فيها التي قد تنحصر في شخصية الراوي وحده، (كما في رواية “صديقتي اليهودية”) أو يبدو الدور الفلسطيني تكميلياً، وكأنه ليس المقصود الأساسي في عمود الرواية؛ كما نجد في “الاسكندرية2050” .
ونبدأ بملاحظة عامة، وخلاصتها أن النماذج الشقية التي تعاني القهر السياسي، والقلق المجتمعي، والعوَز المادي، هي الأكثر حضوراً في هذه الروايات العشر . وملاحظة أخرى: أن الكاتب حاول – قدر الاستطاعة- أن يتحرر، وأن يحرر شخصياته، من الطابع الغنائي التمجيدي للشخصية التي ينتمي إليها (الشخصية الفلسطينية) وإن كان هذا –كما سنرى في التعليق الأخير– لم يستكمل كافة الجوانب السلبية، التي يمكن أن تعلل للمأساة، وأن تكشف عن مكر التدبير (الصهيوني) وضعف التقدير (العربي) بالمقابل.
في رواية “عذبة” نلاحظ – فيما يتعلق بالهوية- أمرين : الأول : أن مفتتح الرواية يصور حركة جماعات من شهداء المجاهدين، منهم عم الكاتب نفسه الذي أهدى إليه الرواية، والآخر، وهو الأهم، ما ترمز إليه “عذبة” في ذاتها، فهي الفتاة الجميلة، التي لا يتأثر جمالها بمضي الزمن، “عذبة” إنساناً تعادل قرية “أم الزينات” مكاناً، التي لم تغادر وجدان الراوي، ومن أجلها غامر برحلته مجتازاً حدود فلسطين المحتلة، ليلقى “عذبة” بعد أعوام طوال من الفراق لم تغادر ذاكرته، ولا ذكرياته ، وكان يعتقد بيقين أنها لا تزال كما تركها. ومن ثم كانت الرحلة (الغريبة) . ولعل عماد المنذر (الراوية) يعيد الآن النظر في الحكم الأخلاقي والسياسي بين الذين غادروا أرض فلسطين، نجاة بأنفسهم(أو حرصاً على أعراضهم) فتسلمهم الشتات، وعاشوا على هامش الأحلام والتمني، وبين من يطلق عليهم الآن (الصامدون) وهم الذين تلقوا صدمة البقاء والخضوع، إلى أن أعيد تكييف المواقف والامكانات، فتغيرت الموازين . هكذا يراجع عماد المنذر حسابات الماضي وعباراته المتداولة الساخرة، التي تدخل في التهاجي المألوف بين أقاليم الوطن الواحد ، فيقول في نفسه : “أهلا شباب الرينة، كل عشرة منكم بقُطينة”! لكن ثبت يا عذبة أن شباب الرينة أحسن منا، ولا أعرف كيف تحايلوا على احتلال فلسطين! وكيف استطاعوا أن يبقوا، رغم القتل والذبح، الذي لم يسلم منه شاب! ورغم الإرهاب والتشريد، الذي لم يسلم منه عجوز أو طفل فلسطيني… قد تكون حمتهم دخانيس ومغارات غابات الجليل في تلك المجازر، وحنت عليهم، فاختبأوا بين ثناياها”(21) . هكذا – أخيراً – استرد فلسطينيو الداخل كرامتهم التي أهدرت زمناً طويلاً، ونزعت عنهم الثقة العربية دون حساسية أو إعادة نظر، وكما نعرف، فإن شاعرين عظيمين مثل : محمود درويش وزميله سميح القاسم قد قدما للقضية الفلسطينية، ودافعا عن بني جلدتهم أضعاف ما صنع أولئك الذين تملكهم الذعر، أو أغرتهم الأماني، فكان تفريغ المكان من أهله جزءاً من البلية التي لحقت بفلسطين(22).
هذه الإشارة (الجزئية) – في رواية “عذبة” – تكررت في روايات أخرى، ولعلها بلغت مداها في آخر رواية مما بين أيدينا (قاع البلد)، وفيها النموذج العكسي؛ أي الذي يتمرد على اللجوء، ويقرر اقتحام الأسلاك الشائكة، والعودة إلى ما بقي من عائلته الكبيرة المحاصرة في أرض الوطن .
هذا رد اعتبار مهم، بالنسبة للفلسطينيين، الذين جرى العرف (المكتسب) بتسميتهم (الصامدون)، بعد أن طالتهم تهمة الخيانة والعمالة زمناً ليس بالقصير .
أما فلسطينيو الشتات، فقد اختلفت مواقفهم من قضية الوطن الكبرى، حسب مواقعهم في الغربة، ما بين الأقطار العربية، والهجرة إلى أوروبا أو أمريكا، وقد عنيت الروايات بالإشارة الدالة – وإن تكن عابرة، إلى المهاجرين في دول الغرب . ففي رواية ” الأرملة السوداء” سافر لبيب إلى البرازيل، وفي رواية “حرمتان ومحرم” سافر غازي إلى أمريكا للدراسة، ورفض العودة إلى قطاع غزة ، وفي رواية “على باب الهوى” يشير إلى العرب الأمريكان، ويذكر أن خمسة ونصف في المائة من علماء الولايات المتحدة أصلهم من عرب فلسطين(ص135) .
لقد صور النماذج الشقية بكل ما تعاني من قسوة، وشظف، وفقر، ولكنه بالمقابل صور الثري الفلسطيني الانتهازي (سائد الشواوي) الذي أثرى بدرجة تفوق الحصر، حصر الثروة، مع أنه تحول من “ولد ساقط سادس ابتدائي إلى ملياردير”(23) . وكانت لمسة لغوية تحليلية بارعة: أن مرض هذا السائد الشواوي هو نقص المناعة، كما جعل هذا الشواوي يهذي في غيبوبته باستعادة صور من ماضيه المحروم .
وفي رواية “سروال بلقيس” تنقلب العبارة العربية المتداولة إلى (الأرض أغلى من العرض) !!(24) . ولم يترفق الكاتب – في جملة تصويره للمجتمعات الفلسطينية المستقطبة – بالصورة التي يقدمها إلى المتلقي عن حياة المهاجرين الفلسطينيين في مهاجرهم المؤقتة (المخيمات) وسكناهم حول المدن العربية . ففي رواية “قاع البلد” حيث تستولي روح “مقاومة الفناء” على الجميع، نجد التنافس في انتزاع فرص العمل، ومحاولات هجرة الرجال إلى الخليج، بحثاً عن فرصة للعيش واتساع الرزق، بما يترتب على ذلك من ترك الزوجات وحيدات في مواجهة الشبع المادي، والجوع الإنساني! كما نجد الانحرافات الأخلاقية والسلوكية، مثل الشيخ لهلوب المزواج (ص167)، ومثل تلك المرأة التي تمارس البغاء في أتعس صوره (ص95) . على أن رواية “قاع البلد” وفي ليلتها العاشرة؛ أي الليلة الأخيرة تنتهي بالمظاهرات التي تسد الشوارع، والإشارة إلي (معركة الكرامة) التي تركت أثراً إيجابياً في التصور العربي العام تجاه الفلسطينيين، في الضفة الغربية وفي غزة وغيرها ..
وبوجه عام .. يمكن القول إن الشخصية الفلسطينية كانت موضع عطف الكاتب الفلسطيني، وهذا طبيعي ومتوقع، ولعله يناسب مراحل مواجهة المواقف الصعبة، كاستهداف العدو المسلح لبسطاء الناس من الفلاحين المسالمين، الذين انصاعوا لنصائح زعمائهم (وبعض الزعامات العربية) فنجوا بأنفسهم ليتجرعوا كأس المر في المخيمات القريبة، كما في المنافي البعيدة. ولكن هذا العطف أو التعاطف من الكاتب لم يكن على إطلاقه؛ فالفلسطينيون – في وطنهم (فلسطين)أو خارجه- على مشارفه في المخيمات، أو بعيداً حيث المنافي ومواطن الغربة- هم بشر من البشر، تتحقق فيهم كافة الطبائع، حتى رأينا كبير الشرطة (أبو شرين) يقسو على بني جلدته، ويكرههم على الاعتراف بما لم يرتكبوا، ويتقبل الرشاوى، ويكرههم على أدائها، ولكن بالمقابل عايشنا تجربة شاهر مشهور الشهري في (الإسكندرية2050) وهو يهبط إلى الإسكندرية وحيداً غريباً، فيتألف القلوب، ويفوز بالصداقات، ويحصل على البكالوريوس، ويضرب في الأرض، فيعمل في دبي، ويرسل ولده برهان للدراسة في ألمانيا، ليتزوج برهان – بدوره – ألمانية، تشاركه بحوثه في تحويل الخلية الحيوانية إلى بشرية حيوانية نباتية !! وبصرف النظر عن مدى إقناع هذا التحول لذائقة المتلقي وعقله؛ فإن هذا الفتى القادم من المخيم، الصاعد إلى ألمانيا، المتطلع إلى التفرّد العلمي باباً لحل مشكلة انتسابه إلى العالم المعاصر، يكاد يكون هو الصورة النمطية بالفعل أو بالتطلع – وليس بالتمني – لشباب فلسطين في المخيمات وخارجها .. إلى اليوم .
تعقيب .. خاتمة المطاف :
لا نتطلع – في خاتمة المطاف- أن يكون ما قدمناه عن هذه الروايات العشر، تحليلاً نقدياً، يكشف عما شكل هيكلها، ولون أسلوبها أو أساليبها بجماليات اللغة، وأصول فنون السرد؛ لأننا في هذا التناول عنينا بقضية ” الهوية” – لم نتجاوزها إلا تحت ضغط الضرورة السياقية . “الهوية” علامة وجود، وشرط تحقق الكيان، وضمان الاستمرار . وإذا كان الأمر يتعلق بالهوية ” الثقافية” تحديداً؛ فإن الثقافة ماثلة في كل ما يسلك الفرد، أو يقول أو يعتقد، أو يعمل ، بما يجعل من الهوية الثقافية صفة ملازمة، نابعة من تجربة الوجود المتحققة في الزمان والمكان بذاتها . وقد استمدت هذه الدراسة مشروعية العناية بروايات فحماوي، في جملتها وتفصيلاتها، لأن كل رواية من هذه الروايات العشر تنبثق في وجدان الكاتب من حس وطني شعبي تاريخي، مشغول بفلسطين . ولا تثريب عليه في ذلك، فقد عانى مرارة الرحيل عن الوطن، ومعايشة الاغتراب والغربة وهو في نعومة أظفاره، ولأنه يملك من الوعي الإنساني الفطري، والتطلع الوطني، والتمسك بالهوية الثقافية … ما يحمله حملاً، بالفطرة، على أن تأتي رواياته في نطاق إبراز تلك الهوية الثقافية عند قطاعات أو شرائح أو طبقات أو أفراد من بني وطنه، في مستقرهم التاريخي: فلسطين، أو في منافيهم على امتداد جهات العالم. ولقد حاول الكاتب بالفعل أن يضع كل هذه المحاور أو الدوائر المتداخلة، تحت ضوء “التحليل الفني”/السيكولوجي. ولهذا تراجعت نبرة ” الغنائية”، والنزوع إلى تمجيد الوطن، وإعلاء كافة فعاله إلى الحد المقبول في مثل ظروف الكتابة التي يمارسها صبحي فحماوي، وإن كان هذا لا يعني – بالضرورة – أنه : (قال كل شيء)!! . فهذه عبارة مغامرة، لا يصح لناقد أن يتوكأ عليها فيما يحاول من اكتشاف ثغرات أو نقاط ظليلة، فيما قدم الكاتب المعني بالقضية، لأن الفن – كما هو معروف – رؤية، وجهة نظر، إطلالة شخصية على موضوع أو قضية،تحاول أن تبدو موضوعية في تجاوز هوية الكاتب، إلى هوية المكتوبين، أو المكتوب عنهم، أو المروي لهم، حسب مركز الثقل في رؤية الكاتب .
لقد رحل الأستاذ صبحي فحماوي إلى أعماق التاريخ، تاريخ المكان (الفلسطيني) ليرصد أحداثاً، وصراعات تكشف عن تجذر الشخصية الفلسطينية (سلالة كنعان) في المكان ذاته، الذي تحاول الدولة اليهودية أن تغير مسماه، بادعاء اكتشاف طبقات (جيولوجية) سكانية قديمة، صارعت من أجل استخلاصه، أو اغتصابه في الحقيقة !! وذلك في رواية “قصة عشق كنعانية”، كما لجأ إلى النقيض، أو الوجه المقابل، بالرحيل إلى الزمن الآتي، واستشرافه في “الإسكندرية 2050″ . ومن الوجهة الفنية الخالصة، نرى أن الرحيل إلى الزمن الآتي في الإسكندرية كان أكثر توفيقاً، فنياً، من الرحيل إلى الزمن الماضي، وبخاصة أنه : الماضي الأسطوري، حتى وإن حملته بعض المخطوطات أو الحفريات، ربما لرتابة أحداث ” قصة عشق كنعانية” الذي انعكس على اصطناع الحبكة، ووضوح التدبير (الفني) في رسم أحداثها. وهذا النوع من الحبكة قد يصلح لصناعة مسرحية (مثلما نجد في مسرحية “الملك أوديب” المتكررة لدى عديد من مؤلفيها القدماء، والمحدثين، والمعاصرين) أما الرواية فتحتاج إلى أمور أكثر تعقيداً، وعمقاً، وبخاصة في مجال بواطن الشخصيات، وما تخفيه، وما تدبره تجاه الآخرين من خصومها!!
ويبقى لدينا تعليق على ما عدّه الكاتب حلاً علمياً لقضية فلسطين وصراع العرب واليهود على أرضها . لقد رأى الكاتب في رحلته إلى الزمن الآتي، أن الحل العلمي (المتخيل) يأتي في أثناء اكتشاف مركب جديد للخلية، يتحد فيه العنصر الحيواني مع العنصر النباتي، وبذلك – في رأيه – تتراجع دوافع الصراع، وتختفي العداوات؛ إذ تختفي حالات الاحتياج، وحالات الاهتياج – على السواء. ولكن: على افتراض أن تحويل الخلية ممكن بعد حين طويل أو قصير. هل من المحتم أن يوصل هذا التحويل إلى الحل الذي ارتآه برهان، وكانت ثمرته ولده كنعان؟! إن هذا الإنسان(الثالث) الأخضر، صناعة علمية ألمانية، وإن شارك فيها عنصر بشري شرقي عربي، من ثم يظل هذا التقدم العلمي، كما تراه الرواية – إنجازاً غربياً ، وبالقياس إلى ما هو مألوف من الغرب: أليس من المُحتمل أن يضن هذا الإنسان المتحول على أهل العالم المتخلف، من أمثال مَن اغتصبت بلادهم، فخرجوا منها، ومن التهم البحر نصف أرضهم، فعجزوا عن حمايتها، ألا يجوز أن هذا الإنسان المتحول يضن علينا بمشاركته نعمة التحول؟! حتى لا نتساوى معه؟ وبذلك يشق قطاع من البشر طريقه إلى مستقبل جديد (متحول) يجني خيرات هذا التحول لنفسه ويترك تلك الجماعات البشرية المتخلفة، على صورتها الراهنة، تصارع من أجل أن تحصل على أنفاسها، وقوت يومها، وكأنها في حديقة حيوان، أو متحف جيولوجي خارج الحساب الزمني، والتطور؟ قد يبدو هذا الاحتمال الآخر قاتماً ومتشائماً، ولكنه ليس بمستغرب في مجال الخيال العلمي، وبخاصة أن الحيوان بفصائله المختلفة ينطوي على غريزة افتراس القوي للضعيف، وحتى في مجال النبات، فإن الأشجار المعمرة الضخمة ترسل عروقها لتمتص ما استطاعت من غذاء الأرض، ومن المياه الجوفية، ولا يعنيها أن تموت النباتات الهزيلة المتهالكة، فالمعنى المستخلص (المتشائم) يضع احتمال أن يسفر التحول إلى الإنسان الأخضر عن إمكان مزيد من العزلة والتخلف للجماعات البشرية الضعيفة أو المستضعفة – في مختلف أنحاء العالم .
لقد تمسك الفلسطيني بهويته الوطنية، وثقافته المميزة، الماثلة في موروثه من العادات والسلوكيات والأمثال والآداب .. إلخ . وحملها معه أينما حلّ، وتقبل كل ما يمكن أن يواجه من هوان أو صعوبة أو حتى اضطهاد بسبب هذا الانتساب الصريح إلى فلسطين، ولقد مضت على هذا أجيال، ما بين عام النكبة(1948) وإلى يومنا هذا، ونستطيع أن نجد هذا المعنى ماثلا في مختلف الروايات، بأساليب وأعمال وتضحيات تناسب موضوع الرواية، وطبائع الشخصيات ومستواها النفسي والعلمي والمادي. غير أن رواية “حرمتان ومحرم” قد بدأت بغير ما انتهت إليه – ولعل هذه الرواية الوحيدة دون غيرها التي تبدأ من قطاع غزة بجغرافيته وحدوده وامكاناته المضيق عليها. ففي رواية “حرمتان ومحرم” تتخرج الفتاتان(تغريد وماجدة) بشهادة تربوية متوسطة، فلا تجدان عملاً في القطاع، من ثم تتطلعان إلى العمل في بلاد النفط، وبالفعل تجدان عملاً بالتعاقد، شريطة وجود “محرم” بصحبتهما!! ولأن الفتاتين لم تساعد ظروف أي منهما على الزواج الذي لا يرحب به الأهل، لأنه سيؤدي إلى استهلاك المرتب الذي تحتاجه الأسرة في القطاع – وهكذا عقد للفتاتين كزوجتين– ضرتين– ظاهريا على الكهل (أبو مهيوب) خبير البستنة في القطاع، الذي لا يجد ما يمنع من صحبة الفتاتين كغطاء لشرط العمل في بلد النفط الشهير!! غير أن الظروف المتطورة، والحاجات الإنسانية تحول الزواج الشكلي الظاهري إلى زواج حقيقي، بما ترتب عليه من الانقطاع عن الأهل في غزة، وحجب أو تقليل المعونة المادية المرسلة إلى أسرتي الفتاتين، بما يعني أن هذه الهوية الفلسطينية تواجه شيئاً من احتمالات (التجميد) في مقابل استقرار مرحلي للحياة الشخصية، ومواجهة نتائج الاغتراب الفلسطيني في أقطار عربية تفرض شروطاً يصعب تحققها على من يقيم بها، وإن تكن الإقامة مؤقتة .
وأخيراً .. فإذا كان صبحي فحماوي قد حاول – دون أن يقصد إلى ذلك – أن يقدم لقارئ الرواية العربية مسحاً شاملاً لقضية وطنه الفلسطيني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، في أهم توجهاته وطبائعه وممارساته، فإن رواياته قد حملت هذه الرسالة بكثير من دقة التحليل، وأمانة التصوير، ورشاقة التعبير، وشمول الرؤية في امتدادها: الزماني والمكاني، ومع هذا تبقى مساحات شاغرة، ليس من حق النقد، أو الناقد أن يشير إليها، (إلا إذا رضي لنفسه موقع مفتش الفصل،وهو يراجع دفاتر تحضير المدرسين لدروسهم).
فعلى سبيل المثال، تبرز خطوط الهجرة الفلسطينية إلى العالم الخارجي، العربي، والغربي، والأمريكي، مساحة مهمة في حاضر القضية، ومآلاتها المحتملة مستقبلاً، كما أن قطاع غزة، وما يمثله (راهناً) من انشقاق، وما أدى إليه هذا الانشقاق من خلخلة وضع الضفة، كان ولا يزال يحتاج إلى متابعة فنية، وبصيرة نافذة مثل تلك التي يملكها صبحي فحماوي، ورأينا تجلياتها في رواياته المتتابعة، ونذكر أخيراً ببعض ما أشار إليه المثقف الفلسطيني عارف باشا العارف في كتابه:”النكبة”، فقد سجل بالأسماء والمساحات: كيف “تصرف” بعض ملاك الأراضي الفلسطينيين، وبعض الشركات الأجنبية، التي كانت تملك أراض زراعية في فلسطين، كيف تصرف هؤلاء وأولئك في ممتلكاتهم، مما قوى قبضة اليهود الوافدين على الأرض، وأضعف من قدرات المناضلين الفلسطينيين في الدفاع عن أراضيهم التي استماتوا في سبيل الحفاظ عليها .
وكذلك مرت أحداث عنيفة ودموية، بالنسبة للزعامات الفلسطينية خاصة، فإلى اليوم يعد موت (ياسر عرفات) لغزاً يحتاج إلى تجسيد فني، وحل يمكن قبوله، ليلائم معطيات الراهن المترهل للوجود العربي، والمأزوم للوجود الفلسطيني، فضلا عن أولئك القياديين الذين رأينا تحولاتهم الغامضة، ومصارعهم الفاجعة.. إلخ . وبالطبع لا نملك أن نطالب صبحي فحماوي بأن ينهض وحده لأداء هذا الواجب الفني، وكل ما أردنا أن نسجله في نهاية هذا الفصل أن موضوع فلسطين يتجاوز قدرات الكاتب.. أي كاتب، وأنه لا تزال المساحات الشاغرة فيه تحتاج إلى من يمتشق قلمه، ويبدأ من جديد !!
***
الهوامش والمصادر
- ينظر في ختام رواية (قاع البلد) ما أضيف تحت عنوان : “صبحي فحماوي سيرة ذاتية” ، وفي هذه الصفحات تعريف بأهم المؤلفات التي عُنيت برواياته ، وتعداد لما نال من عضوية اتحادات الكتاب العرب ، وما حصل عليه من جوائز .. إلخ .
- الدكتور حسن حنفي – الهوية – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة – 2012 – ص9،10 .
- هذه ترجمة للاقتباس الآتي :
Identity : an individual’s sense of self defined by (a) a set of physical, psychological, and interpersonal characteristics that is not wholly shared with any other person and (b) a range of affiliations (e.g., ethnicity) and social roles. Identity involves a sense of continuity, or the feeling that one is the same person today that one was yesterday or last year (despite physical or other changes). Such a sense is derived from one’s body sensations; one’s body image; and the feeling that one’s memories, goals, values, expectations, and beliefs belong to the self. Also called personal identity.
ينظر : https://dictionary.apa.org/
- هذه ترجمة لنص ما جاء بالموسوعة البريطانية :
Empiricism: In philosophy [it is] the view that all concepts originate in experience, that all concepts are about or applicable to things that can be experienced, or that all rationally acceptable beliefs or propositions are justifiable or knowable only through experience. This broad definition accords with the derivation of the term empiricism from the ancient Greek word empeiria, “experience.” Concepts are said to be “a posteriori” (Latin: “from the latter”) if they can be applied only on the basis of experience, and they are called “a priori” (“from the former”) if they can be applied independently of experience. Beliefs or propositions are said to be a posteriori if they are knowable only on the basis of experience and a priori if they are knowable independently of experience. Thus, empiricism is the view that all concepts, or all rationally acceptable beliefs or propositions, are a posteriori rather than a priori.
ينظر : www.britannica.com
- ينظر كتاب “الواقعية في الرواية العربية” – محمد حسن عبدالله – الهيئة المصرية العامة للكتاب – طبعة ثانية – ص190 وما بعدها . ومن كُتاب الرواية الفرعونية: عادل كامل، ونجيب محفوظ، وفي الاتجاه العربي : محمد فريد أبو حديد، وعلي الجارم.. وغيرهما .
- الدكتور محمد غنيمي هلال – النقد الأدبي الحديث – دار النهضة العربية – القاهرة 1969– ط4 – ص330 . وفي هذا السياق يذكر غنيمي هلال إميل زولا ومذهبه الطبيعي المعتمد على التجربة الأدبية، ودعوته إلى أن الكاتب يجب أن يسلك في دراسته الفنية للمجتمع مسلك العالم في معمله، والطبيب في تجاربه، على أن تتفق تجاربه – في قصته أو مسرحيته، مع النتائج والنظريات التي انتهى إليها العلماء . ولإميل زولا كتاب عنوانه : “القصة التجريبية” Le Roman Experimental – المصدر نفسه – ص331 ، والهامش بذات الصفحة .
- المرجع السابق – ص516 .
- نقرب الفكرة التي نشير إليها ، فيما نلاحظ من حرصه على ذكر (عكا) في عدد من رواياته. هذا بالنسبة للأماكن ، وحرصه على استخدام الكثير من الأمثال العامية الفلسطينية، والتعبيرات الشائعة في الأوساط الشعبية .
- أورشليم هي التسمية اليهودية لمدينة القدس (حالياً)، وكانت في العصر السابق على الغزو اليهودي لها تسمى (يبوس)، وفي زمن الفتح الإسلامي كانت تسمى إيلياء، ولم تكن يهودية وليس بها يهود. وقد جاء في سفر القضاة : “وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوها بحد السيف، وأشعلوا المدينة بالنار، وبعد ذلك نزل بنو يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل والجنوب والسهل، وسار يهوذا على الكنعانيين الساكنين في حبرون ” – سفر القضاة – الإصحاح الأول.
- رواية عذبة – دار الفارابي – بيروت – 2005 – ص52 .
- جاء في مجمع الأمثال، للميداني : (كل الصيد في جوف الفرا) قال ابن السكيت : الفرا الحمار الوحشي، ومعنى العبارة : أن صيد الحمار الوحشي أمكن وأكثر فائدة من أي صيد آخر .
- العنوان المسجل على ما عُرف عند المعنيين بالتاريخ المصري القديم بكتاب الموتى؛ هو : “الخروج إلى النهار” – ينظر” كتاب الموتى للمصريين القدماء” – تحقيق وترجمة : محسن لطفي السيد عن النص المصري القديم إلى العربية وإلى الإنجليزية – الهيئة العامة لقصور الثقافة – سلسلة الذخائر – القاهرة 2009 .
- عنوان الكتاب :”الخيال العلمي في رواية صبحي فحماوي : الإسكندرية 2050″ – دار جليس الزمان – الأردن – 2018 . قام بجمع المقالات الدكتورة ماجدة صلاح.
- نكتفي بما اجتزأنا من أمثلة التحول، وفي سياق الرواية سيشير الكاتب إلى آدم وحواء ، وإلى من عدهما قادمين من كوكب آخر، تعطلت مركبتهما؛ الرواية ص27 ، ويعود إلى الاقتباس من جبران ص41، 85 ، كما يشير ص122 إلى تفكير الفراعنة في تعديل صور الكائنات من خلال الهندسة الوراثية؛ بأن جمع أبو الهول بين جسد الأسد ورأس الإنسان . ونضيف إلى هذا المثل (الفني) ما صورته الأساطير الإغريقية عن القنطور: جسد الحصان ورأس الإنسان !!
- يضيف الكاتب في هامش ص43 من الرواية، نصاً مقتبساً من الكتاب المقدس: العهد القديم؛ يقول : “الرب يعطيك مدناً عظيمة جيدة لم تبنها، وبيوتا مملوءة كل خير لم تملأها، وآباراً محفورة لم تحفرها، وكروم زيتون لم تغرسها، وأكلت وشبعت”. وقد سيطرت هذه الصياغة على ما كتبه المؤلف منسوباً إلى رب إسرائيل. وجدير بالذكر هنا ما سجله روجيه جارودي في كتاب “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية” من أن الوعد الإلهي لإبراهيم بحسب المأثور في سفر التكوين، وقد نقل مرات عديدة وبأشكال مختلفة، كان ينطبق على ما يعرف بالضفة الغربية (حالياً). ويرى عديد من الباحثين، أن هذه الوعود قُصد بها إضفاء الشرعية بعد الأحداث وليس قبلها، كما أن الوعد بالأرض، بمعنى الوعد بالاستقرار، وهو موجه إلى البدو الرحل الطامحين للاستقرار،وليس بقصد الغزو السياسي أو العسكري . (ونظراً لأن القبائل الإسرائيلية لم تتوحد إلا بعد استيطانها في فلسطين، فإن إعادة تفسير وعد الرّحل، يصبح وعداً بالسيادة السياسية قد تمت بعد الأحداث … “وهكذا فإننا لسنا في حل من التأكيد على أنه في فترة ما من فترات التاريخ، ظهر الرب أمام شخصية تاريخية تسمى إبراهيم، وإنه قد منحه الصكوك الشرعية لامتلاك أرض كنعان . ومن الناحية القانونية، فإننا لا نملك أي صك للهبة موقعة من “الله” ، بل ولدينا من الأسباب القوية ما يجعلنا نفكر في أن المنظر الوارد في سفر التكوين 12 – 1/8 ،13 – 14/18 على سبيل المثال، لا يعكس حادثة تاريخية ) .
ينظر من المرجع السابق الصفحات : 36 ، 38 ، 39 .
- رواية “عذبة” – مصدر سابق – ص182 ، 201 .
- رواية “حرمتان ومحرم” – دار الهلال – بمصر– 2007- ص123 .
- المصدر السابق – ص124 .
- المصدر السابق – ص128 .
- رواية : “الإسكندرية 2050”– دار الفارابي – بيروت – 2009 – ص276.
- رواية عذبة – ص29 .
- نذّكر فيما يتعلق بقضية النزوح عن فلسطين، بقصيدة سميح القاسم، بعنوان : “إليك هناك حيث تموت”، وهذه القصيدة تعليق على رسالة بعث بها فلسطيني غادر الأرض المحتلة، وعاش في بيروت، إلى صديقه الذي آثر البقاء تحت القهر العنصري، يغريه بالمغادرة إيثاراً للراحة وطلبا للعلم والثراء، والتعليق يندد بكل مغريات النزوح في مقابل التمسك بالأرض، وتأكيد الحق العربي فيها. ينظر نص القصيدة والتعليق في كتاب “فنون الأدب” لمحمد حسن عبدالله – دار الكتب الثقافية – الكويت – ط ثانية – 1978 – ص84 – 90 .
- رواية “الحب في زمن العولمة” – دار الهلال – بمصر – 2008 – ص20 .
- رواية ” سروال بلقيس” – مكتبة كل شيء – حيفا – 2014 – ص95 .