شجرة الليمون !! – 10 سبتمبر 2018

شجرة الليمون !! – 10 سبتمبر 2018

معزوفة على وتر الحنين
شجرة الليمون !!
ذات يوم من أيام صيف الكويت المنصهر ، كانت أسرتي الصغيرة سبقتني إلى القاهرة ، وبقيت لاستكمال تدريس الكورس الصيفي . كنا نقيم في شقة بشارع تونس (حولّي) في عمارة تستأجرها الجامعة ، وتؤثثها لسكنى شباب المدرسين ، شقة صغيرة أنيقة لا أخجل منها . ذلك اليوم قصدت الإذاعة (الكويتية) إلى مكتب الصديق عبدالله خلف التيلجي – رئيس القسم الأدبي ، كان يتوسط جلساء ترابيزة واسعة نسبيا ، وكان الحديث ثرثرة في موضوعات شتى ، أخذت مكاني بينهم . بعد قليل أدركت أنهم يتوقعون قدوم الأستاذ ثروة أباظة إلى مجلسهم !! أما المناسبة ، فقد كان لشاعرنا العظيم عزيز أباظة ما يشبه أن يكون عادة : أن يزور الكويت كل عام ، وينزل في ضيافة الأسرة الحاكمة (آل الصباح) ، وإن كان يقيم بغرفة في فندق هيلتون الكويت . حدث في هذه الزورة أن سقط الشاعر مريضاً ، فحُمل إلى مستشفى الهادي – وهو مستشفى خاص – لتلقي العلاج . طبيعي أن ثروت أباظة أحيط علماً بخبر مرض عمه ، وصهره ، ربما في نفس اليوم ، فما كان منه إلا أن حضر إلى الكويت على الفور ، فأقام في غرفة الهيلتون التي بقيت شاغرة لمرض نزيلها . من هنا كان تعليق المتحلقين حول الترابيزة ، لم يشارك عبدالله خلف في الكلام ، ولكن كان إجماع الباقين على خطأ ثروت أباظة في تصرفه ، فإذا كان عمه المريض يشغل غرفة في المستشفى ، فكيف يشغل غرفة أخرى باسمه في هيلتون ؟ أوجعني الكلام جداً ، وتألمت ، وعجزت عن التعليق . فقط شعرت بأن هؤلاء الأشخاص الذين أعرفهم ، وأعرف ثقافتهم ، لم يمارسوا بطريقة واعية فنون الضيافة ، وأدب مواجهة الأزمات . لزمت الصمت ، وبعد دقائق صمت الجميع ، ونهضوا لتحية ثروت أباظة ، الذي جلس ببساطة شديدة ، وكأنه يأخذ مكاناً على مصطبة في قرية الأباظية القديمة (قرية غزالة – محافظة الشرقية) ، وراح يتكلم ، والكل ينصت ، ثم غير الاتجاه فجأة ، وتطلع إلى الوجوه وقال : من منكم الذي سيحملني لزيارة عمي ؟ قبل أن يرد أحد قلت : أنا . تطلع إلى وجهي غير المعروف له . قال : ومن أنت ؟ قلت : ستعرف في السيارة ، وبالمناسبة على الرغم من أنني في الكويت في شهر يوليو ، فإن سيارتي ليست مكيفة . قال : موافق .. هيا بنا .
وسبقني بخطوة ، وكأنه يعرف الطريق إلى السيارة .
انتظر حتى تحركنا خارج الإذاعة ، ورمقني من تحت النظارة ، وسألني برفق : فمن أنت إذن ؟ أجبت باسمي الثلاثي ، فضرب بيده على يده الأخرى ، وقال بحدة : الله يخرب بيتك ، كنت هتقتلني !! أدركت مرامي كلمته على الفور ، فلم أهتز ، وقلت له مداعباً : يا سيدي لا تنزعج فإنني لم أنشر هذه الرسالة ، ولا أفكر في نشرها !! علق : لا ، بل انشرها ، فهذا يخدمني الآن (أي في زمن السادات) ، ومن ثروت عرفت أنه استمع إلى ما كان بيني وبين الدكتور القط في جلسة المناقشة من إذاعة البرنامج الثقافي (كان يدعى وقتها : البرنامج الثاني) الذي أذاع المناقشة كاملة ، وطبيعي أن الأستاذ أدرك خطورة تفسيري للرواية عند قطاع ضخم من المستمعين والرسميين المشبعين بحب عبد الناصر .
المهم أننا نزلنا أمام مستشفى الهادي ، وقام بزيارة عمه ، وشاركته للحظات ، وانتظرته إلى أن أخذنا أماكننا في السيارة ، وقلت له دون أن أشير أدنى إشارة إلى ما سمعته في الإذاعة : ما رأيك يا أستاذ ، أنا أقيم منفرداً في شقتي ، وأرحب بك مقيما معي . دون تمهل أجاب : موافق . قلت : بثلاثة شروط ؛ أنك ستنام في غرفة وائل ابني ، لأن غرفتي معي زوجتي لا ينام فيها غيري ، وأنك ستخدم نفسك ، فلا تقل في نفسك أنا ابن باشا وهذا ابن فلاح من واجبه أن يخدمني ، وأنني مشغول بإنهاء بحث ببليوجرافي عن صحافة الكويت ، ومشغول جدا فلا تعطلني . قال بوجه بشوش : موافق .. موافق .. موافق .
قصدنا الهيلتون ، فاحضر حقيبته ، وظننت أنه سلم المفتاح ، ولكن ذلك لم يكن صحيحاً ، فقد حضرت زوجة الباشا عزيز أباظة ، وابنته ، وهي زوجة الأستاذ ثروت ، وحلتا في الغرفة ذاتها ، أما هو فقد أصبح رفيقاً عزيزاً في شقتي الصغيرة.
أشهد أن إقامة ثروت أباظة معي ، في حدود شقتي ، كان فيها أخف من نسمة الربيع ، وكان شديد التهذيب ، وانصاع للتعليمات الثلاثة انصياعاً مطلقاً ، وبالطبع كنا نخرج معاً ونعود معاً ، وبقينا على هذا ثلاثة أيام ، انتهت بوفاة عزيز باشا في الكويت ، وإعداد جثمانه للسفر ، وطبيعي أن سافرت العائلة مع جثمانه في ذات الطائرة .
بالطبع ، لم تخل الأيام الثلاثة النادرة ، غير القابلة للتكرار ، من مداعبات ومناقشات ، مع استبعاد السياسة وعبد الناصر استبعاداً تاماً ، واذكر لثروت أباظة بساطته (المسرفة أحيانا) المعتمدة على صدقه مع نفسه ، ومع جميع الناس . ذات مرة قلت له : لماذا أنت منقوص الحظ عند أدباء مصر ؟ أعرف أن حولك شلة معينة ، ولكن جمهرة الشعراء والأدباء لا يودونك ؟ قال : مع أن أحداً لم يدافع عن مصالحهم كما دافعت عنهم ، وإذا غضبت فمن اجلهم ، وإن كان الغضب أحياناً يكون عليهم ؟ ألمحت إلي ما صوره به أحدهم في كتاب له ، تصويراً فجاً . أعرف هذا ، ويوم أن غضبت هذا الغضب الذي يصفه كان من أجل أحد صعاليك اليسار الذي يتخذونه معبوداً وهم يسخرون منه . هذا الشخص المقصود كان احد أعضاء وفد أدبي مصري سيزور رومانيا ، وكنت رئيس الوفد . في الطائرة حين وزعت وجبة الغداء ، أكل صاحبنا (اليساري) كل ما قدم إليه ، ثم راح يلعق أصابعه بلسان بارز وحركة مكشوفة ، مما حمل نظراءه من أهل اليسار على السخرية منه ، واستهجان حركته .
[ ملحوظة من عندي : الأديب اليساري المقصود كان صديقي ، وجاري في المعادي ، وزميلي في الكويت عدة سنوات ، وحدث أن دعوته للطعام ، ولعق أصابعه بنفس الطريقة التي ذكرها الأستاذ ثروت ]
وقلت له : ألا ترى يا أستاذ أن ابن الباشا باشا مثله ، ها أنت تقيم في ضيافتي ، وتناديني باسمي المجرد ، حتى دون إضافة اللقب الذي منحته الدولة لي ، هذا من جانبك . أما من جانبي فأنت دائما : الأستاذ ثروت . ولم يعلق ..
يتبع ..

اترك تعليقاً