لابد من صنعا وإن طال السفر – 27 أغسطس 2018

لابد من صنعا وإن طال السفر – 27 أغسطس 2018

معزوفة على وتر الحنين
لابد من صنعا وإن طال السفر
هذا مثل قديم يضرب ، ليشهد لعاصمة اليمن (السعيد) ، بمقامها الحضاري الرائع في التاريخ القديم . إذ كل الطرق توصل إليها ، كما كانت توصل إلى روما !!
ترددت كثيراً في طرح موضوع العلاقة بين الدكتور القط ، وبيني فيما يخص أطروحة الدكتوراه ، وقد كان ألمي من موقفه مضاعفاً ، لأنه أصابني في مقتل ، حيث لا أملك وسائل الدفاع عن نفسي ، أو حتى شرح موقفي ، ولأنني – وهذا هو الوجه الآخر للألم – كنت أحمل لأستاذ الجامعة – أي أستاذ في أية جامعة – صورة مثالية للمعرفة الواسعة ، والتسامح ، والتسامي بلا حدود ، والقدرة على تجاوز العثرات والأزمات ، والتحرز من التورط في الخصومات ، وتبادل الاتهامات ، وهذا المعنى الأخير الذي استحكم في نفسي ، في مرحلة مبكرة ، ربما كان سببه اعتقادي (ولا يزال هذا الاعتقاد مسيطرا إلى اليوم) أن المثقف ينبغي أن يكون على مستوى من النضوج والوعي ، بحيث لا يقارب نواحي النقص التي أشرت إليها ، فإن تورط في شيء منها – ففي رأيي – أنه دعي ثقافة ، ومزيف ، ومتناقض مع نفسه ، أو على الأقل : متناقض مع ما يدعيه من الإيمان بقيم الثقافة .
كتمت أحزاني في نفسي ، وعدت إلى مصر لا أعرف ماذا أصنع برسالة أنجزتها ، ولا أجد من يمنحها قدرها . حاولت العودة إلى دار العلوم ، وتقدمت بطلب للتحويل ، فرُفض الطلب لسبب قانوني ؛ وهو أنه ليس في نظام الجامعات تحويل الرسائل العلمية بين الكليات المتناظرة ، وكان من المحال أن أعيد تسجيل الموضوع في دار العلوم ، وانتظر عامين ، وهما الحد الأدنى المأذون بعده بمناقشة البحث لإقراره .
طلبت الخبرة ممن يمتلكها ، وهنا أذكر فضل الدكتور أحمد هيكل (أستاذي وصديق العمر) ، الذي رأى أن العودة إلى قسم اللغة العربية بآداب عين شمس لتصحيح العلاقة ، هي الخطوة الممكنة والواجبة ، ولأنني لم أكن أعرف في ذلك القسم غير الدكتور القط ، فقد ذكر الدكتور هيكل اسم : الدكتور مصطفى ناصف ، وذكر لي أنه يعرفه ، ويعرف أنه ليس في بيته تليفون ، فوصف لي مسكن الدكتور ناصف لأذهب إليه ، واطلب منه مقابلة صديقه الدكتور هيكل على مقهى معين بميدان التحرير .
أخذت العنوان ، ويا للمصادفة ، كان قريبا جداً من الشقة التي أقيم بها بأطراف مصر الجديدة . ذهبت إلى البيت ، طرقت الباب ، خرجت خادمة ، وقبل أن أتكلم قالت : الدكتور غير موجود . عرفتها بمهمتي ، على أن تخبر الدكتور حين يعود . وانصرفت . ولكن قبل أن أصل باب العمارة كان الدكتور بنفسه يطل من منور السلم ، وينادي بأعلى صوته : تعال يا محمد .. أنا هنا !! بعد لحظة صمت أضاف – في حين أصعد السلم راجعا إليه : ماذا نفعل ؟ أصبحنا نتهرب من مطاردة بعض الطلاب (العرب) غير الجديرين بالدراسة ، ولكنهم لا يكفون عن ملاحقتنا !!
رأيت مصطفى ناصف لأول مرة . تأملته . لا يختلف في قامته ، وسمرته ، وصلابة عوده عن أبي . اكتفيت بأن أخذت منه موعداً لنلتقي ثلاثتنا : الدكتور ناصف ، والدكتور هيكل ، وأنا ، على مقهى التحرير . وبالفعل تم اللقاء ، ومثل كل أهل العلم الثقات ، المدققين بدأ هو الكلام ، فقال : إنه تلقى رسالة اعتذار عن الإشراف من الدكتور القط ، وأنه هو سيتولى القيام بمهمته ، وقال : عليك أن تجهز الرسالة في صورتها النهائية ، التي لا تريد أن تدخل عليها أي تعديل ، وتقدمها إليّ حين تستطيع . قلت بعد إزجاء الشكر لموقفه : إن الرسالة جاهزة ، ولكن لا مانع عندي من إعادة النظر فيها ، غير أنني أرى أن أخبره بما كان بيني وبين الدكتور القط في الكويت ، لتبرئة ساحتي وليس لاتهام الدكتور القط . وقلت له : إن أخلاق الطالب ركن أساسي في تكوينه العلمي، ومن ثم أرى أنه من الضروري أن يعرف موقفي مما جرى .
قال بلهجته الفلاحية التي لم يبارحها إلى آخر مراحل عمره : اسمع يا محمد . فلتكن قتلت أبو الدكتور القط ، أو الدكتور القط قتل أبوك ، افتراضاً ، هذا موضوع لا دخل لي فيه ، وعلاقتي معك تنحصر في هذه الأوراق التي تحملها ، إذا كانت جديرة بأن تمنحك لقب دكتور .. ستحصل عليه ، وإلا فلا .
انتهت الجلسة .. وفضلت أن أتمهل في قراءة ما سبقت كتابته ، وبخاصة أن عطلة الصيف لن تتسع لمراجعته ، ولعقد المناقشة ، وهكذا استثمرت الشهر الباقي في إعادة كتابة الرسالة على نسق آخر ، ربما تكون التحليلات والعبارات هي بذاتها ، ولكن التقسيم ، والتبويب اختلف كثيراً ، وإنني لمتأكد بأن هذا التغيير الذي اجري في آخر شهر، كان قد أفاد البحث كثيراً جداً .
عندما قصدت بيت الدكتور ناصف لإعطائه أصل الدراسة ، قلب أوراقها ، ووجد في بدايتها نحو أربعين ورقة عن بداية الرواية العالمية وتطورها ، حتى زمن الواقعية ، فقال : تأخذ هذه الأوراق الأربعين ، وتذهب بها إلى الأستاذ الدكتور طه محمود طه (أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة عين شمس) وتخبره أنني أرسلها إليه ليبدي رأيه فيها !! وفعلت ما أشار به الدكتور ناصف ، معجبا بدقته ، والتزامه بالتخصص ، وإن كنت خائفاً من مراجعة الدكتور طه ، ولكن بعد أسبوعين استدعاني الدكتور طه ، وسلمني الأوراق ، مقراً بصواب ودقة كل ما ورد بها . وهكذا تجمع نص الرسالة عند الدكتور ناصف ، ووعد باستكمال القراءة ، على أن تكون المناقشة في عطلة نصف السنة . وهذا ما كان . أما النسخة الخطية ، فلا أدري عن مصيرها شيئا ، بعد أن طبعت في كتاب ثلاث طبعات ، غير أنني احتفظت بآخر ورقة بخط يدي ، وفي ختامها تعليق بالقلم الرصاص بخط الدكتور ناصف ، يقرر فيه رضاه عن الدراسة ، وتحيته لصاحبها ، وتقديره للجهد المبذول فيها ، الذي – في رأيه – يستحق الثناء .
حين عدت إلى مصر لمناقشة الأطروحة (يناير 1970) لقيت الدكتور ناصف ، وكان قد اختار مناقشين ، ليسا على صلة بالموضوع القديم (الدكتور مهدي علام ، الدكتور مصطفى مندور) فحصلت الرسالة على مرتبة الشرف الأولى .
تكررت لقاءاتي بالدكتور ناصف ، غير أنه لم يأذن لي أبداً بأن أبدي نحوه أية بادرة تعبر عن امتناني الخاص لشخصه ، فاعتذر بأدب جم عن قبول أية هدية أحملها من الكويت إليه ، وكان يقول : يا محمد .. الحب لا يحتاج إلى دليل !! بل كنت حين أذهب بصحبة زوجتي وابنيّ الطفلين وائل وهاني إلى نادي هليوبوليس (القريب من بيته وبيتي) فإنه هو الذي كان يقبل علينا مرحباً ، بل يصحب الطفلين إلى حمام السباحة يلاعبهما ، ويسابقهما ، ويقدم إليهما السندوتشات ، وقد تكرر منه هذا الفعل.
هذا هو الوجه الإنساني للأستاذ الدكتور مصطفى ناصف – طيب الله ثراه ، ورحمه رحمة واسعة .

اترك تعليقاً