ما أروع أن تقول بغير كلام ! – 9 أغسطس 2018

ما أروع أن تقول بغير كلام ! – 9 أغسطس 2018

معزوفة على وتر الحنين
ما أروع أن تقول بغير كلام
في زمن وجيز سافر نجيب الكيلاني إلى “المنصورة ” ليصافح هناك جمال عبد الناصر، ويتلقى منه جائزة، فقد أقيمت مسابقة أدبية موضوعها : حملة لويس التاسع ، وسجنه بدار ابن لقمان التي لا تزال شاهداً شاخصاً إلى اليوم يعلي من انتصار المنصورة. في تلك المسابقة : فاز يعقوب الشاروني (الكاتب الشهير بأدب الأطفال حاليا) بجائزة المسرحية ، عن مسرحيته بعنوان : “أبطال بلدنا” ، كما فاز علي أحمد باكثير بجائزة عن مسرحيته : ” دار ابن لقمان”، أما نجيب الكيلاني فانفرد بجائزة الرواية عن : “اليوم الموعود” !! . أقيم احتفال العيد القومي في المنصورة -لأول مرة- يوم 7 مايو 1961. سافرت مع نجيب وباكثير لأقوم نحوهما بواجب الضيافة في مدينتي ، وفي تجوالنا نحن الثلاثة في شارع البحر (النيل) كنت أشرح لباكثير (الحضرمي) شيئا من معالم المنصورة، فاكتشفت أنه يعرف عن مدينتي أكثر مما أعرف ، وأخبرني أنه عمل مدرساً للغة الإنجليزية بضع سنوات بمدارس الرشاد (الأهلية) . وبالنسبة لمشوار المنصورة تحضرني ذكريات : رأيت عبد الناصر في المنصورة أعقاب تنحيته للرئيس محمد نجيب ، وكنت مشاركاً (جنديا متدربا) بمعسكر أقامه الحرس الوطني ، “كان المعسكر” في حديقة ” شجر الدر ” ، مكان جامعة المنصورة الآن. كان هذا أعقاب حوادث مارس 1954. كما ذكرت ، ولم تكن مشاعرنا (مشاعري) مع عبد الناصر ، بل كنت ضده تماماً . فكرهت زيارته لمعسكرنا ، غير أنه جاء ، وأوشكنا – أنا وأبناء قريتي- أن نتمرد على رفع السلاح تحية له، كان محمد نجيب أبًا طيبًا لشعب أطيب. ولعلي – من بين طابور تحية القائد – الوحيد الذي أصدر حركة زائدة (معيبة) لاحظها ضابط الصف ، فهددني بتقديمي لمحاكمة عسكرية . كان هذا من مشاهدتي المباشرة لزيارة عبد الناصر الأولى للمنصورة . وفي العيد القومي لهذه المدينة بعد سبع سنوات خطب عبد الناصر في جماهير جُنت به عشقاً وتعلقاً ، تمتد وتنتشر بحجم المدينة ذاتها، دون مبالغة، وقد اهتدى الناس إلى امرأة مجهولة قيل إنها تولت غسل ثياب الرئيس في الليلة التي قضاها في سكن المحافظ بالمدينة ، فأصبحت هذه السيدة اشهر امرأة في المنصورة ، كما أثلج صدور أهل المنصورة وتناقلوا أن عبد الناصر قال للمحافظ: كيف تبني لنفسك هذا القصر بسبع حمامات؟ هل رأيت البيت الذي أسكن فيه ؟
هكذا تلقى نجيب الكيلاني جائزته من يد عبد الناصر، الذي حبسه من قبل، وسيحبسه مرة أخرى من بعد ، ولم أسمع يومًا عبارة ازدراء أو أمنية شريرة. كان نجيب الكيلاني يرى عبد الناصر وطنيًّا عظيمًا، وبطلاً ، فقط: (ليته كان معنا!) وبمثل هذه اللغة كان يتحدث عن الإخوان “السابقين” ، الذين وجدوا لأنفسهم طريقًا آخر، فمثلا حدثني عن ياسر عرفات حين كان طالبا (إخوانيًّا) بهندسة القاهرة، وكيف ينسب -فيما بعد- إلى اتجاه نقيض : الاتجاه القومي .
بعد سنوات قلائل من لقائنا الأول، ربما عامين أو ثلاثة، لم نتوقف عن لقاءات محبة دورية ، ترتبط دائما بمسائل الخميس أو صباح الجمعة ، جاءني ومعه مخطوط رواية جديدة، اختار لها عنوان: “الربيع العاصف”، وتجري أحداثها في قريته (شرشابه – محافظة الغربية) طلب مني أن أقرأها، وأن أكتب دراسة نقدية تطبع معها!! عجبت للطلب، فقد كنت متخرجًا حديثًا : واسمي أقل بكثير من اسم نجيب الكيلاني، كما أنه كان باستطاعته أن يطلب هذا من أشخاص تحددت مواقعهم واستقرت مكانتهم النقدية، حتى وإن كانوا من الشباب في ذلك الوقت، مثل عبد المحسن بدر، وتوفيق حنا، ومحمود أمين العالم، وعباس خضر، وقد أفضيت له بما يعتمل في صدري وأنني لا أجد مبرراً يفضلني به على هؤلاء الأعلام !!
قال: حتى نجيب محفوظ، لو قصدته في تقديم روايتي سيفعل، ولكن أرى أن يعتمد جيلنا على نفسه، وأن نتقدم معًا !! وهكذا أصر، وكتبت تلك الدراسة التي لا تزال تطبع ملحقة بـ “الربيع العاصف”، كلما تكرر نشرها، دون تعديل، وحتى دون إضافة اللقب العلمي الذي وصلني بعد تلك الدراسة بثمانية أعوام!
عقب تخرجه في كلية الطب عين طبيبًا لعمال ورش السكة الحديد في “أبو زعبل” حين عرفت، لم أتفاءل . التعليق الساخر فرض نفسه: يا نجيب ما كفاك طره، والقلعة، حتى تختم بأبو زعبل!! مع هذا حصل على “فيلا” صغيرة جميلة، قضى فيها مع زوجته (التي اختارها قلبه أيام سجن القلعة) وولده حسام “الوحيد في ذلك الوقت” سنة هادئة، واستضافني أثناءها مع زوجتي في أسبوع زفافنا يومين : كانا أطيب أيام العسل، وانتهت علاقته بأبي زعبل، بحشد الإخوان مرة أخرى في المعتقلات، صيف 1965، عقب إلقاء القبض على (سيد قطب) بسبب كتابه : “معالم في الطريق” لم أكن أعرف عن سيد قطب غير اسمه ، حتى نجيب الكيلاني لم يكن يظهر شعوراً بالخصوصية نحوه ، وكل ما عرفته عن سيد قطب أنه كان عقادياً (من محبي عباس محمود العقاد) ، وأنه مارس النقد الأدبي ، وله فيه كتاب ، وأنه ممن سبق في الكتابة عن روايات نجيب محفوظ قبل أن يفطن له جمهرة النقاد !! وبالنسبة لكتاب “معالم في الطريق” – يؤسفني أن أعترف بأنني لم أجد في نفسي حافزاً لقراءته إلى النهاية إذ كنت أراه كتاباً ينطوي على كثير من المصادرات ، والقراءات الخاطئة . وقد أودع سيد قطب – مدة اعتقاله – زمناً في أحد عنابر القصر العيني القديم ( كان في موقع القصر العيني الفرنساوي الآن) ولم تكن زيارته ممنوعة ، وإن كان العنبر الذي يوجد به أمامه حارسان، وذهب نجيب وذهبت بصحبته لزيارة سيد قطب ، دون أن اشعر بأهمية خاصة لهذا العمل ، ولعلني أعجب لهذه الحالة بعد مرور هذا الزمن الطويل عليها (وهي المرة الوحيدة التي رأيت فيها هذا الرجل) كان يلبس جلبابا مخططا بخطوط عريضة زرقاء ربما من الكستور أو البوبلين ، وطاقية من نفس القماش ، ولا يبدو عليه شيء من سيماء أهل الفكر !! فلم أجد رغبة في التحدث إليه ، في حين اكتفى نجيب بالسؤال عن صحته ، ونصحه بتناول أدوية معينة تناسب حالته ، والتزام والراحة .. إلخ . وكان شرطي وحيد يقف قريبا منا ، غير أنه لم يتدخل في الحديث على الإطلاق ، مكتفيا بتسجيل اسمينا . مضى زمن قصير وقبض على نجيب مرة أخرى ، كان في زيارتي ليلة القبض عليه، فقد كنت عائدًا في الغد إلى مقر عملي بالكويت، وكان متوجسًا، لم يكن خائفًا، لم أره خائفا أبدا، ولكنه كان يشعر أن صحته لم تعد تحتمل السجن، وكانت آلام المفاصل “في الركبتين خاصة” تعاوده. وسافرت، وهناك عرفت أنه قبض عليه في اليوم التالي!! غير أنه لم تطل إقامته في السجن، ولا في مصر عقب الإفراج ، عنه سافر إلى دولة الإمارات، استقر في دبي طبيبًا بالصحة المدرسية، واستطاع أن ينتزع لنفسه مكاناً بين أطباء الإمارة في الطب ، كما في الأخلاق ، وفي مجالات الإبداع المختلفة ، وكان من جلساء الشيخ زايد – رحمه الله – ولو لمرات قلائل. وفي دبي كان آخر لقاء بيننا، حين دعاني نادي الثقافة والعلوم للمشاركة في موسمه الثقافي بإلقاء محاضرة. تعشيت في منزل نجيب، ورأيت أولاده وقد أصبحوا رجالا، وابنته عزة قد أصبحت طبيبة وتزوجت طبيبًا، وأصبح له أحفاد، وأخبرني أنه بنى عمارة صغيرة في طنطا، وكانت مؤلفاته تجاوزت الخمسين كتابا.
في زمن دار العلوم دعوت نجيب الكيلاني وخطيبته لمشاهدة الحفل الختامي الذي يقيمه اتحاد طلاب دار العلوم . أذكر أنه حضر وهي في صحبته ، وكانت سافرة الوجه ، مكشوفة الشعر ، غاية في الأناقة والتهذيب والهدوء ، وجلست بين الطلاب إلى جوار خطيبها ، وإلى اليوم أحتفظ بصورة تذكارية يظهران فيها في زحام الطلاب بقاعة علي مبارك بدار العلوم – المنيرة .
نجيب الكيلاني هو الذي أوصلني إلى “مكتبة وهبة” ، وإلى الحاج وهبة نفسه ، الذي نشر لي – بتزكية نجيب – أول ما ألفت من كتب (العز بن عبد السلام : بائع الملوك) وحين عدت إلى مصر نشر لي ثلاثة كتب في علوم البلاغة .
نجيب الكيلاني أول من اهتم بطرح قضية “الأدب الإسلامي” في كتاب بهذا العنوان، ورؤيته بعيدة تمامًا عن التزمت الذي نعهده في بحوث من يطرحون هذه القضية من الأصل ، إنه لا يطلب في فنون الأدب أن ترتبط بالدعاية، أو الوعظ، أو التبشير ، أو الانحياز ؛ إنه يقف تحت شعار: “من ليس علينا فهو معنا ” ، لا يطلب من المبدع أكثر من تجنب الاستهتار بالقيم، وعدم الإغراق في وصف المشاهد التي تغري بالخطيئة أو تهون من نتائجها ، فضلا عن أن تحسنها . أما عالمه الروائي، الذي بدأ بـ “الطريق الطويل” و”في الظلام” التي تحولت إلى فيلم بعنوان: “ليل وقضبان”، ومجموعات قصصه القصيرة : “موعدنا غدا” ، “دموع الأمير” وغيرها ، فقد اتسعت دائرة اهتمامها، لتتعقب القضية الإسلامية في مواطن أزماتها (المعاصرة) عن المسلمين في الاتحاد السوفيتي كتب: ” ليالي تركستان”، وعن صراع الإسلام والوثنية في نيجيريا كتب: “عمالقة الشمال”، ثم “عذراء جاكرتا”، فكانت مشاركاته في الإحياء الإسلامي مرتبطة بالإبداع الروائي خاصة . ومنذ فترة مبكرة ألف عن الشاعر الإسلامي العالمي “إقبال”، كما أفضى بجانب من حياته الشخصية في “مذكرات طبيب”، وإن يكن كتب عن نفسه مباشرة في “ملامح من حياتي” وهو في جزئين.
وذات يوم (من أعوام الكويت) تلقيت دعوة من إدارة مؤتمر سيعقد بالمدينة المنورة ، لأحضره ضيفاً لمدة أسبوع . كنت سعيداً جداً لأنني سأزور المدينة المنصورة ، وسعيدا كذلك حين عرفت أن نجيب الكيلاني هو الذي رشحني لهذه المشاركة ، ورأيت أن أقدم عملاً مناسباً لموضوع المؤتمر ، فكانت دراستي (قراءة إسلامية في أدب محمد عبد الحليم عبدالله) وفاءً للصديق القديم، وكان قد رحل – رحمه الله وطيب ثراه ، ويختلف خط هذه الدراسة عن منهج (الإسلامية والروحية في أدب نجيب محفوظ) الذي سبقها بسنوات . إذ اكتفيت – بالنسبة لأدب عبد الحليم عبدالله – برصد المفردات ، والتراكيب المأثورة من القرآن ، والحديث الشريف، التي وردت في سياق مؤلفاته ، وألحقت بها دراسة سياقية وجمالية تبرز خصوصية هذا التعبير في موقعه ، ومن ثم فقد أتيح لي أن أصلي فروضي في مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمام الروضة الشريفة ، أسبوعاً كاملا ، بصحبة نجيب الكيلاني .
يا أخي وصديقي .. لا أحمل لك إلا الذكريات العطرة ، والتعبيرات الإنسانية ، والمشاعر الرحيبة المتسامحة تجاه خلق الله جميعا ، دون استثناء ..
يا أخي وصديقي .. هذا دوري .. آن أن أقول لك هذه المرة: إلى اللقاء!!

اترك تعليقاً