كل المعرفة .. تحت إصبعه – 2 أغسطس 2018
معزوفة على وتر الحنين
كل المعرفة .. تحت إصبعه
أذكر من تصويباته لي ، أنني اهتممت فـترة بشاعر من متأخري العصر العباسي يلقب ” الأبيوردي ” ، وقد وقعت على ديوانه مصادفة في إحدى زياراتي لآثار بغداد الإسلامية ، فوجدت نسخة هذا الديوان تتصدر (فاترينة زجاجية) في مقام العارف بالله (عبد القادر الجيلاني) ويمكن اعتبار هذا الشاعر – الأبيوردي- في وسط المرحلة الفاصلة بين عصر القوة الأدبية ، الذي بلغ ذروته ما بين المتنبي وأبي العلاء ، وعصر الضعف الذي شهد سقوط الخلافة ، وما خلف من أدب ركيك زائف اللغة والشعور . استطعت الحصول على مخطوطة الديوان عن طريق صديق بغدادي ، وهو ديوان ضخم من أجزاء ، تحمل أسماء الأمصار التي قيلت فيها القصائد ، وكان أهمها : ديوان “العراقيات” ، قرأته ، ووجدت صعوبة في حل تراكيب أفكاره وصوره ، وفي نفس الآن عرفت أن لهذا الديوان شرحاً قديماً في مكتبة نيودلهي القومية ، فاحتلت حتى تمكنت من تصوير الشرح عن طريق الملحق العسكري المصري بنيودلهي على الرغم من أن الهند تضن بتصوير أية مخطوطات في حوزتها . حين حصلت على هذا الشرح النادر قرأت جانبا منه علي أستاذنا شوقي ضيف ، وكان هذا الشرح لباحث يدعى ” الجندي ” وقد نطقتها علي الطريقة المصرية منسوبة إلي الجُندية ، أي العسكرية ، ولكن شوقي ضيف أصلح نطقي وصوبه بما يكشف عن درايته العميقة ، فهو الجندي – بفتح الجيم والنون – نسبة إلي منطقة في اليمن (الجَنَد)!! وزاد علي ذلك بأن أمدني بقائمة تضم أكثر من خمسين مصدرا ومرجعا تحدثت عن الأبيوردي ، الذي ظننت أنه كنز مجهول وأنني اكتشفته ، فإذا كل أسراره تحت إصبع شوقي ضيف !! وإذا كل أسراره مبذولة لي في لحظات ، تعادل عمرا في البحث والسهر والتأمل .
لقد عاش شوقي ضيف في الكويت أربع سنوات ، يعلم أبناءها ، ولا يضن بخبرته ، ولا بوقته .. أشرف علي أكثر من رسالة ، ومنح أكثر من درجة دكتوراه وماجستير ، وكانت جامعة الكويت تستعين به في تقويم إنتاج أساتذتها ، فتجد عنده صدق العالم الوفي المنكر لذاته حتى زمن رحيله .
إن فضله الشامل كان سببا في جائزة الملك فيصل .. فهل نذكر فضله الخاص ، علي طريقتنا الخاصة ؟! مضي زمن ثم أنشئت سلسلة عن النقاد العرب المعاصرين . اخترت أن أكتب عن شوقي ضيف . اختاره عقلي وقلبي ، قرأت كل ما كـتب ، أو أكثر ما كـتب .. خضت مـعه المحيط ، حتى امتلأت أشرعتي ، ولكن تيارات فكره لا تزال تدفع وتدفع .. أعوام ولم تظهر بعد الطيور البيضاء التي تعطي بشائر ظهور الشاطئ .. ولو .. وراء الأفق . !!
والآن .. وبعد رحيله بسنوات ، أذكر أمرين : أنه حين انضم إلى هيئة التدريس بجامعة الكويت ، كان العلامة عبد السلام هارون رئيس القسم ، وبقي كذلك إلى أن رأت إدارة الجامعة أن تسند رياسة القسم لسيدة عراقية (متخرجة في بريطانيا) لا ترتفع إلى قامة هارون أو ضيف ، وقد تقبل عبد السلام هارون هذا التغيير بطيبة نفس ، غير أن شوقي ضيف رأى أن بقاءه بالقسم فيه إدانة . من ثم قال لعبد السلام هارون : (أمامي وكان حاضرا عدد من المصريين) يا عبد السلام ياخويا .. إحنا قاعدين هنا ليه ؟ هيا ننزل إلى رئيس الجامعة ونستقيل . فلم يملك عبد السلام هارون إلا أن يخرج معه . وانهيا عقدهما ، وغادرا الكويت .
الأمر الآخر : أنني بذلت جهدا حقيقياً في أن أجد معلومات شخصية أو علمية عن شوقي ضيف ، لا تتضمنها مؤلفاته ، فلم أعثر علي شيء منها !! سألته عن علاقته بطه حسين ، وعن مشاعره حين فضل طه حسين أن تكون سهير القلماوي رئيسة القسم على الرغم من حضوره ، وأشياء أخرى ، وسألته عما إذا كانت له مقالات أو بحوث صودرت أو لم تنشر لسبب من جانبه ، فكان رده سلبيا على كل ما ذكرت ، وقد أوصلني هذا إلى الإحباط لاعتقادي – وقد أكون على خطأ – أن مثل هذه المؤلفات عن شخصية شهيرة ينبغي أن تتضمن بعض الكشف عن مجهول ، أو تفسير لغامض ، أو إضافة لم تكن معروفة ، أو نقيض لما كان معروفاً ، غير أنني وقد ذهبت إلى الأستاذ في بيته (بضاحية الدقي) مرة واحدة ، وأفضيت إليه بكل ما أبحث عنه ، ولكنه أضاف في عبارة حاسمة : ستجد فيما نشرت من كتب كل ما فكرت فيه ، وما أنجزته ، وما تطلعت إليه مثبتاً وموثقاً . هنا – وللأسباب التي ذكرتها ترددت في الكتابة عنه ، أو قلت حماستي كثيراً جداً ، وكأنني لم أعد أجد ضرورة للعجلة في إنجاز العمل ، إلى أن رحل – رحمه الله – ولم أكن قد بدأت ، فعوضت ذلك بأن كلفت أول معيد في القسم (بالفيوم) بأن يعد رسالة الماجستير عن نقد شوقي ضيف ، وهو الآن زميلي الدكتور الباحث : أحمد سمير ، وقد حاول جهده أن يملأ الثغرة التي عجزت أنا عن ملئها .