متصالح مع نفسه .. متصالح مع العالم – 19 يوليو 2018

متصالح مع نفسه .. متصالح مع العالم – 19 يوليو 2018

معزوفة على وتر الحنين
متصالح مع نفسه .. متصالح مع العالم
حين تكتب بدافع “الواجب” فإن الحصول على زاوية حرة يصبح أمراً صعباً ، هكذا أبدأ بما أفضي به عن العلاّمة المحقق الأستاذ عبد السلام هارون (1909 – 1988) ، فله في عنقي دينٌ محبوب ، حتى وإن ضاقت المساحة عند نهاية الرحلة التي استمرت نحو عشرين عاماً !! (فهكذا الدنيا تسير ، كما قال مولانا شكسبير) ، والأستاذ هارون قامة كبيرة في مجال تحقيق عيون التراث العربي بصفة خاصة ، ويكفي أن نذكر له أنه محقق “البيان والتبيين” للجاحظ (في أربعة أجزاء) ، وكتاب “الحيوان” له أيضا ، وفي هذا الكتاب الأخير المكون من ثمانية أجزاء ، صنع – قبل زمن الكمبيوتر – فهرساً ممتداً متنوعاً ، شمل نصف الجزء السابع ، والجزء الثامن كاملاً ، فهرساً مفصلاً حسب الموضوع ، وحسب المصدر ، وحسب العصر ، والقبيلة ، والشاعر ، والمصطلح البلاغي والمصطلح النقدي .. إلخ ، ولهذا فإنني كنت – في محاضرات الدراسات العليا – أحرض طلابي على دراسة فهرس عبد السلام هارون وتحليله لمحتوى كتاب الحيوان ، لأن في استطاعة هذا الفهرس أن يلهم الباحث بإجراء عشرات الدراسات في فنون البلاغة والنقد والأدب ، وعلم النفس ، وعلم اللغة .. وتستطيع أن تضيف ما تشاء ، دون أن تغادر دائرة كتاب الحيوان !! هذا فضلا عن كتاب “خزانة الأدب” للبغدادي ، وفي شواهد هذا الكتاب شوارد لا تحصى عبر (13) مجلداً ، حققها هارون منفرداً !!
لا يجهل متخصص في العلوم العربية موقع عبد السلام هارون ، أو جهده ، وكنت طالباً في الكلية التي يشغل فيها درجة أستاذ (النحو) ، وكان على خلاف دائم – أو تصورت هذا – مع الأستاذ عباس حسن مؤلف “النحو الوافي” الذي تأخر ظهوره طويلا ، ولكنه أغنى المكتبة النحوية بحيث لا يجسر باحث في النحو على إغفال الاعتماد عليه . مهما يكن من أمر تلقيت دروس النحو في الفرقة الثانية على يد تمام حسان ، وفي الثالثة على يد عباس حسن ، وفي الرابعة على يد عبد السلام هارون ، وأشهد أن عباس حسن كان (المجلّي) دون منافس ، فقد تعلمت منه ما لم أتعلم على يد سواه ، وتقبلت -على يديه- تفاصيل التفاصيل في المسائل النحوية ، وهي أكثر مرارة من أكل الحصرم (العنب قبل نضوجه) . وكان عباس حسن على قدر من التزمت ، يخيف الطلاب ، ومع هذا ما كان يخاطب أحدنا نحن طلابه إلا بقوله : “يا حضرة الأستاذ”!! . أما عبد السلام هارون فقد امتحنني في لجنة الشفوي سنة الليسانس ، ومنحني درجة “ممتاز” على الرغم من أنه اختبرني في معنى موجود بأحد كتب التراث وهو كلمة (العَلات) فلم أعرفه ، فقال لي بأدب رفيع : أبناء العلات هم الإخوة من الأب ، وأمهات مختلفات ، لأن الأب علّ من هذه ، وعلّ من هذه ، أي شرب ، فحمدت له هذا التصويب وهذه الطريقة الراقية في نقل المعرفة ، إلى أن التقينا في الكويت . كنت السابق : مدرسا بثانوية الشويخ ، وقد حصلت حديثا على الماجستير ، وكان عبد السلام هارون قد انتُدب رئيسا لقسم اللغة العربية بجامعة الكويت (الوليدة) ، فلم تمض من الدراسة في عامها الأول غير شهر ، حتى كنت (معيدا) تحت رياسته بالقسم ، وهكذا تداخلت الخيوط ، وبدأنا مرحلة جديدة .
من براعة استهلال عبد السلام هارون في علاقاته الإنسانية أن تعامل معي كصديق أولاً ، وابن ثانياً ، وزميل ثالثاً ، ولم ينظر إليّ مطلقاً على أنني طالب أو موظف ، وهكذا زارني مع السيدة حرمه في بيتي ، وتعرّف إلى زوجتي وأطفالي ، بل لعب معهم وداعبهم ، وكانت السيدة حرمه (وهي من بنات عمومته أو أخواله ، لست أحقق ، لكنها قريبة العلاّمة الأستاذ محمود شاكر!! أي أن النحو والتراث عائلة واحدة !!) ولم تكن تختلف عنه مودة ورقة . وبلغ الأمر بنا أن أحمل الأستاذ بسيارتي إلى جمعية الشامية – التي يهواها المصريون في الكويت – لنشتري فسيخ شم النسيم ، ونأكله في بيته ، وكان هو الذي يقوم بإعداده بنفس راضية ، ووجه باسم لا أظن أنه عرف الغضب ذات يوم ، مهما كانت الأسباب .
ظللنا على هذه الدرجة من الود زمناً ، إلى أن انضم إلى القسم مدرس نحو كان الأستاذ هو الذي منحه الدكتوراه ، ورشحه من مصر ، فإذا بهذا الوافد الجديد يأخذ نمطاً سلوكياً غير الذي يتوافق وطبعي الذي درجت عليه ، وكان الأستاذ يتقبله برحابة صدر وتقدير ، فهذا الجديد كان يبدأ يومه – في القسم – بتقبيل يد عبد السلام هارون ، ولم يكن الرجل يمانع ، فإذا جاء وقت الانصراف حمل حقيبته عنه ، ومضى في أعقابه مصمما على فعل ذلك ، مرددا : من علمني حرفاً صرت له عبداً ، ولأني لم أكن أفعله ، بل لم أفكر فيه ، فقد بدا سلوكي متسماً بشيء من الجفاف أو الجفاء ، مع أنه لم يتغير على الإطلاق ، لكن المقارنة ألحقت بي هزيمة لم أعرف كيف أتجنبها ، مع هذا أذكر لشيخي الجليل طرائف ونوادر تستحق أن تروى تلطيفاً لهذا الختام المناقض للبدايات .
وأول ما أذكر له من عبارات الحصافة (الشافية) أن حادث النكسة الشهير (يونيه1967) جرى أثناء انعقاد أول امتحان عام في الجامعة الوليدة ، وكنت أقوم بالمراقبة ، فحين تحققنا من وقائع ما جرى ، وعرفنا حجم الخسارة ، ضاقت بي الدنيا ، حتى أوشكت على الإغماء ، وقد تنبه الأستاذ لهارون لهذا فاقبل مهونا عليّ ، وقال عبارة حكيمة جدا ، أعرف الآن مدى قيمتها ، قال : ما حدث هزيمة ، وكل الأوطان تتعرض لها . افترض أن لديك حصاناً دخل السباق فخسره ، هل تطلق عليه النار ؟ أو تضع سكراً في يدك وتطعمه ليستعد للشوط التالي ؟! نزلت كلماته برداً وسلاماً ، ولو مؤقتاً ، ولكن حين تنحى عبد الناصر بعد بضعة أيام اصطففنا – نحن المصريين – أمام مكتب تلغراف منطقة الشرق لأكثر من كيلو متر ، لنرسل برقيات تطالب بالعدول عن التنحي . كنا نفعل ونحن نبكي ، ولكن عبد السلام هارون ظل في مكتبه ساكنا تماماً ، يرسل أنفاساً هادئة من البايب المفعم بالتوباك المعطر !!
… يتبع …

اترك تعليقاً