براعة الاستهبال !! – 15 فبراير 2018

براعة الاستهبال !! – 15 فبراير 2018

براعة الاستهبال !!
(مع الاعتذار للمبدأ البلاغي : براعة الاستهلال)
حين أعرض لعلاقتي بحفظ القرآن – الذي لم يكن منه مناص لدخول المعهد الديني – فقد بدأته متأخراً ، حول سن السابعة ، على يد الشيخ عبد الرؤوف (الكفيف) وهو من الشرايفة ، أقارب أمي ، وكنت أذهب فأحضره (أسحبه) إلى دارنا ، حيث يأكل قطعة خبز ساخنة مع “الدُقة” وبصحبة فنجان قهوة على الريحة ، ثم أتلو عليه ما حفظت ، و(أصح اللوح) الجديد، وهكذا أتممت ربع القرآن ، ثم لا أدري من أين جاء اقتراح أن أكمل الحفظ في جمعية المحافظة على القرآن الكريم ، بالمنصورة ، ربما لأنضم إلى أخي الأكبر (عبدالله) . ومدرسة الجمعية – كما كنا ندعوها – تتولى تحفيظ القرآن ، مقسما على أربع سنوات ، وهكذا أُجري لي اختبار ، وألحقت بالسنة الثانية . وكانت سنة “سودة” . إذ كان موقعي في الفصل بين شيطانين من شياطين حارات المدينة ، أذكر اسم أحدهما كاملا رغم تطاول الزمن : عادل عبد الغني شعيب ، واسم الشهرة للآخر : أبو نازل !! وقد تسلماني وأدركا أنني من “الفلاحين” وهكذا انهالت عليّ النكت تسخر من أهل الريف ، حتى لقد قال عادل : إن فلاحا كان يسير في الشارع وسمع المؤذن ينادي : حي على الفلاح ، فسمعها الريفي : حلق على الفلاح !! فما كان منه إلا أن هرول في الشارع !! بعد مدة أمكنني ترويض الشيطانين نسبيا ، وقررت في نفسي أن أعرف كيف يعيشان ، وكان مما عرفت أن أولهما ابن بائع كنافة في شارع فرعي من شارع العباسي ، والآخر لأبيه (قهوة) في شارع العباسي نفسه ، وهكذا قطعت المنصورة طولا وعرضا : من كفر البدماص إلى شارع العباسي ، وبحثت عن عنوان الكنفاني ، فوجدت مجرد محل في حجم عربة الكشري ، تتصدره رخامة ملحومة بالأسمنت ، وعليها كمية هزيلة من الكنافة الشعر ، بجوار ميزان قذر ، ويتصدر هذا المحل البائس لافتة مكتوبة بخط الرقعة : “كيف أخشى الفقر وأنا عبد الغني” !! مضيت إلى أبو نازل ، فلم أجد مقهى ، وإنما عدة كراسي من الخوص مرصوصة على الرصيف ، وزميلي نفسه يشعل وابور الجاز ليعد القهوة ويبيعها في مداخل المحلات الصغيرة !!
انتهت الرحلة الكاشفة بأن تجرأت عليهما ، وأصبحت أقدر على الدفاع عن نفسي، ولكن ظلت مشكلتي مع الشيخ حسن ، مدرس الفصل ، فقد كان لا يقبل الحفظ المكسر أو المتعتع ، ويعاقب بدون هفوة . تزامن هذا العام مع مفاوضات النقراشي في لندن ، وحرب فلسطين ، وما واكب هذا من قلق عام ومظاهرات طلابية ، وكان من بين أقاربي الذين يترددون على دارنا من يدعى : عبد الحميد محمود ، وكانت شهرته في بيتنا : عبد الحميد ابن فريزة !! وكانت أمي تقول لنا أنه ابن ابن خالي ، ولا أعرف كيف ، ولم أشاهد هذا الخال ، ولكن شاهدت عبد الحميد ، وكان أسمر ذا قامة فارهة ، وشعر لامع مصفف ، وشارب كثيف ، كان صورة شعبية ، أو ريفية ، من النجم السينمائي “كمال الشناوي” ، وكان عبد الحميد ابن فريزة طالبا بمدرسة الصنايع ، وهي المدرسة التي تقرر المظاهرات في المنصورة ، وحدث مرة أن كان يسير في السكة القديمة ، ورآني أمام الجمعية ، فأقبل متهللا عليّ وقال : طبعا انت هنا زعيم !! فلم أملك دموعي ، وانهرت تماما ، وبسرعة عبّرت عن قسوة الشيخ حسن في معاملتي ، فما كان من عبد الحميد إلا أن جمع (دستة أشرار) من بلطجية الصنايع ، واقتحم الجمعية ، وصعد توا إلى مكتب الناظر ، وقال له : محمد هذا خالي ، ولا يحق لأحد أن يخاطبه أو يعاقبه ، ونريد أن نرى الشيخ حسن هذا لنؤدبه !! ارتبك الناظر ، وطيب خاطر العصابة المقتحمة ، وأحضر لهم الشيخ حسن ، الذي نال ما يستحق ، ومالا يستحق من قوارص الكلام ، والتهديد ، ثم انصرف الفيلق الظافر ، ووقفت وحيدا حائراً ، ولكنني – فيما تلا من أيام – أصبحت معروفا عند كل تلاميذ مدرسة الجمعية ، أما الجانب الأهم : فقد انقطع الشيخ حسن تماما عن تسميع اللوح اليومي لي ، وهكذا – بغياب الخوف – أصبح حفظ القرآن يخضع لدوافع أخرى متناقضة ، بما يعني أنني لم أعد أجد ضرورة للحفظ !!

اترك تعليقاً