عدالة الآلهة ..!! – 23 نوفمبر 2017
عدالة الآلهة ..!!
في الفرقة الثالثة –في دار العلوم المعهودة بالمنيرة- ظهر الدكتور مصطفى زيد ، ليلقي علينا محاضرات في “علم التفسير” ، وكان قد سبق ظهوره في الكلية ذكر اسمه كثيرا ، وأنه يُعد رسالة دكتوراه في (الناسخ والمنسوخ) ، وأنه –أيضا- مريض يعالج في بريطانيا من دوالي المرئ عند الطبيب الذي يعالج عبد الحليم حافظ من المرض نفسه ، والمعالج هو الدكتور ” تنر” فلما ظهر بين المدرجات كنا نتجمع حوله ،وكان حلو الحديث ، مرحا ، بعيدا عن التكلف والتظاهر ، فأحببته ، وعرفت من سلوكه في المدرج أنه لا يميل إلى بذل الجهد ، أو لا يستطيعه بين العدد الكبير (ولم تكن المدرجات تعرف الميكروفونات بعد) ومن ثم فقد اعتاد أن يتحدث بافتتاحية تتعلق بالموضوع لمدة قد تصل إلى خمس دقائق لا تزيد ، ثم يقع على صيغة سؤال ، أو تساؤل ، يطرحه على الطلاب ،وكثيرا ما كان يختارني لأقوم بالإجابة !! وأظن أنني أدركت سر صاحبي ، وقدرته الأدائية ، فكنت أتعمد الإطالة في الإجابة التي قد تنتهي إلى طرح أسئلة أخرى ينشغل بالإجابة عليها زملاء آخرون ، المهم أن المحاضرة تنتهي ، ولم يتحدث الدكتور فيها بنفسه أكثر من بضع دقائق !
اذكر ذات مرة أن السؤال كان يتعلق بحرية الإرادة الإنسانية ، وعلاقة هذه الحرية بعلم الله سبحانه وتعالى ، السابق على كل مجريات الوجود ، فحين طلب مني الإفضاء بتصوري للقضية – على نحو ما تواطأنا عليه دون اتفاق- ، ويبدو أنني كنت مشتبكا بالقراءة مع عدد من مسرحيات سوفوكليس ، وأنداده من كتاب التراجيديا اليونانية ، بتوجيه من الدكتور محمد غنيمي هلال (وكان يدرس لنا الأدب المقارن) بدأت إجابتي بصوت جهوري ، وكأنني “محامي المتهم” في قاعة محاكمة : “إنني أؤمن بعدالة الآلهة !!” وقبل أن أدرك مغزى عبارتي وخطرها ، انفجر الطلاب في ضحك وصياح بلغ مسامع الجالسين في الحديقة أمام المدرج . من الطبيعي أنني أسرعت إلى الاستدراك على نفسي ، وأخذت في طرح تصوري للقضية الشائكة ، ولا تزال .
لم يعش مصطفى زيد طويلا ، ومع هذا ترك أثرا طيبا في أطروحته للدكتوراه عن الناسخ والمنسوخ من آيات القرآن الكريم ، وأنه حصرها في ستة مواضع لا غير ، وقد سمعت فضيلة الدكتور علي جمعة يذكر اسم مصطفى زيد بكثير من الإجلال في بعض أحاديثه التليفزيونية ، بل يصفه بأنه أستاذه !!
ومع ذلك فقد كانت الأيام الأخيرة في علاقتي بمصطفى زيد فاترة ، ذلك لأنني كنت أخوض منافسة عنيفة للحصول على المركز الأول بين متخرجي الدفعة (1961) ، وكان هذا يعني –فيما يعنيه- أن النجاح في ذاته ليس هدفا ، التفوق هو الهدف ، وهذا التفوق قد تحققه درجة واحدة أو نصف درجة !!
حين انتهت الامتحانات وتفرغ الأساتذة للتصحيح ، كنا نتردد على ساحة الكلية ، ونجالس الأساتذة الأقرب إلى أنفسنا ، فسمعت –فيما سمعت – أن الدكتور لم يصحح المادة التي يدرسها لنا ، فقد وزعها على معيدي مادة الشريعة في قسمه ، ليقوموا بتصحيحها بدلا عنه ، فلما سألته في ذلك قال : أدحنا عملناها بطن حمار !!
أنا ريفي فلاح وابصم بالعشرة ، ولكنني –حتى اليوم- لم أعرف معنى المجاز في هذا التعبير الشعبي ! فوفقت أمام الدكتور مضطربا أبحث عن تعليق ، ولأنني لم أفهم مرمى عبارته وما تعنيه ، قلت عبارة ملتبسة أشبه بعبارته : لقد قالوا كذلك : يا بخت من بكاني وبكى الناس عليا ، ومضحكنيش ولا ضحك الناس عليا !!
وكان هذا أخر عهدي بمصطفى زيد – رحمه الله رحمة واسعة .