عائلة “لماضة” وفروعها المزعجة – 16 نوفمبر 2017
عائلة “لماضة” وفروعها المزعجة
كتبت قبل – من موقع الاعتراف – تحت عنوان : “مشاغبات .. ومداعبات” والاستعداد للمداعبة ، وتحمل مسؤوليتها إذا ما تحولت إلى مشاغبة بتربص أو عدم فهم من وجهت إليه المداعبة ، لا يمارسها إلا ذلك “اللمض” حاد الذهن ، سريع الإدراك ، عاشق الحقيقة ، المتطلع إلى المثال ، ومن ثم فإنه يختلف – إلى درجة التناقض – مع التنح ، والرذل ، والمندفع بغير روية ، أو سند من الوعي .
سأمضي – قليلا – في هذا السياق أستمد ذكريات عبرت ، ولها حضور لا يزال ، وإذا كانت المداعبات السابقة تعود إلى زمن الطفولة الباكرة ، فإن هذه المداعبات ، أو المشاغبات -إذا شئت- ترتبط بزمن الجامعة ، وهذا بعض منها ، مما تستطيع الذاكرة أن تستدعي ملابساته :
في الفرقة الثانية بدار العلوم (القديمة بحي المنيرة) كنا في مدرج علي مبارك (أكبر مدرجات الكلية) وكان الشاعر علي الجندي ، القائم بأعمال العميد في تلك السنة – يلقي علينا دروسا في البلاغة . وبعد أن أحالنا إلى كتابه “فن التشبيه” في أول محاضرة ، لم نتلق عنه شيئا يخص ما يعرف الآن بمفردات المقرر ، على أننا كنا نستمتع –طوال الوقت- ببلاغة علي الجندي نفسه ، وشعره في الشاعرة السورية (الجميلة جدا) : طلعت الرفاعي ، وكان شاعرنا قد سافر -ضمن وفد مصري- إلى الإقليم الشمالي (سورية) فرأى الشاعرة ، وخطفه جمالها الشامي في معطفها الأحمر ، حتى لقد أبدع فيها ديوانا كاملا بذريعة الرحلة ، إذ جعل عنوان الكتاب : “خمسة أيام في دمشق الفيحاء” .
هكذا كانت تمضي محاضرات الأستاذ العميد ، مع كثير من الشطحات ، متنوعة الأهداف والإشارات ، وهو غالبا ما يجنح إلى ذكر آل الرسول –عليه السلام- وينتسب إليهم ، وليس نادر أن تتندى عيناه بالدمع ، مما يحول المدرج إلى حالة نفسية عجيبة !!
في إحدى هذه الشطحات ، ذكر أنه من سلالة عربية خالصة ، وأن أسرته –في الصعيد- لا تقبل مصاهرة أبناء الفلاحين ، مهما كانت مقاماتهم الاجتماعية !
أشهد ، ولا أقول إلا ما حضرت وسمعت ، أن أحداً لم يعلق ، غير أنني (ذلك اللمض الذي تعرفه) وقفت ، وقلت بصوت واضح يسمعه أكثر من مائتي طالب محتشدين في المدرج : “سيدي الأستاذ ، من المؤسف أن تتحدث عن التمايز ، وتعلنه بين عشرات من أبناء الفلاحين الذين ترفضون تزويجهم ، وفي زمن قامت فيه ثورة تتحدث عن المساواة بين البشر !” .
ساد في المدرج صمت عجيب ، وأصبح وجه علي الجندي –وهو بطبيعته أشقر صاف وجميل- أشد حمرة ، وكأنه يتوقد ، في حين لزم الصمت ، ثم – بعد هنيهه – حاول أن يواصل درسه البلاغي الذي لم يكن قال فيه شيئا بعد .
انتهت المحاضرة ، وانصرف المحاضر ، وتبعثر الزملاء أمام باب المدرج ، وجاء ساعي مكتب العميد . اقترب مني قائلا : سعادة العميد يريد أن يراك . فكرت بسرعة في الاحتمالات الممكنة ، ولم أجد في جعبتي ما يمكن أن أضيفه إلى ما سبق لي قوله ، ومضيت في إثر الساعي ، حتى دخلت مكتب العميد ، فنهض من خلف مكتبه ، صافحني وجلس ، وجلست . لم يكن ينظر إليَّ بقوة وهو يسألني عن بلدي ، فذكرت المنصورة وتمي . عاد إلى الصمت مرة أخرى ، وكان من الواضح –فيما أظن- أنه كان يفكر في عبارة اعتذارية مقبولة لا تجرح مقامه العالي بالنسبة لطالب ، وأخيرا .. جاءت عبارة :”تشرب شاي؟” فشكرته بعبارة لا أذكرها ، غير أنه استجاب لها ، وقد تأملني مليا لبضع لحظات ، ثم قال كلمة واحدة ، وهو يمد يده مصافحاً : شكراً ..
وخرجت .. دون أن أعرف لماذا أتيت ؟!