اليوم حرام فيه العلم !! – 2 نوفمبر 2017
اليوم حرام فيه العلم !!
كان هذا ما يتنادى به زعماء طلاب المعهد الديني إذا ما قرروا الخروج في “مظاهرة” ،وقد كثر ترديد هذا النداء المهيج منذ أعلن النحاس باشا إلغاء معاهدة 1936 – مع بريطانيا – ( كان ذلك في أكتوبر عام 1951) وقال جملته الشهيرة في مجلس النواب :”من أجل مصر وقعت معاهدة 1936 ، ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها!” . اشتعل خط القنال ، وغادر آلاف من العمال المصريين بمعسكرات الإنجليز عملهم ، أو طردوا ، فألزمت حكومة الوفد نفسها بتعيينهم في وظائف حكومية ، وقد تسلل – بالرشوة – إلى هذه المجاميع مئات أو آلاف أخرى ، وجدت لها رزقا مريحا في مكاتب الحكومة . أما طلاب المعهد الديني ، فقد صاغوا هذا النداء من وحي ثقافتهم (بين الحلال والحرام) فكان التزاحم الخانق على أبواب المعهد ، الذي يعقبه الانصراف إلى البيوت من المستضعفين أمثالي ،والصعود على الأعناق،وإطلاق الشعارات عند محترفي التظاهرات .
على أنني لم أنظر أبداً بعين القبول إلى المظاهرات ، إذ لم أعتقد مطلقا أن طلب العلم حرام في مقابل أي شيء آخر ، لطالب العلم خاصة ، وعموما فإنني لا أميل إلى الأقوال المهيجة ، والحركات العنيفة ، والصدام البدني أو الفكري ، وحين كان طلاب المعهد يعبرون عن قلقهم لتأخر صرف “الجراية” – وهو مبلغ مالي ضئيل ، يصرف للطالب بين حين وآخر من ريع الأوقاف الخيرية ، المخصصة لطلاب العلم ، كانوا يكتفون “برزع” الأدراج ، والترديد الجماعي بأصوات منكرة لنشيد الجراية :
قولوا لشيخ المعهدِ صاحب المقام الأمجدِ
هات الجراية عاجلا فالقرش فر من اليدِ
ونادرا ما كان هذا الهياج وذلك النشيد العجيب يؤديان إلى التعجيل بصرف الجراية التي كثيرا ما كان يستولي عليها “ملاحظو الأدوار” الذين يسجلون الغياب والحضور ، فكانت الجراية في مقابل إثبات الحضور .
بدأ معهد المنصورة الديني “ساكنا” في عمارة ضخمة (عمارة النبراوي)، على ناصية الكوبري الأخضر ، مع شارع المديرية (المنصورة) حتى انتهى بناء (معهد محمد علي الديني) الباذخ ، الواسع ، وكانت أبوابه من خشب الأرو ، وساحاته مزخرفة بنقوش إسلامية رائعة . أما جيران هذا المعهد الفاخر ، فكانت زربية قطن تتبع بنك التسليف الزراعي ، فإذا هاج الطلبة بسبب الإنجليز ، أو بسبب (سياسي) آخر ، انطلقوا إلى شونة القطن ، فاقتلع كل طالب عرقا من الخشب في ضعف طوله ، وانطلق يجره ، أو يشهره حسب طاقته ، ليشارك في المظاهرة . ولست أعرف كم مرة اضطرت إدارة البنك أن تقيم أسوارا من أعمدة الخشب ، والأسلاك الشائكة بسبب جيرتها لمعهد محمد علي الديني ، الذي تغير اسمه بعد رحيل عصر الملكية .
أما أنا – ولست أمتدح نفسي ، ولعلي لم أتعود ذلك ، ولا أستحسنه – فقد كنت أنسحب منفرداً ، قاصداً المكتبة الفاروقية ، على شاطئ النيل ، وهي موجودة إلى الآن ، بعد أن تحولت زمنا إلى مقر للاتحاد الاشتراكي ، ثم للحزب الوطني ، وهذه المكتبة الفاروقية تعد – كما أراها- في أجمل موقع في مصر . كنت أقصدها ، وكان الشاعر علي محمود طه ، قد غادر الدنيا منذ عامين أو أكثر قليلا ، فأهدت أسرته إلى المكتبة خزانة كتبه ، ولم تكن ضخمة (لنقل أنها كان بها نحو ألف كتاب) ، وكان أكثر ما فيها من كتب عليها إهداء مؤلفيها إلى الشاعر. في هذه المكتبة قرأت عدداً وفيراً من الكتب التي كان يقتنيها الشاعر ، واذكر أنني بدأت بكتاب “عصفور من الشرق” وكان عليه إهداء بخط توفيق الحكيم – الواضح الجميل بالحبر الأسود – قرأته وأنا أتخيل الحياة في باريس ، كما كان يعيشها “محسن” الذي كان يمثل شخصية الحكيم نفسه في إنتاجه المبكر : رواية ” عودة الروح” ، ثم “عصفور من الشرق” .