الأكثر شناعة !! – 10 أغسطس 2017

الأكثر شناعة !! – 10 أغسطس 2017

الأكثر شناعة !!
من المؤسف أن ترتبط الإخفاقات الأكثر شناعة ، الصادمة للكرامة بالحياة المصرية، في أنقى صورها المفترضة بين المثقفين ، وبخاصة إذا جمع صاحبها بين الثقافة (أو العلم) والمنصب الإداري النافذ!! حثتني أصوات متعددة بالعودة إلى الوطن (مصر) فالجامعات (بخاصة الجامعات الإقليمية) ترحب باستقبالي!! وقد صدقت ، ولم أهتم كثيرا بوصف (الإقليمية)؛ فالجامعة هي الجامعة، وإن ساءني وصف الإقليمية الذي اختصت به الجامعات المصرية خارج القاهرة والإسكندرية. فلم يطلق هذا المصطلح على جامعة كيمبردج أو جامعة أكسفورد، ولا حتى جامعات الأردن المنتشرة بين المدن الصغيرة. وصف الجامعة بالإقليمية “لعنة مصرية خاصة” ابتدعها موظفون بيروقراطيون طبقيون ، لم ترتق مشاعرهم إلى مستوى الكرامة العلمية !!
رشحني الدكتور أحمد هيكل (وزير الثقافة حينها) لدرجة أستاذ بآداب المنوفية ، اخبرني بذلك،وقال: إنه تحدث مع رئيس الجامعة، وما عليَّ إلا أن أنزل من الكويت لمقابلته يوم كذا!! لم يكن من الاستجابة بد، فنزلت بإجازة خاصة، وتكبدت الوصول إلى شبين الكوم التي لم أسر في طريقها يوماً، وقابلت رئيس الجامعة حسب الموعد المضروب ، وكانت معي مجموعة كتب من مؤلفاتي أهديتها إليه . قلبها بين يديه ثم قال: المتوفر عندنا درجة أستاذ مساعد، فإذا قبلت ننشر الإعلان ونختارك!! في ذلك الوقت كان قد مضى عليَّ في درجة الأستاذية بآداب الكويت ست سنوات، وبدلا من أن تكون درجة (الأستاذ) داعمة لشغل المكان العلمي ، تحولت إلى عبء عليه، فأكثر رؤساء الأقسام في تلك الجامعات (المسماة إقليمية) يشغلون مواقعهم بالانتداب، ويحرصون على البقاء للتكسب، وبيع الكتب، وانتداب أصدقائهم .. إلى آخر ما هو معروف وشائع بين العمداء ورؤساء الأقسام إلى اليوم !!
آلمني جداً ألا تشفع لي كتبي التي وضعتها بين يدي رئيس جامعة المنوفية ، ولا يشفع لي لقبي العلمي الذي شغلته في جامعة محترمة عدد سنين ، وقدرت “وساطة” الدكتور أحمد هيكل –الوزير والأستاذ والصديق- فبعد انتقاء دقيق للكلمات ، قلت لرئيس جامعة المنوفية سنة 1987 : أنا أحمل درجة أستاذ في تخصصي منذ ست سنوات ، وسعادتك تعرف هذا من الدكتور هيكل ، وأنا لا أملك الحق في أن أكذب نفسي ، فأرضى بدرجة أقل .لم أزد حرفا ،ولم يرد بأكثر من قوله : هذا هو الممكن بالنسبة لنا !!
عرفت فيما بعد أن القائم بأعمال عميد آداب المنوفية ضابط جيش ، حاصل على دكتوراه في التاريخ ، وليس له جهد علمي يذكر غير بعض أخباره في الصحف ، ومن هنا مارس ضغوطه لاستبعادي ، فكان الاستبعاد بهذه الطريقة الفظة !!
حاولت أن أجد فرصة في آداب بنها ، وكانت جامعة بنها – ذلك الوقت 1987- فرعا ملحقا بجامعة الزقازيق التي كان يرأسها الدكتور الجراح العبقري محمد عبد اللطيف ( رحمه الله ، وأوسع له في مثواه) ، ومحمد عبد اللطيف إلى جوار أنه كان جراحا عبقرياً ، له مستشفى في الزقازيق ، كان من قرية (الميهي) القريبة من قريتنا (تمي) وكان زميلا وصديقاً مقربا جداً من أخي الدكتور عبدالله (نفس الدفعة بطب القاهرة ) وكان محمد عبد اللطيف شاعراً وأديباً ، كسب في سنة التوجيهية مسابقة أدبية ، وحصل على ديوان حافظ إبراهيم هدية ، فأهداه إليَّ ، ولازلت احفظ من شعر الدكتور قوله في الغزل:
فكِّ قيــــــود عواطفــــــــك إني فككت عواطفي
لا تنفضــــي عنها الغبـــــار فـــإن هذا لا يفـــــي
إن التعفف أن يفـــك إسارها فـــتــــعــــففــــــي
ويقول أيضا :
لا تقولي إن أمي حرمــــــــت ذاك علـــيّ
فهي من قبل اتاحت في هواها كل شيّ
حين سمعت البيت الأخير ، وكنت أصغر منه بالطبع ، قلت له : أنت يا شاعر أول عاشق يفتتح طريق العشق بأن يشتم حماته المستقبلة !
كان محمد عبد اللطيف –رحمه الله رحمة واسعة- إنسانا دمثا ، وكان شديد الثقة بي ، ومقدرا ، وأراد أن يضمني إلى جامعة الزقازيق ، أو إلى فرع بنها ، ولكنه – وهو رئيس الجامعة – لم يتمكن من ذلك !!

اترك تعليقاً