الحفر في الذاكرة 2 (الرمضانية ) – 25 مايو 2017

الحفر في الذاكرة 2 (الرمضانية ) – 25 مايو 2017

الحفر في الذاكرة 2 (الرمضانية )
تطوف بالمخيلة ذكريات موغلة في الزمن ، عن محاولات الصيام الأولى ، من مستوى الصيام حتى العصر ، ثم فقدان المقاومة أمام طبق الطرشي ، أو رائحة صينية الكنافة ! ولكن الذكرى الأقوى تتعلق بتلك الليلة التي قررنا فيها – نحن تلامذة القرية من لابسي البوبلين والشبشب الجلد ( ماركة الغزالة ) ، وتصفيف الشعر بالفازلين – أن نحتفل بذكرى غزوة بدر . قررنا أن نقيم احتفاليتنا في مضيفة الشرايفة ( أخوالي ) ففيها مقرئ جاهز ، وفيها مايكروفون ، وحددنا المتكلمين ، وكنت واحداً منهم ، ولا أعرف ( إلى الآن ) لماذا قررت أن تكون كلمتي عن فضائل الصيام الإسلامي في مقابل الصيام المسيحي ! ويغلب على ظني أنني قرأت كلاما للشيخ محمد الغزالي في هذا الاتجاه ، فقررت أن أستفيد منه ( أنقله ) وأتعصب له . وقد حدث ، ولكن ما استجد على المشهد – ولم يكن في حسباني – أنني وقد بدأت في تفضيل الصيام الإسلامي ، والتهوين من شأن الصيام المسيحي ، دخل في تلك اللحظة إلى المضيفة ضابط نقطة شرطة البلد ، ومعه أركان النقطة ، وذلك بقصد التهنئة والمرور ، وتصادف أن الضابط واسمه ” فؤاد بطروخ ” – أو هكذا كان يُعرف في القرية – مسيحي ، وجاء مجلسه في مقابل المايكروفون !! تنبهت للمفارقة التي لم أعمل حسابها ، وبدأت الأوراق التي أقرأ منها تطير من يدي ، وكان الفنان المرحوم ” الضيف أحمد ” هو الذي يتابعها جريا أمام المضيفة بجسده النحيل ، ويعيدها إليّ . أما فؤاد بطروخ فقد ارتسم على وجهه نوع من الابتسام الهادئ الدائم ، حتى شرب القهوة وغادر المكان دون كلمة واحدة غير التهنئة بالشهر الفضيل !!
كان مما قلت عن الصيام المسيحي : إنه لا يتضمن الطاقة الحرمانية التي يجبرنا عليها الصيام الإسلامي ، فالمطبخ المصري يستطيع أن يداور ويناور بإعداد أطعمة ، وأنواع من الحلوى خالية مما فيه روح ، أو ما أنتجته روح ، بالتفنن في الاعتماد على الغذاء النباتي والصناعي ، ( فكأنه في الحقيقة نصف صيام ) . أما عندنا فالحرمان المطلق سيد الموقف !!
لم أنس ذلك المساء الطريف ، ولعلي أضمرت أن آخذ حذري ، حين أوجد بين جماعة لا أعرف كافة أفرادها ، حتى لا أصيب قوما بجهالة فأصبح من النادمين ، ومع هذا فقد تكرر موقف أكثر شناعة من السابق ( في غير رمضان ) وسيأتي ذكره . أما الصيام المسيحي فقد عشته ( وعانيته ) في سكينة الرهبان ، حين قامت صداقة وطيدة مع أحد أبناء الفيوم النابهين : الأستاذ وصفي وديع ، الأديب الذواقة الناقد ، وقد جمع بيننا ( عشق ) أشعار صلاح جاهين ، وكان لابد أن يدعوني إلى بيته ، بما يترتب على هذا من تناول الطعام ( الإفطار أو الغداء حسب التساهيل – أو العشاء إذا كنت سأقضي الليل في استراحة الجامعة بالفيوم ) وكانت حرم الأستاذ – وهي سيدة فاضلة متدينة – تلتزم بأصول الصيام المسيحي ، وهكذا وجدتني أعيش الطقس نفسه بكامل أطرافه ودواعيه ، ومكوناته ( التي أجارك الله منها ) ، فإذا جاز أن تستسيغ طبق الفول في الصباح ، فإنك لا يمكن أن تستقبل مذاق طبق البصارة أو العدس في الظهيرة أو المساء ، لكن ابنيها كانا يفعلان دون ضجر ، أو اعتراض . أما صديقي وصفي ، فقد اعتبر المسألة (ملهاة) تستثير المداعبة ، ولا تبعث على الحنق ،وإن كان يخفي في مداعباته إعجابه بتدين السيدة حرمه،والتزامها القواعد المقررة .
ذات يوم قلت لوصفي : إن الصيام المسيحي – فيما يتراءى لي – إعداد وتفصيل لتصحيح الميزانية المصرية ، ميزانية الدولة ، وميزانية البيت أيضا ، فلدينا – في كل عام – خمسين يوما ليس فيها لحم ، ولا دجاج ، ولا سمك ، ولا سمن ، ولا لبن ، ولا بيض .. ما هذه الروعة في تأديب الجشع لدى التجار – تجار هذه الأنواع – وتأديب المعدة المصرية بأن تعود إلى عناصر وجودها التاريخية ، قبل أن تتحول إلى مدبغة !!
قلت هذا مخلصا ، ومازلت أقوله ، فهل نستطيع أن نحول شريعة الصيام المسيحي إلى نسق اجتماعي ( تأديبي ) لاستعادة توازن الميزانية المصرية ؟ ليتنا نستطيع ..
كل عام ومصر بخير ..

اترك تعليقاً