تناظر (1) – 21 مايو 2017

تناظر (1) – 21 مايو 2017

تناظر (1)
مساعدتي وقفت أمام مكتبي متهللة ، في يدها ثلاث ورقات ، قالت : الدعوة ، والتأشيرة ، والتذكرة ، سحبتها الآن من الجهاز ، السفر بعد غد ، بالدرجة الأولى ، بادلتها المودة ، قلت : الأولى .. الأخيرة ، المهم السلامة !! كانت الدعوة لحضور احتفالية ” يوم المرأة الكويتية ” والتحدث – بالمناسبة – عن الثقافة ودورها في الارتقاء بالواقع النسوي .
في الموعد كنت في المطار ، قالت موظفة الكاونتر : الأولى الممتازة ! لفت نظري الوصف . ركبت بالدرجة الأولى مرات ليست قليلة ، ولكن لم أكن أعرف أن في الطائرة ما يطلق عليه ( الأولى الممتازة ) . حين صعدت قادتني المضيفة إلى مقعد وثير خلف كابينة القيادة ، حدث هذا من قبل ، لكن الجديد أن هذا المقعد أمامه فراغ يسمح بتحوله إلى سرير !! ومن حوله حواجز تشعر النائم ، أو الجالس بأنه في خلوة خاصة ! هذا ما لم أره من قبل ، ولا علمت باستحداثه . حين هبطت الطائرة على أرض الكويت ، وقبل أن يفتح الباب – في كل مرة – مهما تعددت مرات السفر إلى تلك البلاد العزيزة ، لا أزال أذكر الهبوط الأول في 24 سبتمبر 1962 ، قرب منتصف الليل ، وكان الهواء ساخنا لافحا ، رغم الليل ، وقد ألقيت حقائبنا – نحن المدرسين المتعاقدين – قريبا من باب الطائرة ، عرفت حقيبتي ، فاتجهت إليها لأحملها ( بحكم الغريزة والألفة ) ولكن حمالا عملاقا ( إيرانيا ) هتف بي : اترك يا ولد ! عرفت أنني المقصود ، أخذت عبارته بمعنى الإهانة ( يا ولد ) ولكن شابا كويتيا من موظفي المطار تنبه لما يجري ، ولعله كان على خبرة بطبائع المصريين ، اقترب مني وقال : إنه لا يقصد الإهانة ، يا ولد يعني يا شاب ، وهو يريد أن يحمل عنك الحقيبة ، فهذا واجبه وعمله . في ذلك ” المستطيل ” المعزول بدعوى ” الأولى الممتازة ” توارد المضيف المصري ، فالمضيفة الهندية ، أو بالعكس ، شربت المياه المعدنية الفوارة ، واخترت الروبيان ( الجمبري ) بالصلصة والتوابل ، تغديت ، قرفص المضيف المصري إزائي يبادلني الحديث ، لم احتمل ، رجوته أن ينهض ، فيكلمني وهو واقف ، هل رأى الدموع في عيني ، أم لاحظ اختلاجة صوتي ؟ اختصر الكلام ، وانصرف بدعوى أن يحضر لي مزيدا من القهوة العربية ، فقد عرف أني أفضلها . هل هي مشكلة أن ترى نفسك في كل إنسان من بلدك ؟
لم يتوقف استدعاء تلك الصورة الأولى للوصول الأول على الرغم من عشرات المرات المختلفة عن ذلك المشهد القديم . حين نزلت ولا أزال في ظل جناح الطائرة التي غادرتها تواً ، تقدم شاب له قوام رياضي يلبس دشداشة شاهقة البياض ، ونادى باسمي كأنه يعرفني ، مد يده ، أخذ جواز السفر ، وتيكت الحقيبة ، وتقدمني إلى سيارة فارهة ، وفتح الباب . ركبت . أمام قاعة كبار الزوار نزلت ، تقدمت صبية بطاقة زهور ملونة ، شربت القهوة العربية ( الخضراء ) تفوح منها رائحة الهيل ( الحبهان ) ، ثم حملتني سيارة أخرى إلى شيراتون ، جلست في استراحة الفندق حتى أحضروا لي بطاقة الغرفة .
في العودة تكرر النمط ذاته ، لم أقف في طابور ، ولم اجرد من حذائي ، وحزامي ، وساعتي ، وموبايلي ، وكل شيء فيه معدن ، حتى لا تصدر بوابة المراقبة صوتها الكريه ، حملتني السيارة الخاصة السوداء الفارهة حتى باب الطائرة ، وأخذت المكان نفسه ، وجاءت المضيفة بالفوطة الساخنة ، ثم بالقهوة العربية ، ومعها حبة التمر . اخترت في الغداء لحما مشويا مع الخضار ، نعست قليلا ، تيقظت على مساعد الطيار يعلن أننا على وشك الهبوط في مطار القاهرة . كنا نجتاز طبقات السحاب ، ما لبث أن تراءى ( شريط النيل ) وبعد دقيقة تجلت كنيسة ( كليوباترا ) الشامخة بمصر الجديدة ، تبدوا واضحة مشرقة تحت ضوء شمس الظهيرة ، ثم لامست العجلات أرض المطار .
كان طابور الجوازات طويلا جداً ، حملني على أن وضعت حقيبة اليد على الأرض ، أزيحها برجلي ، كلما تقدم الطابور ، قاربت الإغماء ، تنبهت على موظفة الجوازات تمد يدها لتختم الجواز بخاتم الوصول : حمدا لله على السلامة ..

اترك تعليقاً