لا يا شيخ !! – 30 مارس 2017
لا يا شيخ !!
أريد أن أختصر الطريق ، وأعترف على نفسي بأنني لم أمنح أحداً ( على الإطلاق ) ثقتي الكاملة ، ولعلي في هذا – وهذا اعتراف آخر – ” أقرأ ” فيه عقلي ووجداني ، فمع غلبة طابعي وطباعي عليهما ، فإنني لا آمن نبواتهما ، أو خضوعهما لعوامل مؤثرة قد أجهل مصدرها تجاه لحظة أو موقف محدد .. حتى وإن كان هذا يحدث نادرا . ترتب على هذا الاعتقاد ( الشخصي ) أنني لم أنضم في حياتي لأي حزب سياسي أو غير سياسي ، لأنني لا يمكن أن أمنح ثقتي المطلقة لقيادة ، أو قيادات لا أعرف كيف تكونت ، ولا كيف تجمعت حول أهدافها ، ولا سر قراراتها التي تلزم بها أعضاء الحزب . وإن كان هذا النازع الاستقلالي لا يحول دون الميل والمآزرة ، والاشتراك الفعلي في فعاليات بعينها … إلخ .
من ثم : لقد أعجبت بصاحب الفضيلة الدكتور الشيخ ، وتابعت أحاديثه الدينية ذات الطابع العصري التحرري ، المقدر لضرورات الواقع المتجدد ، ومطالب المستقبل ، وحرصت دائما على أن أستمع إليه ( كل يوم تقريبا ) ، ولكنه ما لبث أن فاجئني بتعليقه على الحديث النبوي الشائع في مواعظ الفقهاء : ” إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ” صدق رسول الله – لقد آمنت بعبقرية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومن ملامح العبقرية في هذا الحديث الشريف ، هذا الترتيب التنازلي الرائع ، الذي يبدأ بتقديم ( النفع العام ) أو ما نطلق عليه ( خدمة المجتمع ) = صدقة جارية ، وهذه الصدقة يمكن أن تكون أرضا ، أو طعاما ، أو سكنا ، أو صناعة ، أو زراعة ، أو بناء مدرسة ، أو ملجأ ، أو مشغل للأيتام وأشباه الأيتام .. إلخ . وهذا نفع عام يؤثر إيجابيا في المجتمع ، بما فيه طلاب العلم ، على أنواعه . على أن العلم الذي يُنتفع به ، لم يحدد بنوع أو بمستوى ، فقد يكون وعظا دينيا ، أو تحفيظ القرآن ، أو إجراء تجارب في أي باب من أبواب العلم ، بما فيها الرياضيات ، والكيمياء ، وعلوم الفضاء ، وعلم النفس .. بلا تحديد ، حتى وإن اشتهر إطلاق مسمى العلم والعلماء على دارسي العلوم الدينية أكثر من غيرهم ، بالنسبة للمسلمين . فهذا التحديد عُرف ، وليس مصطلحا علميا .
وفي الحديث الشريف نال العلم الأهمية الثانية ، مع أنه موجه إلى الخدمة العامة كذلك ، فالعلم ينفع جميع البشر ، ولا يقتصر على صاحبه ، ولكن العلم ( العالِم ) بحاجة إلى مجتمع قادر على إعانته ، وإعالته ، وهذا ما تكفل به المبدأ الأول ( الصدقة الجارية ) ، ثم كانت الدعوة الصالحة من ولد صالح لأبيه في المرتبة الثالثة لأن المقصود بها شخص واحد ، حتى وإن كان الأب ، أو الجد مثلا .
هذا ما اقتنعت به ، وعددت هذا الحديث الشريف إعجازاً إنسانيا ، معرفيا ، أصوليا ، أُلهمه النبي الذي لا ينطق عن الهوى .
غير أن سيدنا الشيخ الدكتور ، وبعد أن روى الحديث ، قرأه قراءة خاصة ، غيرت في ترتيب الأوليات ، إذ رأى أن ( العلم ) الذي يُنتفع به ، أهم من الصدقة الجارية ، وهذا التصور له وجه ، لو أن القصد بالعلم يتجه إلى كافة الإبداع العقلي والعملي والوجداني والفكري ، غير أن الشيخ الدكتور ضرب مثلا بما يجعل هذا العلم هو العلم الديني ( فقط ) فذكر أن الصدقة الجارية أقصى مداها أن تؤثر لمدة خمسمائة عام ، أما كتاب الإمام النووي – كما ذكر الشيخ – فهو مستمر منذ ثمانمائة عام !!
وهنا نفترق ، فمن حقي ألا أوافق على هذه الطريقة في قياس الأفضلية ، ومن حقي أن أرى أن ” الصدقة الجارية ” قد أثرت في تطور الوعي الإنساني ، والارتفاع بكرامة الضائعين منذ أنشأها صاحبها ، وإلى ما شاء الله عبر مئات أو آلاف أو ملايين من البشر ، نالوا نصيبا من هذه الأعمال الخيرية ، أما الشيخ النووي ، وحتى كبار الأئمة الفقهاء ، فإن نص الحديث لا ينصرف إليهم دون غيرهم ، كما أن الاهتمام بالعلم فرض كفاية ، له أهله ، وأصحاب القدرة عليه ، أما تحفيز الإنفاق العام بإقامة المؤسسات العلمية والصناعية ، والصحية ، والإيوائية .. إلخ . فإنها مطلوبة .. مطلوبة في كل لحظة ، وفي كل يوم ، وفي كل عام ، دون توقف .