صفية الأوستن – 23 مارس 2017

صفية الأوستن – 23 مارس 2017

صفية الأوستن
من حقك أن تظن بي مالا أوافق عليه ، ولكني وجدته واقعا ماثلا ، متجسدا أمامي . الأكثر دقة أن أقول : وجدته بجواري ، لأن ما شاهدته ولم تصدقه عيناي للوهلة الأولى كان يأخذ موقعا في قفص معدني أنيق ، يتصدر محل بيع الحيوانات الأليفة والطيور الملونة ، المجاور لبيتي .
لا أستطيع – رغم مضي سبعين عاما على هذا المشهد – أن أدفع به طواعية إلى زوايا النسيان ، إنه ينتمي إلى الذكريات البهيجة المفرحة ، التي تستدعي ألوانها المبهرجة كلما مرت الذكرى .
كانت مفاجأة مبهرة أن فُتحت في قريتنا مدرسة بنات أولية ، ترتب على هذا حضور مدرسات ( غالبا من المنصورة ) إلى مدرسة قريتنا ، التي لم نتعود في مدارسها ( الذكورية ) غير الشيخ طه الناظر ، ومصطفى أفندي .. الخ !! أما الأبلة فاطمة ، والأبلة سناء ، فكانت أسماء جديدة على مسامعنا نحن مراهقي القرية ، الذين عرفوا طريقهم إلى مدارس المنصورة ، ولكنهم يعودون إلى القرية لحمل الزوادة الأسبوعية ، وقد رأينا نحن ( عفاريت ) القرية أننا الأحق بالتطلع إلى ( الأبلاوات ) ، لأننا الأقرب إليهن ، أو هكذا نرى ، ولذلك لم نعبأ كثيراً بتجمع شباب الفلاحين في نهاية الساحة التي تفضي إلى مدرسة البنات ، ثقة منا في قدراتنا التي لا نعرف مأتاها .
بسرعة تعلق كل واحد من شلتنا ( الصايعة ) بأبلة ، اعتبر نفسه مختصا بها ، وأنه أثير عندها أو سيكون .. لا محالة . وهكذا بدأت محاولات التقرب التي أفلحت أحيانا في تبادل تحية ، أو حديث مقتضب ، أو مناولة الكورة الشاردة في الساحة ، وقد يحدث أن يرسل أحدنا رسالة من سطرين مع قريبته التلميذة بالمدرسة .
كان من حسن حظي أن تعلقت بالأبلة صفية ، بهرني وجهها المستدير ، وشعرها الهائج مثل شعاع الشمس ، وقطرات النمش الخفيف الموزع على جوانب وجهها ، وكأنها عمل فني مقصود لاستكمال مظاهر الحسن . وكان من حسن حظي أن احداً من زملاء الشلة لم ينافسني ، إذ لم ير فيها الجمال الذي رأيته ، وقد أراحني هذا الشعور ، ولكن الأبلة صفية الرقيقة جدا في مظهرها لم تفكر أن تبادلني كلمة واحدة ، أو ترد على أية إشارة أبعث بها إليها ، ثم كان سوء حظي وصدمتي الكبرى في أنها جاءت إلى المدرسة بسيارة خاصة ، يسوقها شاب رياضي القوام ، يتقدمنا في العمر بعشر سنوات ، ويرتدي بدلة كاملة ، ولا تلبث يده أن تلعب بسلسلة ذهبية فيها مفاتيح السيارة التي قرأنا ماركتها فعرفنا أنها ( ماركة أوستن ) ومنذ ذلك اليوم أطلق أصدقائي علي الفتاة ( صفية الأوستن ) !! تكرر حضور صفية بالسيارة مما أوقع اليأس في قلبي ، وحاولت أن أبحث عن البديل ، فلم أجد مكانا شاغراً ، من ثم ظللت أشعر بالهزيمة والحسرة ، وحين انتهى العام الدراسي ، ركنا إلى السكون ، ومع استئناف العام الجديد لم تظهر صفية الأوستن !! وهكذا دخلتُ في حالة سديمية ( توهة ) لا أعرف هل أفرح أم أحزن ؟ غير أنني لم أتصورها زوجة لهذا الرجل الجميل ، الذي لا يمكنني إنكار جماله !!
مضى الزمن .. نسيت ” صفية الأوستن ” إلا حين تجدّ ذكريات القرية ، أو أرى وجها شبيها بوجهها الذي لا يُنسى !!
الآن .. عندي زوجة وقبيلة من الأولاد والأحفاد ، وذهبت ذكرى صفية الأوستن ، أو كادت ، ولكنني في آخر تجوال لي أمام محل بيع الحيوانات ، المجاور لبيتي ، فوجئت بتلك القطة التي حدثتك عنها ، وقد أيقنت أن روح صفية الأوستن حلت فيها ، إنها تشبهها تماما في استدارة وجهها ، في نظرتها القوية ، في شعرها الهائج كشمس النهار ، في نهوض قوامها على أسلاك القفص . تأملتها لحظة..ابتسمت لها ، وكأني أذكرها باحتمالات ود قديم!!
فهل تشاركني الآن – بعد ما رويت لك – أن تناسخ الأرواح حقيقة ماثلة ، أم أنك ستتهمني بنوع من هلوسة الشيخوخة ؟!

اترك تعليقاً