جبل الجليد – 27 فبراير 2017
جبل الجليد ..
تُستخدم هذه الصورة المجازية للتعبير عن ” مشهد ” ظاهر ، ينداح من تحته ما هو أشد خطراً ، فهذا مثل ” جبل الجليد ” الذي شطر ( تيتانك ) فهوى بهيبتها إلى الحضيض في أول رحلة لها !!
أبدأ مرة أخرى مستكملا موضوع ” الشر ” من زاوية مختلفة ، ففي معرض الكتاب صادفت كتاباً بعنوان ” مشكلة الشر ” ألفه : دانيال سبيك ، وترجمته : سارة السباعي ، ونشره المركز القومي للترجمة ، وفي فصله الأول ، طرح قضية وجود الشر في الحياة الإنسانية ، واستنتج من هذا الوجود دليلاً يشكك به ، في هيمنة الخالق سبحانه وتعالى على مصائر عباده ، بعبارة أخرى : يرى أن وجود الشر يوصل إلى الإلحاد ، بما يعني أن أحداث الحياة تمضي على غير إرادة حاكمة من إله واحد ، ولكي يوصل المؤلف قارئ كتابه إلى ما يراه نوعا من القياس المنطقي ، فإنه يبدأ بمسلمة : ( أن الشر موجود ) نراه في غرق طفل في حوض السباحة المنزلي ، بما يمثل مثل هذا الحدث من لوعة للأبوين ، وإتلاف حياة كائن برئ ، لم يصنع في حياته شيئا يقنعنا نحن بأن ما نزل به إنما هو عقوبة يستحقها !!
ويصور المؤلف ” بنية المشكلة ” – من وجهة نظر المؤمن – في خمس خطوات :
1- الله موجود .
2- الله كلي القدرة ( لا حدود للقوة الإلهية ) .
3- الله كلي المعرفة ( لا حدود للعلم الإلهي ) .
4- الله كلي الخيرية ( لا حدود للخيرية الإلهية ) .
هذه الخطوات الأربع التي يسلم بها المؤمن تتعرض – في رأي المؤلف – إلى هزة تعصف بها ، وتجعلها محل تناقض ، حين يعقب عليها بالخطوة الخامسة ، وهي أن :
5- الشر موجود .
وهذا الشر الموجود بدرجاته وأشكاله لا يمكن / لا يصح أن يكون على توافق مع المبدأ الرابع ، وهو أن الله كلي الخيرية ، ويشرح المؤلف ما يقصد بوجود الشر ، أو ما يمكن تسميته ” مشكلة الأشياء السيئة ” بأنها تعني : أن حدوث أي شيء أقل من جيد – بدءاً من السرقة البسيطة ، والإصابة بنزلات البرد ، وصولا إلى الإبادة الجماعية ، وأحداث الزلازل ، يجرح مبدأ القدرة الإلهية المطلقة ، والخيرية الإلهية الخالصة ، وقد يرى المؤلف : أن الله ( سبحانه وتعالى ) كلي القدرة – حال وجوده – كان باستطاعته أن يغلق الباب الموصل إلى حمام السباحة بهبة ريح صغيرة ، وأن يمنع شر البراكين بإجراء يعادل الحرارة بما ينفس عنها ، ويصرف شرها !!
بهذه الطريقة في الاستدلال انتهى دانيال سبيك إلى أن ( الإلحاد ) له مبرراته ، وأن ما يجري في الحياة من شر هو من قوانين الطبيعة التي تعمل وفق مساراتها التي لا نعرفها ، كما أنه من نتائج ضعف الخبرة البشرية ، بما تعايشه من شواخص العالم !!
هذا القول ليس بجديد ، وقد طرحه المتكلمون الإسلاميون منذ ثلاثة عشر قرنا ، أو تزيد ، اتخذ فيه ( المعتزلة ) موقفا ، واختلف معهم الأشاعرة ليس في مبدأ وجود الذات الإلهية ، وإنما في مبدأ : هل الله سبحانه وتعالى يريد الشر ؟ فإذا كان لا يريده ، فكيف يقع في ملك الله ما لا يريده ؟ وهذا معناه نقص القدرة الإلهية ( تعالى الله عن ذلك ) وإن كان يريد الشر ، فكيف يريد النقص ؟ والله هو الكمال المطلق اللامتناهي ؟
هذه قضية خلافية كبيرة كان ينبغي أن تكون حاضرة ، ليس عند المؤلف الغربي ، الذي يحتكم إلى منهجه القياسي ، وإنما عند المترجم العربي ، الذي يُفترض أنه حين يعرض لمثل هذه القضايا المؤثرة أن يكون على وعي بأبعاد القضية في شتى الثقافات ، والديانات ، وليس في حدود النص المترجم فقط . وبالنسبة لمشكلة الشر فإنها مثل ” جبل الجليد ” نرى منه المساحة المنظورة / المكشوفة ، في حين أن هذا الشر البادي يمكن أن يكون فيه خير كثير بمعانٍ أخرى ، ومستويات مختلفة ، ولنتذكر ما جاء في سورة الكهف عن موسى والخضر ، وعبارته الشهيرة المتكررة إنك لن تستطيع معي صبرا ، فهذا المؤلف يحكم في حدود المحسوس ، والرؤية المحدودة ، ويغفل – عمدا أو جهلا – أن مجريات الحياة غير قابلة لأوصاف نهائية ، وكأنها بطاقات على بضاعة معروضة ، فكم من خير يبدو ، وفي باطنه شر ، وكم يبدو العكس ، ولكن خلق الإنسان عجولا !!