بديع !! – 26 نوفمبر 2016
بديع !!
تحتفي البلاغة – في وجهها البديع – بأسلوب الجمع بين الأضداد أو المقابلة ، ولذلك احتفى البلاغيون ببيت المتنبي المشهور :
أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي
وعمدة الشعراء في ذلك بيت امرئ القيس المشهور في وصف فرسه : ( مكر مفر مقبل مدبر معا ) ، وقد تبدع الطبيعة كذلك حين تجمع بين الأضداد ، فلا تزال فواكه البلاد الاستوائية التي يلتقي فيها هطول المطر ، ولهيب الشمس من أنضر وأطيب الفواكه لمن ذاقها .
غير أن نوعا من الجمع بين الضدين يعد ” مجانة ” ، ونوع آخر يعد ” فضيحة ” ، ذلك حين يجتمع رجل في الخريف مع فتاة في الربيع ، فهذه مجانة . أما إذا كانت المرأة في الخريف والفتى في الربيع فهذه فضيحة وكارثة ، ومع ذلك فربما تحققت نجاحات بين هذا وذاك ، ولله في خلقه شؤون . فقد التقى ( الخريف ) بـ( الربيع ) ولا يذكر أحدهما – بعد مضي السنين – كيف بدأ الشغف وتحول إلى نوع من العبادة الوثنية ، أو تكاد ، وقد اتفقا على الزواج بإتمام مشروعهما الاتحادي .
وكما تضيع التفاصيل في مثل هذه الحالات الاستثنائية ، فإن أحدهما لا يكاد يذكر كيف تحرك الإعداد لبيت الزوجية المرتقبة ، وكيف أنه جرى قدر محدود من ” السحب على الحساب ” – باعتبار ما سيكون بينهما من مودة ورحمة ، كان همهما أن يحققا إمكان التلاقي ” السعيد والمثمر ” بين الخريف والربيع ، رغم أن التراتب في الطبيعة الذي فرض نفسه كقانون يحدد العلاقات ، ويفرض المناطق الحدودية ما بين المتاح والمحظور .
لكن حدث أن ” الخريف ” الذي استطاع أن يراوغ كل من حوله ، فلا يدركون وثبته التي يضمرها ، فإن ” الربيع ” لم تستطع ذلك . إذا رأت أن تحدث أسرتها عن مشروعها الخاص معتقدة أن مساحة الحرية المتاحة لها تعطيها الحق في هذه العودة الزمنية ، ولكن أفراد الأسرة اتحدوا علي ” الربيع ” وهددوه بإنزال عقوبات رادعة ، ومن هنا بدأ التردد ، فالخذلان ، وفرض جحيم الصيف نفسه ، فاصلا حتميا بين زمانين لا يلتقيان .
كان صعبا على الخريف أن يصطدم بحائط صدمة التخلي ، فربيع مصر الحقيقي في خريفها : وردها خريفي ، وفواكهها خريفية ، وفيضانها خريفي … !! في حين أن الربيع المصري مشهور برياح الخماسين ، وأمراض العيون ، وحساسية الجلد .. إلخ . وهذه المفارقة تستدعي التفكير في طبائع الإنسان المصري – رجلا كان .. أو فتاة – وهل يتسق التكوين العاطفي مع طبائع الفصول ( المصرية ) أم أن قانون الحياة العامة – على مستوى الطبيعة حتمية الحضور ، ولا مجال لمناقضتها ؟!
حين التقيا لقاء وداع ، حاولت فتاة الربيع أن تبرئ ساحة نفسها من تهمة الإيقاع بخريف يُفترض أنه متمرس بالحياة وأنه خبير بطبائع الربيع وتناقضاته . أما هي فقد اعتذرت عن نقوصها الفجائي بأن قالت – وملامح أسفٍ تغلف وجهها – لم يستطع أن يدرك بدقة هل كان هذا الأسف قناعاً مسدلا لتغطية موقف الانسحاب ، أم كان حزنا حقيقيا ؟ قالت : الخطأ يتعلق بالإجراءات ، قال لها : هذا كلام يشبه دفاع رجال القانون ، أجابت : أبدا .. أنا لا علاقة لي إلا بقانون مشاعري ، وهي كلها معك ولا تزال . قال : وما هذا الإجراء الخاطئ ؟ قالت بحكمة قد تبدو غريبة على فتاة في ربيع العمر : كان علينا أن نبادر بإنجاز مشروعنا في تكتم ، ثم ندافع عنه ، وقد أصبح حقيقة قادرة على فرض نفسها .