شاعر الزمن وفيلسوف المصير – الأستاذ سعد الفرج

شاعر الزمن وفيلسوف المصير – الأستاذ سعد الفرج

شاعر الزمن وفيلسوف المصير

حين هاتفني الصديق الفنان الأستاذ محمد عبدالله ليطلب منيّ المشاركة في إصدار كتاب تكريمي يحرره أحباء الأستاذ الفنان الكبير سعد الفرج وعارفو فضل أياديه على فن المسرح في الكويت خاصة وفي الخليج عامة تملكني قدر عظيم من الفرح ، ظهر صداه المباشر في شكري له واستجابتي لدعوته التي أيقظت في وجداني مسرات حسبتها خمدت لطول العهد بالغفلة عنها . ها نحن – بحمد الله – لا نزال أمة عربية تعرف الخير ولا تعدم جوازيه، وها نحن نسعى لتكريم فنان حقيقي جميل ، وهب ليالي المسرح ما تزهو به على سائر الليالي زمنا ليس بالقصير ، نفعل هذا في حياته – أطال الله عمره ، ومتعه بالعافية قدر ما أطال في حياة عشرات الآلاف من رواد مسرحياته ومشاهدي إبداعه الفني ، تمثيلا ، وكتابة ، إذ وهب لهم بسخاء الكرام ساعات من الرضا والسعادة ، وحفظ لهم اتساق نفوسهم، وسكب نورا في ضمائرهم وعيونهم على السواء . نعم لقد صنع سعد الفرج كل هذا وأكثر منه، وهو أكبر من أن يمسك الدفاتر ويقلب الصفحات ليطالبنا بردّ قدر وإن يكن ضئيلا من فواكه وأزاهير حديقته المثمرة الفواحة ، لقد أشفق على عجزنا فظل – كما عهدناه – يضمر لنا – نحن جمهوره – الودّ الصامت الحييّ ، ولم يطالبنا بأن نعيد إليه بعض ما أفاض على قلوبنا نحن معاصري وقته ، وما زال يتجدد كمواسم الربيع في قلوب الأجيال التالية . لقد أنقذنا بحق رجال المسرح في إمارة الشارقة ، أنقذونا من التعثر في العجز وقصور النظر وغفلة القلب إذ احتوانا السكوت فلم ننتبه لواجبنا تجاه هذا الفنان العملاق ، وأوشك الزمن أن يطوينا بغلائل النسيان، حتى جاء البشير من هذه الإمارة الفتية المؤهلة لأن تكون منارة ثقافية لا تخبو لها نار ولا ينطفئ لها نور . ” الشارقة ” خليقة بالسؤدد ، وأميرها المعظم الدكتور سلطان بن محمد القاسمي رجل فكر وثقافة ، مبدع يملك رؤية ، كاتب يرعى قضية ، لا يجد تعارضا بين هذا وكونه أميرا جليلا له واجباته ومسؤولياته التي يواجهها مع إشراقة كل صباح . فليس بدعا أن اهتزت الأرض في الشارقة وربت وأنبتت من كل فن بهيج ، وليس بدعا أنها التي فطنت لحقوق الأحياء فعملت على تكريمهم فلم تنتظر أن تصدر عنهم الكتب التذكارية لتعيد إلينا بعض أنفاسهم عبر دوائر الحنين !! شكرا لك أيها الأمير أعظم الشكر ، شكرا لنبلك وكرمك ، وهو المأمول لمحتدك وروعة أعراقك ، وليس هذا أول التفاتاتك المعجزة التي بهرت عصرك بلماحيتها وآماد نظرها وسخاء دلالتها،ولن تكون الأخيرة ،” وهل ينبت الخطيّ إلا وشيجه ” ؟!

لقد اقتربت من سعد الفرج بعض الوقت ، وشاهدته في أكثر ما أدىّ على خشبة المسرح، وأكثر ما تجلّى على الشاشة الصغيرة ، وحكى عنه بعض أصدقائه في مجالس السمر إذ كانت الكويت منزلي . ولقد أجمعت هذه المصادر على اختلافها في الوسيلة واندياحها في الزمن ، أنه رجل صدق ، وأن هذا الصدق يستقي نضارته من نفس طيبة وضمير حيّ وتواضع جم لا يقدر عليه إلاّ من يعرف للناس أقدارهم كما يعرف قدر نفسه ، ويحفظ لهم كرامتهم دون تنازل عن كرامته . إنني أبدأ بذكر هذا الجانب الشخصي قبل أي جانب آخر ليس لأنني أعرف أنه الأبقى وحسب ، وإنما لأنني أدرك أن سائر ما يمارس الإنسان في رحلة حياته من عمل مهما كانت وجهته أو أداته ، يبقى أثره – من الإيجاب أو السلب – مستقرا على قاعدة من هذا الإيمان الشخصي بالذات ، وبالآخرين . وفي مجال الإبداع الفني خاصة – وفي مقدمته التأليف والتمثيل – لن يستطيع كيان فاسد أن يقنع الناس بالصلاح ، وإن ظل يختفي وراء الأقنعة الزائفة طوال عمره . إن سعد الفرج هو الكيان الصالح، الذي برئ قلبه من الغل ، ومن المكابرة ، ومن الطمع . لقد اعتنق الحقيقة ، وتدرج في اكتشاف آفاقها ، ثم أبحر في محيط الممكن وخاض تجربته ، فسلمت له سفائنه ، وعاد يحمل بين يديه أبهى اللآلئ ، التي فرقها بيننا ، فما منا من أحد إلاّ وهو يحمل له ذكرى طيبة، أو كلمة واثقة ، أو لفتة صادقة ، ” إن الرائد لا يكذب أهله ” ، وسعد الفرج رائد له جهاده الفني الخاص الذي يقدره له من يملكون طبائعه .

لقد نشأ سعد الفرج – فنيا – في ساحة المسرح المرتجل ، في زمنه المبكر ، فكان رفيقا لجيل المؤسسين وأكثرهم شبابا : محمد النشمي وعقاب الخطيب وصالح العجيري وعبدالله خريبط . ولكنه كان واحدهم الذي تنسم اتجاه الريح واستوعب إرادة التغيير فحول شراعه إلى معهد الدراسات المسرحية . وارتضى تدريبات زكي طليمات وصبر على اقتحاماته حتى أدرك سر الصنعة واقترب من خفايا الموهبة ، فكان صاحب دور في أول عروض فرقة المسرح العربي ( صقر قريش – مارس 1962 ) وما تبعها ، ثم كان أول من ألف مسرحية قصيرة أخرجها طليمات نفسه ( أسأرثوني وأنا حي – فبراير 1963 ) ثم كانت مفاجأة ” عشت وشفت ” التي تحدت المألوف في موضوعها ، كما في اعتمادها على كوادر كويتية دون مشاركة ، كما في عدد ليالي عرضها ، وهي – إلى اليوم تعد عملا مؤسسا لا يمكن إغفاله حين يكون الموضوع هو نشأة فن المسرح في الكويت وأسس تطوره ووسائل تنميته ، وليس رصد انطباعات الهواة من أصحاب المغامرات المبكرة التي تحولت إلى ذكريات .

إن مما تتميز به شخصية سعد الفرج هو هذا الإحساس الرهيف بحركة الزمن ، هذا الإحساس الذي لا نجده إلاّ عند أصحاب البصيرة من المفكرين والشعراء خاصة ، وكذلك الاهتمام بالمصير ، ليس مصيره الفردي . فهذا ما لا يمثل عنده هاجسا يستحق أن يتوقف عنده ، وإنما المصير الاجتماعي ، والوطني ، والإنساني ، وهذا واضح فيما كتب من مسرحيات ، بصفة خاصة ما انفرد بكتابته في تجاربه المبكرة ، وهما مسرحيتان على قدر من الجدية في الفكرة ، والمهارة في التشكيل الفني ، والقدرة على تجاوز الذات الفردية إلى ما هو مصير عام يستحق أن نتوقّى خسائره باتخاذ التغيير مطلبا ، منذ الآن ( آن المسرحية وليس اليوم ) هذا ما تقوله مسرحية ” عشت وشفت ” ومسرحية ” دقت الساعة ” ( أو : الكويت سنة 2000 ، وهو العنوان الذي عرضت به أول أمرها ) .

إن هذا الفنان الموهوب يملك فضيلة المرونة التي تجعله يتقبل تطوير أو تطويع إمكاناته لتتجاوب مع مراحل كل مرحلة من مراحل عمره . لقد سافر للتدرب في أمريكا ، حدث هذا بعد أن استقرت شهرته وأصبح مطلوبا بقوة في كل محاور الإبداع التمثيلي على مستوى أقطار الخليج . لم يقصّر في أن ” يشاهد ” و ” يجدد معارفه ” . فضلا عن أنه ، وهو الذي خاض تجربة التأليف قبل غيره من الذين احترفوا الكتابة المسرحية بعد ذلك ، لم يجد بأسا في أن يعد بالاشتراك مع عبد الأمير التركي تحت مظلة فرقة خاصة ( المسرح الكوميدي ) ثلاث مسرحيات على التتابع : ( حرم سعادة الوزير ، وممثل الشعب ، والدمية المفقودة ) كما اشترك مع عبد الحسين عبد الرضا في تكويت مسرحية ” مطلوب زوج حالا ” عن صيغتها المصرية . كما أنه أعد مسرحية ” حط حيلهم بينهم ” ( يونيو 1968 وقد مثلها المسرح العربي ) . وكما أعدّ مسرحية مؤلفة بالاشتراك مع آخر ، فقد ألف بالاشتراك أيضا ، إذ ألف مع عبد الحسين عبد الرضا مسرحيتين لقيتا نجاحا واضحا ، وكانت استجابة النقد الصحفي لهما إيجابية غالبا ، وهما ” بني صامت ” و ” ضحية بيت العز ” تحت مظلة ” مسرح الفنون ” ومن المتوقع أن سعد الفرج قد شارك في أداء دور البطولة في جميع هذه المسرحيات التي أعدها أو شارك في إعدادها ، بل إنه تولى إخراج مسرحية ” ممثل الشعب ” التي اشترك في إعدادها ، كما اشترك في تمثيلها . ولم يكن سعد الفرج منغلقا على الفرقة المسرحية التي نشأ في حجرها ، فقد كان وجها من وجوه مسرحية ” فلوس ونفوس ” التي كتبها عبد العزيز السريع ، ومثل فيها صقر الرشود !! ، كان هذا عام 1970 .

إننا في هذه الومضات السريعة لا نكتب تاريخا فنيا أو ثقافيا للأستاذ سعد الفرج ، وإنما نسطر تحية ودّ وتقدير واحترام لفنان صادق الموهبة ، تشرب حبه لفن المسرح من مصادره المختلفة ، وأعطاه جهده وإبداعه ، فكان واحدا من البنائين المعدودين الذين سيحتفظ لهم تاريخ المسرح في الكويت بصفحات ناصعة في سجله ، وكذلك ستظل تذكره الدراما التليفزيونية ، ولقد ضمن له أداؤه المتوازن الهادئ ، ونبرته الصادرة عن طبيعة الموقف الدرامي ، ضمن له هذا مكانا متميزا في الفنين معا : المسرح ودراما التليفزيون ، على ما بين أساليب الأداء فيهما من تباعد ، قد يصل حد التناقض ..

 

الأستاذ القدير .. الفنان سعد الفرج

حفظ الله حياتك ، وأدام إبداعك ، وأفاض عليك من الرضا ، وإن ألسنة الخلق أقلام الحق لتشهد لك بأنك شخصا كنت دائما إنسانا جميل الحضور ، قريبا إلى النفوس ، وبأنك فنا كنت إضافة رائعة وثقة ضامنة لكل عمل تؤديه تمثيلا ، أو تسطره كتابة .

ويتجدد الشكر لمن أقالوا عثرتنا ، وستروا تقصيرنا في أداء واجب الحفاوة بك ، وإعلان المحبة لشخصك ، وعظيم التقدير لمواهبك المتعددة .

 

 

 

اترك تعليقاً