الممكن في صورته البهية ( الدكتور يوسف نوفل )

الممكن في صورته البهية ( الدكتور يوسف نوفل )

الممكن في صورته البهية

في تقديم تحية تذكارية لصديق في احتفال خاص به ، لست مشغولا بتحليل الشخصية ، ولا هذا في مكنتي ، كما أن المناسبة الإحتفائية لا تطلبه ، غير أن المشهد الذي طغى على سطح الذاكرة هيمن على ذلك التيار الذي وجّه الشراع وساقه في مساره . كان المؤتمر سيعقد في مدينة بورسعيد ، وكان الحشد له هائلا عظيم التنوع ، ولعلي شعرت بقدر من الغبطة أن أزور هذه المدينة ذات الحضور الزاهي في ضمير النضال القومي ، وأن أكلّف بإعداد دراسة في أحد محاور المؤتمر . وبطريقة عرضية سألت عن رئيس المؤتمر – وهي رئاسة رمزية شرفية ذات وجه احتفالي – فقيل إنه الدكتور يوسف نوفل !! لحظة صمت للتفكر في الشخص والمناسبة ، وقبل أن أضع احتمالات هذا الاختيار قال محدثي : إن الدكتور يوسف من بور سعيد !! من غير أية شائبة ضغينة قلت – على طريقة قاسم السماوي المرحة – قلتها في نفسي بالطبع : وهل يوسف نوفل وحده من بورسعيد ؟ وهذه المنصورة ، على شهرتها بالأدباء والشعراء لم يحدث مرة أن وجهت إليّ دعوة لحضور واحد من احتفالاتها المتكررة ؟ ورحت بدلا من أن أسأل نفسي : هل الفضيلة في يوسف نوفل بشخصه ، أم في بورسعيد بأدبائها ؟ رحت أتساءل : هل العيب في المنصورة وأدبائها ، أم في شخصي ؟ وكان طبيعيا ألاّ أصل إلى صيغة حاسمة في الموضوع ، ولعل هذا دفعني في اتجاه ” المثير ” الأصلي ، فرجعت أسأل الأديب البورسعيدي قاسم مسعد عليوة ، وهو رجل مخلص لفنه ، ومبدئه ، نقي في خلقه وسريرته ، وأنا معجب بقصصه دون تحفظ ، فقال : الدكتور يوسف ابن بورسعيد ، وهو يمثلنا في العاصمة ، يحافظ على علاقته بمدينته ، ويحتوي كافة مبدعيها ، يشجعهم كتابة عنهم وحضورا في مناسباتهم ، وينهض للقائهم والحفاوة بهم في القاهرة ، أما شخصيته الأدبية ، أو النقدية … قاطعته : عن هذا الجانب أنا أحدثك ، وقد شهدت بداياته ، وحتى إعداد أطروحة الدكتوراه عن أدب محمد عبدالحليم عبدالله ، وقد وفى لهذا الرجل الذي هجر أدبه النقاد والدارسون فعانى الإحباط في حياته ، كما تعرض فنه الأدبي – للإهمال عقب رحيله ، وفي الزمن الذي انشغل فيه الجميع بنجيب محفوظ كان يوسف نوفل أول من أضاء مصباحا فوق مؤلفات عبد الحليم عبدالله ، لم يكن يعاند التيار ، وكذلك نستبعد منطق البحث عن فرصة … الحقيقة التي دلت عليها كتاباته بعد ذلك أنه حريص على أن يختار لموطئ قدميه مكانا مسكوتاً عنه ، يحتاج إلى لفته إلى أهميته ، قد لا تكون الكلمة الأخيرة في موضوعها ، ولكن الأهم أنها الكلمة الأسبق . وهذا ما نلاحظه في جملة عناوين مؤلفاته . لم تجمعني مع يوسف نوفل مؤسسة واحدة ، لكن جمعت بيننا اللجان العلمية لمناقشة رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه ، وجمعت بيننا المؤتمرات ، والندوات ، وقد قرأت عددا من مؤلفاته ، كان بعضها بإهداء كريم منه ، وفي فترة شغله لموقع ( وكيل كلية البنات – جامعة عين شمس ) قام بأكثر من سياحة علمية في أهم أركان العالم الثقافية ، ومنها أمريكا ، وفي حمّى اشتغالي بتحرير معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين ، كانت المفاجأة أن أصدر الدكتور يوسف نوفل معجما في ذات الاتجاه ، خاص بالقرن العشرين الحافل بالغزارة والتنوع وتعدد مصادر المعلومات بما يخرج عن طاقة العصبة أولي القوة ، ولكنه عبأ شراعه وانطلق وحيدا في البحر اللجيّ ، وكفاه قدرا هذا الإبحار المنفرد ، أما تقدير الثمرة فمتروك – كما هو حالنا دائما – لتقلبات الزمن ووجه مطالبه المستقبلية .

أول ما رأيت الدكتور يوسف نوفل كان بغير دكتوراه ، وبغير ماجستير ، كان شابا هادئ الحركة ، قليل الكلام ، متزن الصوت حتى تظن أنه يتكلف هذا تكلفا . وكان يجلس في ركن من ” ديوانية ” رابطة الأدباء في الكويت لا يكاد يغيره ، وكان يحرر مقالا أسبوعيا قصيرا في مجلة ” عالم الفن ” التي تصدرها رابطة الفنانين في الكويت . كان الأستاذ الإعلامي الكبير عبد المجيد شكري رئيس التحرير الفعلي لهذه المجلة ، وكان يحرر نصفها – على الأقل – بيده . ولم يرقني أن يحرر يوسف نوفل مقالته القصيرة بهذه المجلة ( الخفيفة ) حتى بعد أن أطلعني على ما كتبه عن كتابي : الواقعية في الرواية العربية . كنت لا أزال أعيش في سمادير خصوصية الأكاديمية وترفع الكتابة النقدية وأهمية أداة التوصيل ( أو الوصول ) إلى القارئ . لم يمض زمن طويل حتى أصبحت صديقا لعبد المجيد شكري ، وطلب مني أن أشارك في تحرير عالم الفن ، فلما أبديت اعتراضاتي واجهها باعتراضات مقابلة : فمن للقارئ العادي إذا انصرفت الكتابة الجادة عن المجلات التي تبدو بسيطة ، أو حتى سطحية ؟ وإذا لم يرتفع الكتاب الجادون بالمجلة فكيف تستطيع أن تنهض وأن تكتسب قارئا إضافيا يقدر الجدية ويبحث عنها ؟ الخ .

أقنعني الأستاذ شكري بصداقته ودماثة خلقه وسعة علمه أكثر مما أقنعتني حججه ، والمهم أنني أصبحت ( بفضله ) واحدا من كتاب مجلة عالم الفن ، ومن ثم لم يعد باستطاعتي أن أوجه اللوم ( المضمر ) إلى يوسف نوفل بسبب كتابته في تلك المجلة ، فقد أصبحت من سالكي طريقته ، أو من مريديه .. إذا شئت .

الدكتور يوسف نوفل يلتقي معي في جمعه بين الأكاديمية ، والكدح الإبداعي ، وما بيننا من فرق أنه ينظم الشعر ، وأنا أكتب القصة القصيرة ، وكنت أكتب الرواية . الشعر يناسب يوسف نوفل ، فهو ” محبكها ” ، كل شيء عنده بقدر ، وكل كلام له ما وراءه ، وكل حركة منه أو من غيره محسوبة . وهذا شأن الشعر في تكوينه اللغوي والإيقاعي والدلالي ، وأنا ” هليهلي ” – على مبدأ : علينا أن نقول وعليكم أن تعربوا ، وطريقه : اضحك .. الصورة تطلع حلوه ، فإن لم تضحك .. هذه مشكلتك !!

أعتقد أنني ضحكت أيضا وأنا أسطر هذه الكلمة المختصرة التي لا ترقى إلى مستوى تقديري وإعجابي بالدكتور يوسف نوفل ، لكنه جلدي الذي لم أفكر في تغييره ، ربما لضيق ذات النفس ، فليس لي فيه حيلة ، كما أنه – يوسف نفسه – ليس له في هذه الكلمة حيلة ، ستأخذ مكانها في سياق الحفاوة به ، وأنا سعيد بهذا ، وغالبا ستبدو عليه السعادة ، لأنه وطول عمره ” صاحب واجب ” ومن ألزم الواجب : أن تبدو عليه السعادة ، أما قلبه … فلم يصل إليه أحد !!  

اترك تعليقاً