أفندي من الزمن الجميل ( الأستاذ محمد المتولي عبد الرحمن )
أفندي من الزمن الجميل
ستون عاما (الآن أصبحت ثمانون عاما) .. زمن طويل في حياة قرية ، على الأقل تحولت القرية إلى مدينة ، ولكن هذا الزمن الطويل .. مجرد (لحظة) في حياة إنسان ، وبخاصة حين يكون هذا الإنسان من طراز الأستاذ الجليل محمد المتولي عبد الرحمن ..
الطراز الذي يحمل عقيدة العمل بغريزة النحل .. المحصن ضد اليأس ، القادر على ممارسة دوره بكفاءة ذهنية وخلقية وعملية تحت أية ظروف . في زماني – منذ ستين عاماً – كانت تمي الأمديد قرية ليس عليها بهاء القرى ومظاهر رغدها ، لم تكن فيها – تقريبا – شجرة واحدة ، لولا عدة نخلات أمام المدرسة الوحيدة ، لما رأيت بين دروبها ظلا أخضر ، وهي الآن مدينة بها عدة مدارس بعضها عالي المستوى . لا يستطيع (الزمن) أن يصنع التغير البنائي ، الإنسان هو البناء الحقيقي .. وفي هذا السياق تتجلى شخصية هذا المعلم الذي عرفناه (محمد متولي) ولو قلت (محمد أفندي) فقط ، فالمسمى هو نفسه دون غيره ، كان معلماً بالمدرسة الوحيدة ، كان فتى شديد النضارة ، شديد التهذيب ، شديد الجدية ، في أداء عمله ، برغم أن عمره لم يكن يزيد عن عمرنا – نحن الأطفال أو الصبية من تلاميذه – أكثر من عدة أعوام .
في الجواب على سؤال تقليدي : من الذي أثر فيك من جيل الأساتذة ؟ يسطع اسم محمد أفندي متولي – كما كنا نسميه نحن التلاميذ – ويفرض نفسه متجذرا في الضمير بالحب والولاء الواجب وطهارة اليد وعفة اللسان . قد تظهر الدهشة على ملقى السؤال الذي كان يتوقع أن ينهض الجواب على أسماء من أساتذة الجامعة فإذا بي أعيده إلى المرحلة “الإلزامية” ، ولم يكن هذا الانحياز الذي لا أزال مقتنعا به ، يتأسس على وعي تربوي بأهمية التنشئة الأولى ، وحسب ، وإنما يستصفي بالخبرة والمقارنة أكثر الأساتذة نقاء وصدقا حيث يتطابق القول والعمل ، وحين يكون العمل نفسه درسا حيا ، يبرهن على الدرس الذي تحتويه الأوراق ، وهذا الاقتدار الخاص هو فطرة في الأنبياء الذين يحرسهم مبدأ العصمة والرعاية الإلهية ، أما في غيرهم فهو جهاد النفس ووعي الضمير ، وهكذا كان الأستاذ (أستاذي) محمد المتولي عبد الرحمن ، الذي يأخذ في عقلي وقلبي مكانا أسبق إلى جانب الأستاذ الدكتور محمد غنيمي هلال ، خريج السربون ، ومؤسس علم الأدب المقارن في الثقافة العربية الحديثة ، ثم لا تستبقى الذاكرة غير عدد قليل جدا يقف خلفهما ، هذا على الرغم من كثرة من عرفت ، ومن خالطت ، ومن قرأت له ورأيت مدى ما بينه وبين ما يكتب .
بهذه الدرجة من الصدق والتطابق بين القول والعمل استطاع الأستاذ أن يتسع صدره بكل السماحة والنقاء والإيمان بالجماعة – للأجيال الجديدة من تلاميذه ، بل من تلاميذ تلاميذه ، فيعمل بهم ، ومعهم ، ولهم : يرشد ، ويساند ، ويسدد ، يمثل إضافة حقيقية ، مؤثرة ومطلوبة ، بل لا غنى عنها ، في كل عمل عام ، يستهدف نفع المجتمع ، سواء في حدود القرية ، أو المنطقة .
إن آخر (وظيفة) تربوية شغلها ، حسب إمكانات قوانين ولوائح الوظائف العامة : رئيس قسم التعليم الابتدائي بالسنبلاوين ، وهو موقع يتوق إليه آلاف المعلمين ، ويعدونه (جائزة) ختامية مناسبة في موقع قيادي ، يعفي صاحبه من استخدام الطباشير – غير أني لا أعتقد بأن (محمد أفندي متولي) معلمي الذي أعرفه ، وأعرف حياته الحافلة بالجهاد الحقيقي الذي يحول كل موقع شغله إلى نوع من المنازلة لكل عوامل الإحباط والخمول والاستسلام للنمطية ، لا أعتقد أنه كان (رئيس قسم) يتحرك في إطار المألوف والمأمون للموظف العام في جهاز الدولة ، فقد كان – في الفترة ذاتها – نجما يتألق في محيط العمل الشعبي العام ، ويؤدي دور المرفأ الآمن لكل قوى العمل الشبابي من أبناء القرية والمنطقة سواء منهم من أصبح من رجال القضاء المرموقين ، أو انتهى إلى الأعمال التجارية والمقاولات ، أو الطب ، أو الهندسة ، أو الصحافة ، أو ظل في سلك التعليم .. لقد استوعب الجميع ، واستطاع بالحجم الهائل للثقة في شخصه أولا ، ولدرجة الاقتناع بالأهداف التي يسعى إلى تحقيقها لصالح المنطقة .. استطاع أن يوحدهم اهتماما واتجاها وفكرا ، وما كان هذا ليتحقق لولا درجة الحب وقدر الاحترام المذخور ، الذي تحمله هذه النفوس المختلفة للشخص ذاته ، والثقة به ماضيا وحاضرا ومستقبلا ، لقد تفرق أبناء تمي الأمديد في الوظائف ، والمواقع ، والمستويات (المادية والعلمية) ولم يعد من اليسير تجميعهم في المكان أو حول الهدف الواحد ، ولكن هذا قد حدث بجهد الأستاذ ، وكرامة له ، وتقديراً لنبل مقاصده .. لقد تركنا قطعة من قلوبنا بين يديه ، كانت رهينة لا تسعى إلى الفراق ، وبالأحرى كانت تستدعي وتستحيي وتبث حياة الماضي في الآتي فإذا هو حاضر زاهر ) لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ، ولكن الله ألف بينهم( على يد هذا الأستاذ النبيل .
حين أذكر أن “الأستاذ” لا يزال حاضرا في القلب ، مضيئا في الضمير ، فإن هذا لا يدخل في نطاق المجاملة أو المبالغة ، وسأذكر ما يؤكد هذا ، فقد كتبت قصة قصيرة بعنوان “الدرس الأخير” – وقد نشرت هذه القصة بمجلة العربي – التي تصدر من الكويت – العدد 328- مارس 1986 ، وهي القصة المرفقة بهذه الكلمة ، وهي من قصص “الشخصية” أي التي يبني خطها الأساسي على تصوير الشخص باطنا وظاهراً وسلوكا بما يميزه ، ويبرر اتخاذه محورا لعمل فني . في قصة “الدرس الأخير” يتجلى محمد أفندي متولي ، باسمه ، وصفاته ، وأخلاقه ، وبعد نظرته . لم أكن لقيته لسنوات حيث كنت أعمل بجامعة الكويت ، ولكن .. برغم اختلاف المكان ، والزمان ، والعلاقات ، وتعدد الطبائع البشرية ، ونماذج الشخصيات .. وبعد احتضان لفكرة القصة يتجاوز أربعين عاما فإن الشخصية/الأصل ، فرفضت نفسها ، صاغت نموذجها ، بدأت من الماضي المتحقق ثم تطورت – بالحدث والتخيل – في اتجاه المحتمل الذي تمليه طبيعة الشخصية ويتفق ورؤية كاتب القصة للشخصية الأثيرة ، فكانت هذه النهاية للقصة ، نهاية “لم تحدث” واقعا ، ولكنها تأتي منسجمة تماما مع جذور ما حدث في الماضي ، والمنطق المعتمد المتوحد في الهدف وخدمة المجتمع من منطلق الإيمان بالديمقراطية ، وأهمية التجريب والممارسة العملية في مجال التربية السياسية بصفة خاصة . وهنا اذكر أمرين أحدهما يخصني ، والأخر يخص الشخصية الأصل .
أما ما يخصني فقد تم انحياز الانتقاء لصالح النموذج : المعلم العملاق الجميل النبيل ، القادر على تخطي الراهن وقراءة المستقبل بطريقة عميقة وبعيدة عن الهوى والوقوع في اسر عثرات الحاضر وتحريفاته . في نفس الوقت كان الكاتب يستبعد من أفق الكتابة الأمور الصغيرة التي يمكن أن تشتت تلقى القارئ لهذه الشخصية المحبوبة ، فقد كنا نعرف .. حين صرنا سنة رابعة ، وكان محمد أفندي يعلمنا اللغة العربية والدين ، وكان فوق العشرين من السنوات بقليل ، ولم يكن متزوجا ، كما نعرف ونحن على مشارف المراهقة – أن محمد أفندي “يحب” – هكذا باللفظ الذي لا بديل له في لغة القرية – فتاة شقراء جميلة ، تقف أحيانا قريبا من دكان إبراهيم أفندي – (وهو البقال الوحيد فيما اعرف الذي يحمل لقب أفندي من زبائنه ، لأنه كان يعتمر الطربوش على الجلباب الأبيض النظيف ، وأحياناً على البدلة إن كان على سفر) – الذي يتصدر بيوت الحارة . كانت حسناء القرية فوق مطامحنا ، فنحن لم نكن نزيد عن حفنة من الغربان القروية ممصوصة الدم لفقر التغذية ، وهي أيضا تكبرنا سنا ، أما محمد أفندي فكان – في ضمائرنا – الذي يليق لها – أو تليق له – بل إنه – عندنا – احسن منها بكثير ، ولكنها – على الأقل – معبودة جماهير القرية في ذلك الحين … لقد تم استبعاد هذا المحور ، فلم تقل القصة إنه كان – أحيانا – حين ننشغل بالنقل عن السبورة – يتسلى بالمرور بين مقاعد التلاميذ ، فإذا حاذى النافذة الواسعة المشرعة في اتجاه دكان إبراهيم أفندي تمهل قليلا في مشيته ، وانطلقت سهام نظرته تشق الساحة الممتدة لتستجلي .. حدث الاستبعاد رعاية لعنصر التركيز على المشهد الختامي في القصة ، وهو “الدرس الأخير” الذي لقنه للأجيال الجديدة التي لم تعرف معنى الممارسة الديمقراطية وحق الاختيار ، وأرجح كذلك أن هذا الاستبعاد حدث تقديرا لشخص النموذج الأصل ، الذي كان دائما أكبر من التطلع إلى حب فتاة (سواء كان هو الذي أحبها ، أو هي التي كانت تحبه) فقد بدا انشغاله – دائما – بتلاميذه وبرسالته التربوية أقوى من أي شاغل آخر .
أما ما يخص الأستاذ نفسه ، فإنه كان قد قرأ قصتي المنشورة بمجلة العربي – وهي تحمل اسمه الصريح ، صفاته ، وتفرض على لسانه أقوالا ، وتنسب إليه أفعالا لم تكن ، وإن تكن اقرب ما تكون إلى حركة ضميره واتجاه فكره . حين التقينا مصادفة على الطريق ، عائدين من المنصورة – ترجل عن سيارته التي يقودها ولده ، وضمني إلى صدره ، وكانت هذه الحركة الحادبة التي حدثت وقد تجاوز العمر الخمسين ، تحقيقا لمشهد الأشواق المعلقة أربعين عاما ، لم تتخل فيها صورة “الأستاذ” عن ألوانها الزاهية وأريجها المفعم بالروح والراحة ، وكان متفهما لدوافع ومطالب العمل الفني ، التي تتجاوز الواقع ، وقد تنسب إليه مالا يرتضيه مع ذكر اسمه الصريح .
في زمن طفولتي كان معلم المدرسة يحمل بحكم وظيفته لقب ” الأفندي” أما البك والباشا فكانت لهما مواصفات أخرى . ثم جاء عصر يوليو 1952 ليستقر لقب “الأستاذ” ويختفي الأفندي مع اختفاء الطربوش .
أيها “الأستاذ” ، حفظ الله عهدك ، وحياتك .. لازلت “أفندينا” بكل معاني الكلمة ، لن تفكر جهة ما في تقديم وسام إليك ، يرمز لشرف قيامك بواجبك كاملا أكثر من نصف القرن . ربما – في بلاد أخرى – كنت تجد هذا التقدير الرمزي الذي يشرف المانح كما يشرف الممنوح له ، فالآن ، وقد كنت دائما منكرا لذاتك ، باذلا ، وليس آخذا ، تقبل من أحد تلاميذك هذه الكلمات المحبة المحدودة ، لعاطفة تقدير لا تعرف الحدود .
[ كتبت هذه الكلمة في حياة “الأستاذ” محمد المتولي عبد الرحمن ، وتوفي بعدها بعدة أيام ، في 14/9/2000]