صورة من قريب ( الدكتور محمد عبد المطلب )

صورة من قريب ( الدكتور محمد عبد المطلب )

محمد عبد المطلب : صورة من قريب

 

لقد اكتمل ربيعه الثاني والسبعون منذ ثلاثة أيام ، فاجتمعت بين يديه منارات الرؤية وبحار المعرفة ، ورونق الحلم والسماحة .

أقلب الأوراق في يدي فيساقط زهرا نديا ، أدقق في بعض أضابيري فأجد تحت عنوان  ” الصداقة والصديق ” أن أكرم الناس عشرة من إذا قرُب منح ، وإذا بعد مدح ، وإذا ظُلم صفح ، وإن ضويق سمح ، فأحسب أنني وجدت مفتتحي الذي يليق بأن يلقى بين يديه في واحد من أيام الحفاوة به.

هذه صورة تقريبية لخصال النبل والأريحية المتأصلة في الصديق الأستاذ الدكتور محمد عبد المطلب .

إن الاحتفاء به الليلة بمناسبة حصوله على جائزة رجاء النقاش تقيم في النفس أفراحا ، كما تجدد في الضمير وثوقه بإمكان العدل ، وأشجانا مأتاها هذا التوافق الرائع بين صاحب الجائزة  ( رجاء النقاش ) والجدير بها ( محمد عبد المطلب ) إذ يجتمعان في وضوح المنهج العلمي ، وتجاوز دائرة المهنة بتقديم الخدمة الثقافية لكل من يطلبها ، دون أدنى تجاوز لآدابها ومسالكها ، مع إيثار للسلامة المترفعة عن الصغائر ، وإحسان للظن بالآخرين دون أدنى استهانة بالحقيقة ، مع التواضع الجم والتزام بأدب الحوار .

إنني أغبط نفسي حقا بما أتيح لي من الحديث عن صديق ، يصح فيه ما كتب به أحدهم لصديقه :  

” إن كان إخوان الثقة كثيرا .. فأنت أولهم ، وإن كانوا قليلا .. فأنت أوثقهم ، وإن كانوا واحدا .. فأنت هو ” .

فلقد التقيت ومحمد عبد المطلب في عدة واحات متناثرة عبر أودية العمر الربيعي المهددة بالتصحر .. التقينا في جمعية المحافظة على القرآن الكريم بالسكة القديمة بالمنصورة ، والتقينا في كلية دار العلوم بالقاهرة ، والتقينا في عدد من المؤتمرات والندوات والمناقشات العلمية في مصر وخارجها .. ولقد كان هو دائما الشخص نفسه : في ضبط النفس ، واعتدال المشاعر ، وسعة الإدراك، والميل إلي التسامح وإحسان الظن ، والوفاء المصفى بعفة اللفظ ونقاء السريرة .

الدكتور محمد عبد المطلب في جيله من أساتذة الجامعة يمثل العرق الذهبي الممتد ما بين جيل الأساتذة المتفردين بعكوفهم العلمي الصوفي الذي يحقق فيه الأستاذ توحده بالعمل : في دار العلوم : عبد الحكيم بلبع ، وأحمد هيكل ، ومحمد غنيمي هلال ، وفي الآداب : عز الدين إسماعيل ، وعبد القادر القط ، ومصطفي ناصف ، وجيل من رضيهم تلاميذ له بأن أشرف على رسائلهم العلمية، وهم عشرات ، فضلا عن قراء مؤلفاته ، وهم عشرات الألوف .

إن هذا العرق الذهبي الممتد له لألاؤه الخاص ، لم يكن استنساخا لأحد مهما كان قدره ، وهذا الانفراد له تجلياته السلوكية ، كما أن له التزاماته العلمية ، وهاك الدليل : إذ نجد محمد عبد المطلب ، أستاذ الجامعة يعيش زمن التوسع بل التصارع على الإعارات والانتدابات إلى هذا القطر أو ذاك ، ولكنه أبدا لم يسع ، ولم يقبل ، ولم يستدرجه الإغراء بالمال المضاعف أو المنصب الرفيع .. ظل في مكتبه بقسم اللغة العربية يسعى إليه الراغبون ، فلا يرفض أن يكون ضيفا أو زائرا عابرا ، ولم يقبل أبدا أن يكون هاجرا أو مهاجرا . فإلى أي مدى – في ثوابت الشخصية وأسسها الأخلاقية – يستدعى هذا ما أعرفه عنه ، أنه كان ولا يزال ، في المناسبات الأسرية الحميمة كالأعياد والمواسم يقصد المنصورة ، فيقيم بين إخوته وأخواته وأولادهم وأحفادهم ، فيلتقي في وجدانه تكافؤ رفيع بين حضن الوطن مصر ، وملاعب الصبا في المنصورة ، ومهاد الطفولة الدافئ في اجتماع العائلة عبر المناسبات.

يلتقي في شخصية محمد عبد المطلب الوثاقة العلمية والوضوح المنهجي والطمأنينة الروحية؛ من ثم يتشكل مشروعه العلمي الذي يعمل على إنجازه بوسائل العالم العامل الذي ينأى بعلمه عن الابتذال ويترفع به عن أن يكون قانص فرص أو صائد مناسبات أو صاحب شطحات يصعب أن تجتمع في محور اهتمام أساسي . اقرأ – إذا شئت – عشرين عنوانا لعشرين كتابا أنجزها في مسيرته الأكاديمية ، ستجدها تصدر من مشكاة واحدة ، وتشع في ذات الاتجاه ، وتضيف – في كل محاولة جديدة – لونا أو موضوعا أو خبرة أو معرفة مضافة ، فتظل موصولة فيما بينها وصال الأشقاء وليس وصال أبناء العلات !! البلاغة القديمة ، وتحديثها ، وتجليها العصري في الأسلوبية وما يشاكلها من إضافات الحداثة ، مع التنويع في اختيارات التطبيق ، مع الترجيح لمتابعة الإنتاج الحديث والمعاصر في الشعر وفنون السرد ، وقدرة نادرة وفريدة على انتقاء الظاهرات المستحدثة واستخلاص المؤثرات ، والكشف عن الجذور المطمورة في عمق جيولوجيا الثقافة .. هذا هو الإطار الذي لم يغادره جهد محمد عبد المطلب العلمي ، في تأليف الكتب ، كما في الإشراف على الرسائل العلمية ، كما في مشاركاته في الندوات والمؤتمرات . ولقد استحق بهذه الجدية التي أقامت صرحها الشامخ وعمقها الراسخ احترام أهل الاختصاص من العلماء وطلاب العلم على السواء ، وإني لأكاد أطمئن بأنه ما من دراسة في شكل كتاب أو بحث ، يقترب من المحور الذي آثره وخدمه محمد عبد المطلب بعلمه ، إلاّ وتجد اسمه وعناوين كتبه في صدر المراجع التي استهداها الباحث بأن اعتمد المنهج ، أو فتق القضايا ، أو استنصر بالرأي والدليل . وبهذا – دون غيره من وسائل التعرف استطاع هذا الرجل أن يأخذ مكانا رفيعا ومقدرا ، بين نقاد العربية المعاصرين ، دون أن تجد صوره وأخباره في كل صحيفة ، أو أن يطالعك عبر شاشات التليفزيون ، أو محطات الراديو .. هيهات .. هيهات إن الصقور تسكن الأعالي ، ولا تطلق الأصوات للإبهار !!

إن سيرة هذا الرجل ونشاطه العلمي ، يؤكدان لنا عمليا بأن عدد الكتب أو تنوعها الموضوعي ليس هو الذي يقدم براهين اتساع المعرفة ، ولا يضمن الانتشار ، كما أكد سلوكه العملي أنه استطاع أن يحقق توازنا رائعا بين صورة أستاذ الجامعة بما يتطلب من التزام بواجب المؤسسة وآدابها ، وبين الناقد المتعفف الذي يعرض صفحته مبسوطة دون محاذير في ندوة أسبوعية يرعاها بنفسه ، كما حقق التوازن نفسه بين ثبات قدميه في تربة المحيط الثقافي المصري ، وانبساط حضوره النقدي على المستوى العربي العام .

وبعد ..

فإنني لم أكن محكما في الجائزة ، ولم يكن لي صوت في اختيار المحتفى به ، ولهذا خلا حديثي من أساليب المفاضلة ومسوغات الاختيار ، ارتضاء برسم صورة تقريبية لشخصية عزيزة ومحبوبة ذات قدرة خاصة على تأليف الأصدقاء .

وهنا – في الختام – اذكر كلمة آسية مما ذكر أبو حيان التوحيدي الذي اقتبست من نوره في البداية ، حين أشار إلى ندرة الصداقة والوفاء للصديق بين قطاعات من المجتمع ، حتى إذا بلغ طائفة الكتاب وأهل العلم قال عنهم : ” إنهم إذا خلوا من التنافس والتحاسد والتماري والتماحك ، فربما صحت لهم الصداقة ، وظهر منهم الوفاء ، وذلك قليل ” . هذا شأن التوحيدي وقوله في علماء عصره ، الذي قد لا يختلف كثيرا عن عصرنا ، ولكن من حقنا أن نعلن إجلالنا لمن خلا ضميره من سلبيات التنافس ، وتطهر قلبه من التحاسد ، ولم نشهد عليه يوما أنه مارى أو ماحك .. فاستحق بكل ما يبدي آيات الصداقة والوفاء .

 

 

 

اترك تعليقاً