علي شلش : صورة بالألوان
علي شلش : صورة بالألوان
لستُ أشك في انها ضربٌ من المغامرة، وإن تكن مغامرةَ محسوبة، إذ كيف نختزل حياة إنسان شديد التفاعل مع كافة جوانب الحياة، في كلمةٍ أو صفة، مع هذا أجازف بالإفضاء ، فعلي شلش هو “الوضوح الجميل” وإن هذا الوضوح الجميل ماثلٌ في هيئته، كما في عناوين كتبه، ماثل في سلوكه، كما في رأي الناس فيه . مرات ليست كثيرة، التقينا، وتحادثنا، ولكنها كانت كافية، على سليقته في الوضوح الجميل، أن تُرسي صداقة هادئة مجردة مما تبتلى به، أو تؤسس عليه، كثير من صداقات المثقفين. حين رست سفينة ترحاله على شاطئ “التيمز” ومن هناك بدأ يتردد على الكويت جمع بيننا شيء جديد، هو تباريح الوطن، ولا أقول مبارحة الوطن، فلما حان زمان عودتي، وعرف بسعيي إلى الالتحاق بهيئة التدريس في الجامعة ، ولم يكن ذلك قد تمّ، فإنه لم يتحمّس لمسعاي، وحرضني على أن أقتدي بتجربته، وأغنم حريتي، والكتابة دون قيود المنهج والوظيفة. إننا ، الآن، وبعد مضيّ عشرة أعوام على هذا الحوار، لا أزال أذكر عبارته الختامية، فقد قلت: إنني أسعى إلى الوظيفة لأننا في مجتمع تقليدي، يقيس الناس بالكراسي التي يجلسون عليها، وأنا في حاجة إلى قناة تنظِّم علاقتي بالمجتمع. قال علي شلش: أعجب أنك تسعى إلى ما تمردت أنا عليه، وحين تخلصت من ربقته حققت رفاهيتي الخاصة، وأطيب إنجازاتي في الكتابة.
لقد انتهى هذا اللقاء ، الذي لا أبين الآن هل كان الأخير، بأن ترك إليّ اختيار ناقد حديث لأكتب عنه في إطار السلسلة التي أسس فكرتها ورعاها، سلسلة “نقاد الأدب” ، فاخترت واحداً من أعلام هذا العصر ومؤسسي وعيه التراثي، وينتمي كذلك إلى هذا الوضوح الجميل في الشخصية، وفي المعرفة على السواء، هو شوقي ضيف، وقد استحثني علي شلش – عبر الهاتف في زياراته المتقطعة للقاهرة- أن أنجز الدراسة، ولكنّ “شوقي ضيف” على وضوحه الذي نعرف، بحرٌ لا يُدرك ساحله، وموجٌ لا ينقطع مدده، وطبقات لا تُسفر عن أسرارها إلا بعد مكابدة وإطالة وقوف، وكنت قد عزمت، وألزمت نفسي بالوفاء، ولكني قبل أن أفعل ، جاء الموعد، فكان الفراق، ولم يعد بين أيدينا غيرُ أوراق، فانصرفت عن الموضوع، وإن ظل مقام شوقي ضيف محفوظاً في سويداء القلب وبهجة التجلي. ولم أتوقع مطلقا، ولا خطر ببال علي شلش أن يكون الوعد التالي للمشاركة في سلسلة نقاد الأدب، متعلقا به هو، فإذا أعان الله سبحانه وأنجزت هذا الواجب، فربما كان هذا ختاماً فنياً لآخر لقاءاتنا ، حيث نتناجى دون وسيط، في أحب حقول المعرفة إلينا .
إنني اقدر صعوبة الكتابة عن صديق، فإذا صحّ أن المعاصرة حجابٌ، فإن الصداقة ضوءٌ باهر، ومن الصعب أن نسلّم في حالة علي شلش – بصفة خاصة – بمبدأ ” موت المؤلف” حتى مع وجود وثيقة تؤكد هذا وتعلنه، لأنه شديد الحضور، جميلٌ عذب دائما، دون أن يحسب هذا على الظَّرف، أو المجاملة، أو سلبية المشاهد الذي ليس له من الأمر شيء. سنجد إشاراتٍ تأتي من جهات متعددة تؤكد هذا ، يقول مقدم كتابه “الماسونية في مصر” عن موضوع هذا الكتاب، بالإضافة إلى كتابه الآخر عن جمعية مصر الفتاة، يقول عن صبر علي شلش على البحث، وجسارته في اقتحام الموضوعات الشائكة: “وهو بذلك أحذ هواة الملاحة في البحار المجهولة” ، ويقول صلاح عيسى في تأبينه :”ومع أن علي شلش كان قريبا من كل التيارات، إلا أنه ظل بعيدا عنها جميعا” ، وهو يعترف على نفسه بأنه خسر بعض من كتب عنهم، ويحدد اسم يوسف إدريس، ولويس عوض، فليس هذا مسلك المجامل ، ولا غاية المسامر، بل اشهد بأنه يكون حادا قاطعا، بل جارحا أحيانا، حتى يصف فعلة معينة لأديب كبير يمكن أن تحتسب على الوطنية، بأنها ضعف أخلاق وليست من الوطنية في شيء، وحتى يقول في حوار مع إحدى المجلات الخليجية إن النفط جعل الناقد العربي مبدعاً غير مرغوب فيه !! ولم تكن هذه الجدية استثناءً في أحكامه وتصوراته، إنها تصدر عن هذا الوضوح الذي أشرتُ إليه، والوضوح يعني التحدد، كما يعني الدقة، وإذا لم يكن نقيضا للدماثة، فإنه ليس على وفاق مع النفاق .
والآن ، من بعيد، أراجع ثَبَت مؤلفاته، كما وفرها لنا كتاب “الغائب الحاضر” وهو عرفان جميل يتجاوز حق الأخوّة إلى واجب الأستاذية، يستحق عليه عبد الرحمن شلش الثناء والتقدير، فإنه يضعنا أمام خمسين كتابان زادت عددا آخر صدر بعد رحيل صاحبها، وهي تعود إلى خمسة محاور : ما بين الإبداع ، والدراسة الأدبية، والنقد الأدبي، والحضارة، والتاريخ، والتحقيق. ولعل طبيعة هذا الملتقى لا تأذن بوقوف مهما يكن عابرا يضاهي الوقوف على الأطلال ، ليلقى ومضا على كل محور، ومن ثم يمكن الاكتفاء- فيما أرى – بطرح قضية جوهرية تتصل بالدافع، أو المحرك، وتحاول اكتشاف المرتكز الذي تعود به الكثرة إلى الوحدة. بعبارة أخرى ، أو من زاوية أخرى: ما الهدف المشترك الذي يجمع بين هذه الجهود المتنوعة في تشكيلها، بحيث ترجع إلى قاعدة من التناغم، إن لم يكن التكامل، في عقل الكاتب ووجدانه ؟
لقد وفر لنا كتاب “الحاضر الغائب” – مرة أخرى ، معلومة، لا نفرضها، ولا نستمدها، قدر ما نجد فيها برهانا إضافيا، يساند ما نستخلصه من تأمل مؤلفاته في ترتيب صدورها، وعناوينها، وقضاياها، وطريقة تبويبها، وأسلوبها. إن علي شلش كان يفكر دائما في الآخر، وهذا الشعور الديالكتيكي لم يفترض في كل الحالات أنه هو – علي شلش – المتكلم، وأن الآخر دائما المتلقي، قارئا كان أو مستمعا، أو مشاهداً .. بمعنى أنه – في أحيان ليست قليلة كان يؤدي دور المتلقي ، وأرجو ألا نبسط الأمور فنعدَّ هذا من هين المهام، إنها عملية شاقة جدا تحتاج إلى ضوابط قاسية، بصفة خاصة ممن تعودوا القول، ولم يروضوا العقل على السماع، حين يجب السماع، تستطيع أن تراقب طريقة علي شلش في عرض الكتب، أو تلخيص مقالات أثارت انتباهه واستحقت أن يضعها بين أيدينا ، إنه لا يقاطع ، ولا يصادر ولا يحجب معلومة وإن أضعفت حجته، ولا يعطي لنفسه الكلمة الأخيرة، وإنما يتركها لنا نحن الذين نشهد طرفي الحوار، ولهذا معنى أنه لا يروم الغلبة، ولا حتى تسجيل موقف، قدر ما يسعى إلى إضاءة مساحة من العقل، من الوعي، لم تكن مضيئة بهذا القدر قبل أن يتدخل هو متكلماً، أو متلقيا. وأعتقد أن هذه خليقةُ رجل الإعلام حين يعلو بثقافته ، وأهدافه المتجاوزة، مطالب الدعاية، للذات أو لغيرها، ليس هذا استثمارا انتهازيا لمعلومة كتاب “الحاضر الغائب” التي تقول إن علي شلش تخرج في كلية الإعلام ، وإنه في الإعلام حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه، ولماذا لا نقول إن الإعلام يدخل في نطاق التوصيل، وأن التوصيل نظرية نقدية، أو بلاغية، تربط بالتلقي، ومستويات الاستجابة الجمالية وأفق التوقع استناداً إلى المرجعية ما بين المرسل والمستقبل. إن علي شلش الذي نعرف عمق تواصله مع وسائل الإعلام منذ بداياته، وحتى آخر نشاطاته في ندوة عامة، لم تبارح تفكيره رغبة التواصل مع المثقف العام، بل مع القارئ العام، وهذه الرغبة تطبع كتاباته مهما اختلف المحور أو الشكل ، وهي أقوى ما تكون وضوحا في دراساته الأدبية، وفي إثاراته النقدية على السواء، وهنا يمكن – على سبيل الإجمال أن نشير إلى ملامح أساسية، هي أحيانا محطات أو علامات على مراحل، وأحيانا موضوعات، وأحيانا مناهج أو أساليب في طرح القضايا .
سنلاحظ اهتماماً واضحاً بالمجلات الأدبية، وهذا الاهتمام يبدأ بالفهرسة، ولكنه ينتهي إلى ثمرته المتوقعة، وهو الاستعانة بمعلومات ببليوجرافية في تصحيح وقائع وتوثيق معلومات، وقد حدث هذا فيما يتعلق بتاريخ الأدب المقارن عند العرب، وفيما يتصل بموقف النقد من بواكير نجيب محفوظ، وفي إحصاء المجلات التي ناصرت الماسونية .
وفي اختيار عناوين الكتب سنجد الإثارة الإعلامية واضحة في مثل :
طه حسين مطلوب حيا أو ميتا – علامات استفهام – التمرد على الأدب (عن تجربة سيد قطب) الطريق والصدى (عن نجيب محفوظ) .
بل إن عددا من موضوعات هذه الكتب يدخل في نطاق ما يطلب عليه في عالم الصحافة الخبطات الصحفية، والموضوعات الساخنة، أو القضايا الساخنة، أي التي تشغل الرأي العام في حينها، وهنا نجد كتبه عن الماسونية ، وجمعية مصر الفتاة، كما نجد اهتمامه بالكتابة النسائية، وإقبال الغرب على ترجمة الأدب النسائي العربي .
وكذلك يهتم علي شلش بالمنسيين ، والمظلومين ، ولا شك في أن الكتابة عنهم ترضي نزعة الإنصاف والشعور الإنساني بضرورة العدل كقيمة، من ثم آثر أحمد ضيف، وأنور المعداوي من بين نقاد الأدب، ليعيد إليهما اعتبارهما أو شيئا من اعتبارهما بعد أن خفت ذكرهما، وانشغل عنهما خاصة المثقفين. وفي هذا النطاق نفسه يدخل اهتمامه بالأعمال المجهولة لجمال الدين، ولتلميذه محمد عبده ، وللمنفلوطي .
وقد توسع علي شلش في مفهوم النقد، فتمرد على التقاليد الأكاديمية التي تقف عند النص المكتوب، فشاهد النص المعروض، واستمع إلى النص المذاع، وتصفح المجلات العربية وغير العربية، وأدى دور الوسيط الثقافي، بغير تكلف، كما حرص دائما على تقسيم موضوعه إلى فقرات، واختار عناوين فرعية هادية مشوقة لتقود خطى التلقي في اتجاه الهدف المعرفي .
إن هذه الجوانب التي اشرنا إليها ، وغيرها، لم تكن نقيضا للجدية، وللتأصيل، وللكشف عن الجذور الذي مارسه باقتدار تعينه عليه معلوماته الأرشيفية، ودأبه الواضح، ورغبته الدمثة في أن يكون حاضراً دائماً معك، هذا الحضور الواضح الجميل، الذي نرصد بعض أصدائه الآن، وتفضي به كتاباته أصدق إفضاء .