علم الفلك .. تاريخه عند العرب في القرون الوسطى

علم الفلك .. تاريخه عند العرب في القرون الوسطى

علم الفلك

تاريخه عند العرب في القرون الوسطى

 

تأليف السنيور كرلو نلّينو

 

هل تترتب أهمية هذا الكتاب على حجم ما أنجز العرب في مجال علم الفلك ؟ إن هذا الربط يبدو صحيحا في ظاهره ، وإن التسليم به ليلغي حق كتاب المستشرق الإيطالي الشهير في أن يكون مؤثرا في توجيه الفكر ، وتنوير المنهج البحثي ، منذ ألقاه في شكل محاضرات (هذا الكتاب ملخصها في 370 صفحة) بالجامعة المصرية ، حيث عمل أستاذا بها ، ثم طبعه بمدينة روما العظمى – كما وصفت على غلافه – عام 1911م ؛ ذلك لأننا نوافق على أن جهود العرب ، وغير العرب أيضا ، في إطار علوم الفضاء – الاسم العصري لعلم الفلك – ستكون متواضعة جدا في كثير مما اكتشفت من حقائق الكون ، وتحتاج إلى كثير من التصويب فيما ظنته أنه من الحقائق ، إذا ما قيست إلى المعلومات المتوفرة لعالم متوسط المعرفة ، ولا أقول إلى مراكز بحوث الفضاء في الدول التقدمة . لقد فكرّ نلّينو في هذا الأمر ، وقدمه ، وأجاب عليه في صدر محاضراته ، مستفيدا من طريقة العرب والعقلية الفقهية الإسلامية التي تبدأ بطرح الاحتمالات ، وتقدم جواباتها بطريقة جدلية طريفة نحت بعض المحدثين لها اسما طريفا أيضا هو “الفنقلة” – التي تعني: فإن قال كذا ، قلنا كذا .. إلخ .

 

إن انتقاء نلّينو لهذا الموضوع من بين موضوعات تاريخ العلوم عند العرب يكشف – كما سنرى – عن غزارة الإطلاع ، ودقة المعلومات ، والقدرة على تتبع حركة المعرفة بين حضارات العالم القديم والوسيط ، ولهذا لم تنحصر جهوده في علم الفلك عند العرب في التعريف بعلمائه ومؤلفاتهم أو مكتشفاتهم ، وإنما تجاوز هذا المدى – المقدور عليه ، المستقر كمنهج للتأليف أوائل هذا القرن – إلى وضع أساس جديد ، لأهداف البحث العلمي ، والمنهج الدقيق الذي يحقق هذه الأهداف .

 

يشرح بعض أهدافه في المحاضرة الأولى :

“تاريخ علم الهيئة عند العرب في القرون الوسطى أعني به البحث عن أوائل ذلك العلم عندهم ، واسباب نشأته ونموّه ،و كيفية ارتقائه إلى ذروته في بلاد الإسلام المختلفة ، وعلل انحطاطه بعد غدراكه ما قد أدرك من الكمال والارتفاع فيها ، وكذلك أريد بيان ما اضافت العرب من الفوائد والإكمال إلى معارف القدماء من اليونان والهند والفرس ، في ذلك الفن ، وشرح آرائهم في بعض المسائل المهمة ، ثم إبانة ما انتفعت به أهل الغرب عند مراجعتهم كتب العرب الفلكية ، بحيث أن يظهر ما نالت أهل الشرق من البراعة والفضيلة بنقلهم علم الهيئة من اليونان القدماء إلى الأمم الأورباويّة” .

 

في هذا الاقتباس تتحدد أسس المنهج ، وتكشف عن آفاق البحث :

  • أسباب التحضر وعلل الانحطاط .
  • رصد نموّ الأفكار والمكتشفات عبر العصور .
  • الاهتمام بالمقارنة بين الحضارات وتبادلها التأثير والتأثر .
  • فضل العرب – العلمي – على الحضارة الحديثة .

 

إننا – في تناولنا لأهمية هذا الكتاب وأثره في تفكيرنا العلمي – لن نتوقف عند مسائله أو مكتشفاته الفلكية ، إنها تنتمي إلى الماضي ، أما وضع أسس البحث ، وتصحيح مسار الفكر ، فإنها التي وجهت نظرتنا ، وصححتها ، إلى المستقبل ، بما فيه تصور “الماضي التاريخي” تصورا دقيقا ، علميا ، وفي هذا السياق يأخذ كرلو نلينو ، وكتابه هذا ، مكانا يقدّر !!

 

أما “الفنقلة” الأساسية في هذا المدخل فيسوقها في صيغة سؤال :

“لِمَ هذا الاشتغال بتاريخ العلوم عموما ، والعلوم الرياضية خصوصا ؟” في جواب هذا السؤال فرصة ليصحح لعلماء جيله مفهوم التاريخ ، كما يرسخه في عقول طلابه بالجامعة المصرية أوائل هذا القرن ، كما أنه يسوق هذا التصحيح على لسان خلدون . فليس التاريخ خاصا بالملوك ، أو الحروب أو الثورات ، أو المصائب ، فحقيقة التاريخ ، كما نقل نلينو عن ابن خلدون : “أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم ، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال” . ويوضح نلينو ما ينبغي على المؤرخ الحديث أن يأخذ به ، بما يدل على وعيه بثغرات ونواقص كتابات المؤرخين العرب ، بل كتابات العرب عامة عن حضارتهم ؛ إذ يقرر أنه لا يحيط بالتاريخ علما حقيقيا إلاّ من أطال الفكر في أمور كثيرة غير طنانة ، تبدو أنقص منظرا من العوارض السياسية ، مع أنها – في الحقيقة – أهم لأنها مؤثرة في الوقائع وتسلسلها ، معللة لها تعليلا لا ينفى ، ومن هذه الأمور المهمة ، غير الطنانة : تاريخ العلوم .

 

وإذاً ، فإننا نستطيع أن نجمل الأثر العلمي لهذا الكتاب ، بما يتجاوز عنوانه (هو في الحقيقة خارج عنوانه إذ لا نعرف أنه وجّه أبحاث الفلك عند علمائنا المعاصرين) وهذا التجاوز ليس عن عدم الالتزام بالدقة المنهجية ، بل على العكس ، إن هذه الدقة هي التي ضمنت له النفاذ إلى التأثير الفكري العام :

  • فقد رسم منهجا للبحث ، لم يكن مألوفا في فترته ، إذ يحدد المصطلح ويشرح حدوده ومفرداته ، ويكشف عن مصادره ومراجعه ، ويحدد اقتباساته ، ويقابل بين النصوص ، ويقرر رأيه ، ويعلله .
  • وجّه الاهتمام إلى تاريخ العلوم ، وأدخله في صميم التاريخ الإنساني ، ورفض اعتبار قصور العلم القديم ، أو أخطائه مسوّغا لإهماله والانصراف عنه ” إن ما نسميه الآن باطلا هو مع ذلك حقيقة محضة بالنسبة إلى العهد الذي نشأ فيه وانتشر” إننا قد نتبيّن قصور بعض المناهج ، ولكن قد يكون القصور راجعا إلى ضعف وسائل التطبيق ، أو العجز عن الاستمرار في التجريب ، “إن تاريخ العلوم بأسره أخذ وعطاء” !!
  • إنه يقدم الحضارة العربية الإسلامية كحضارة عالمية ، تظهر قيمتها وما قدمته للبشرية حين تعرض ثمارها العلمية على منجزات الحضارات قبلها (الهندية والفارسية واليونانية) والقول بأن العرب أفادوا من جهود سابقيهم لا يغض من قيمة ما صنعوا ، بل على العكس ، فقد طوّروا ، كما ابتكروا ، حتى فتحوا الطريق بأيديهم لعالم جديد يقر لهم بالفضل .

 

إن هذه المبادئ الثلاثة التي نستخلصها من قراءة أربعين محاضرة هي المحتوى العلمي لكتاب “علم الفلك” قد تحققت لأن كرلو نلينّو قد أحسن السيطرة على موضوعه ، فهو مستشرق أصيل الفكر ، عميق الصلة بلغة العرب وتراثهم ، وقد كان عضوا بالمجمع اللغوي حتى وفاته عام 1938 ، والمعلومات التي تحويها ترجمته في “المجمعيون” تقول إنه كان يعرف العربية والعبرية ، وتضيف مقارناته اللغوية في تحليل بعض مصطلحات الفلك أنه يعرف اليونانية والسريانية والفارسية ، وليس العربية والعبرية فقط كما قرر كتاب المجمع . على أن خبرته بالمخطوطات العربية شاملة – تقريبا – لمواقع هذه المخطوطات أينما حلت من العالم ، على كثرتها وتوزعها ، وقد كشف في أثناء كتابه هذا عن مخطوطات (في حدود علم الفلك) أشارت إليها كتب التراجم والفهارس أو جاء ذكرها في سياق كتب أخرى ، أو نقل عنها ، أو أن لها ترجمة لاتينية ، واندثر أصلها العربي !! وبصرف النظر عن الأهمية العلمية لهذه الكتب المجهولة ، فإن نلينو قدم نموذجا عمليا لاحترام العالم لموضوع يتصدى للكتابة فيه ، وينبغي أن يضيف جديدا إلى المعرفة به ، ولابد أن يكون هذا الجديد “كشفا” ، وليس مجرد “طريقة” !!

 

ثم نتأمل مصادر البحث ، والأسلوب الذي صنعت به هذه المحاضرات . لا نريد بالمصادر ما كتب العرب – أو غيرهم – عن النجوم والكواكب والأرض .. إلخ . من أمثال ابن القفطي ، وابن أبي أصيبعة ، والبيروني ، وأبي معشر البلخي ، والفزاري ، وابن يونس المصري ، وغيرهم ، فهذا أمر بدهي أن يكون . ولكن الطريف حقا ، والجديد على عصرنا الحديث ( وإن يكن من سمات تراثنا العربي) أنه لا يهمل التحليل اللغوي للمصطلحات ، ولا يغفل الشعر ، والقرآن الكريم كمصدر للمعلومات . لقد أشرع الباحث المستشرق عقله ليتلقى المعرفة من كافة فطانها ، فلم يحصر تفكيره فيمن بحثوا في موضوع النجوم أو الأرض قصدا ، من علماء الطبيعة أو الجغرافيا أو الرحالة مثلا ، بل اتسع هذا التفكير ليشمل الفلسفة والتنجيم والأساطير والأديان . على أن الأمر هنا يتجاوز القدرة على جمع المعلومات ، أو الوصول إلى مصادر المعرفة ، فإنه – على جلالته وخطره كان يمكن أن يتاح – في أيامه – لغيره ، وهو في زماننا هذا متاح بغزارة بعد التطور المثير في مجال نقل المعرفة بالتصوير الفوري والتسجيل الصوتي .. إلخ ، ومع هذا نادرا ما نجد بحوثا لها هذا القدر من الجدية والإحاطة والقدرة على الكشف والربط والاستنتاج ، وهذا في خلاصته يعني أن جوهر الأمر هو ما كان يتحلى به السنيور نلّينو من سعة المعرفة ، وطاقة الصبر على البحث ، والرغبة في تقديم خدمة علمية حقيقية .

 

إننا لم نرغب – بالطبع – في تجاهل أو التقليل من شأن المعلومات الفلكية أو الجغرافية التي نظمها ، وقدمها ، وسرحها ، وبيّن قيمتها حتى في بناء العصر الحديث ، بعد إشهار قيمتها في زمانها ، مما يتعلق بجهود العرب في الفلك والجغرافيا ، وكل ما في الأمر أننا نرى أن هذه المعلومات – على أهميتها – لم تكن ذات تأثير قوي في ذاتها ، بقدر ما كان التوجه إلى إعادة اكتشاف تراثنا العلمي ، وتقديمه إلى العصر الحديث ، باعتزاز وثقة ، كإحدى الدعامات الأساسية في بناء الحضارة الإنسانية ، الوسيطة ، حين كانت الإمبراطورية العربية قمة العالم ، والحديثة والمعاصرة ، التي استخلصت رحيق ما سبقها من حضارات ، وظل موقع الرحيق العربي الإسلامي ، لا يجد من يتحمس لتمييزه ولفت الانتباه إليه وتأكيد حقه ، تحمسا علميا ، وليس خطابيا ، يقوم على التحديد وتقديم الدليل، وليس على الإيمان الشخصي ، أو القبلي ، الذي لا يجد “الآخرون” ما يحملهم على التسليم بصحته .

 

وإذاً ، فإننا نرى أن الالتفات إلى التراث العلمي العربي ، وتسليط الضوء على المنجزات العربية ، في الطب ، والصيدلة ، والهندسة ، والطرز المعمارية ، والنبات ، والكيمياء ، والرياضيات ، والجغرافيا ، والبيطرة ، إلخ ، هو ثمرة من ثمرات هذه الالتفاتة المبكرة التي اختار لها كرولونلّينو موضوعا دقيقا ، صعبا ، كان مجهولا تماما في مستواه العلمي ، وإن تكن الفلاسفة قد حومت حوله كصدى لتأثير يوناني تجسد في الاهتمام بكتاب المجسطي ، وآخر هندي ارتبط بما أطلق عليه العرب (توسعا) السند هند!!

 

لقد أصبح الكلام عن جهود العرب في مجالات العلوم مقبولا ، بل يقابل بكثير من التقدير والعرفان عند غير العرب ، ولسنا نشك في أن المستشرق الإيطالي ، وكتابه هذا ، يعتبران بداية جديدة في إعادة تلوين الصور العربية – من الوجهة العلمية – لدى الأمم الأخرى . على أن هناك نقطة إضافية – منهجية – جليلة ، تستحق التنويه ، فالسنيور نلينو في تقدمة محاضراته ، حدد مقصده بالعرب ، وبين أنه يتجاوز بهم اولاد قحطان وعدنان (أي سلالة العرق العربي) إذ نعرف – كما يقول – قلة البارعين منهم في علم الفلك ، أما العرب في رأيه فهم جميع الأمم والشعوب الساكنين في الممالك الإسلامية ، المستخدمين اللغة العربية في أكثر تآليفهم العلمية ، من الفرس والهند والترك ، والسوريين والمصريين والبربر والأندلسيين . هذا يعني أن العربية “لسان” ، وأنه –كما يقول : نسب إلى لغة الكتب لا إلى الأمة . لقد كان حريا أن يتحدث عن جهود “المسلمين” ، ولكن آثر اللسان ، وأدخل جهود غير المسلمين ، واعتبرها عربية ، ما دامت قد توصلت إلى ما توصلت إليه ، وفكرت ، وكتبت أفكارها بلغة العرب !! هذه “الرؤية” التي استقرت الآن ، ولم تعد تثير جدلا ، من حق نلّينو أن يقول إنه من السابقين إليها . من الصحيح أن القدماء العرب – في دراساتهم – اعتبروا الحدود اللغوية ، فأدخلوا في أدبهم أشعار الفرس من أمثال أبي نواس ، وبشار ، وأدب المستعربين في الأندلس ، ولكن الأمور لم تكن بهذا الوضوح في مجال “العلوم” ، التي لم تلق – في عمومها – الكثير من الاهتمام ، حتى أن نلّينو نفسه “يعتب” على كتاب التراجم العرب ، كيف أغرقوا إلى حدّ الإسراف في الكتابة عن حياة النحويين والمحدثين والفقهاء … ولم يلتفتوا إلى علمائهم وما أنجز هؤلاء العلماء .

 

يمكن أن ننظر إلى الجيل التالي الذي تتلمذ على يدي السنيور نلينو ، أو قارب فترته ، لنجد اتجاها واضحا إلى الاهتمام بالتراث العلمي للعرب ، بل لنجد تقاربا لا يخفى في طريقة الطرح المنهجي ، وإن كان لا يرقى – في حالات كثيرة – إلى التدقيق المرتكز إلى تنوع الخبرات وتحصيل المعلومات – في حالات كثيرة – إلى التدقيق المرتكز إلى تنوع الخبرات وتحصيل المعلومات . تحديدا تجب الإشارة إلى الدكتور احمد زكي (ولد عام 1894) والدكتور عبد الحليم منتصر (ولد عام 1908) ولسنا نستطيع ، ولا نملك الحق في الزعم بأن أسلوب احمد زكي (العلمي المتأدب) صدى أو أثر لأسلوب نلينو ، لأن هذا الأسلوب نفسه ذو جذور تراثية ، بل انه عماد التأليف العلمي عند العرب كما أسلفنا ، ويمكن أن نقرأ ابن المقفع ، والجاحظ ، وأبا حيان وغيرهم لنجد كتابات ابن المقفع السياسية ، وما كتب الجاحظ عن الحيوان ، وأبو حيان في الفلسفة واللغة ، تقدم المعرفة العلمية ممزوجة بالخيال ، ومسوقة في أسلوب تصويري سهل يغري بالاستمرار . لكننا حين نقرأ لأحمد زكي : سلطة علمية ، أو : بين المسموع والمقروء ، أو : بواتق وأنابيق ، فضلا عن مقالاته المجموعة فيما بعد ، تحت عنوان : مع الله في السماء ، ومع الله في الأرض ، سنجد أن المثل القريب “نيلنو” هو الذي يسبق إلى الخاطر كمؤثر مباشر . والمر كذلك فيما يتصل بجهود عبد الحليم منتصر الذي يصفه كتاب “المجمعيون” بأنه “عالم نباتي ضليع في اللغة والأدب” . ويكشف عن اتجاهه إلى العمل العلمي المنظم القائم على ربط الاتحادات الإقليمية العلمية ، في اتحاد عربي شامل ، وأنه كان الأمين العام للجمعية المصرية لتاريخ العلوم ، كما يوصف بأنه أحد قادة نشر الثقافة العلمية باللغة العربية ، وأنه نظّم دعوة موفقة للتعريف بالعلماء العرب ونشر أعمالهم ، وتجلية أعمال العلماء العرب في العلوم الطبيعية ، القدامى منهم والمحدثين ، كما أنه شارك في وضع دليل (ببليوجرافي) لأعمال هؤلاء العلماء ، فعرّف بعشرات من مؤلفاتهم . وهنا لابد أن نذكر الدكتور جمال الفندي وغيره ممن اهتموا بتبسيط العلوم ، وتقديمها كثقافة عامة، دون أن تفقد منهجها العلمي القائم على التحديد ، والضبط ، والمصطلح ،ورصد النتائج .

 

وقبل أن نستطرد قليلا مع هذه المسألة الأساسية ( اثر نلينو وكتابه في علمائنا وفكرنا العام) نقول إن الجامعة المصرية ، دعت في نفس العام الذي انتهت فيه مهمة نلينو بها (عام 1912) مستشرقا آخر لا يقل وزنا وأثرا هو لويس ماسينيون الذي قدم ليحاضر عن تاريخ الفلسفة ن أو تاريخ المصطلحات الفلسفية تحديدا ، ونشأة المصطلح الفني في التصوف الإسلامي بصفة خاصة ، فلعل هذا يعني – فيما يعنيه – أن الجامعة المصرية ، في هذه المرحلة المبكرة من هذا القرن حملت منفردة في حينها أمانة تنوير التراث العربي ، وإحيائه في ظل معرفة عصرية شاملة ، ومن ثم توحيد الأمة العربية على مستوى وحدة ماضيها الفكري ونشاطها العلمي .

 

ولقد قدمنا مثلين (أحمد زكي وعبد الحليم منتصر) لوضوح التأثير في التوجه ، والأسلوب ، ولكنهما لم يكونا مفردين . وبصرف النظر عن جهود استشراقية أخرى ، كالتي نجدها لدى إنوّ ليتمان (1875 – 1958) وما كتب عن تاريخ التقدم العلمي ، وهاملتون جب ودراساته عن حضارة الإسلام ، فإن الأثر عندنا سيكون أشد وضوحا ، لأننا المعنيون بالقضية أصلا ، وأصحاب الإفادة منها رأسا ، والأحق بالتوجه إليها قصدا، وليس مستغربا أن يؤلف عيسى اسكندر المعلوف (ولد عام 1891) عن : تاريخ الطب عند العرب ، وأن يكتب محمد شفيق غربال (ولد عام 1894) عن : أساليب كتابة التاريخ عند العرب” ، وأن يبحث مراد كامل (ولد عام1907) في الرمز في الكيمياء عند العرب ، وأن يهتم مصطفى نظيف (ولد عام 1893) – وهو أحد علماء الطبيعة المعدودين في مصر – بكتاب الحسين بن الهيثم ، وبحوثه وكشوفه البصرية (وقد نشرته جامعة القاهرة في جزأين عامي 1942 ،1943) . فإذا أضفنا إلى هؤلاء وأمثالهم الدكتور محمد كامل حسين ، الطبيب العظيم (ولد عام 1901) الذي تحدث عن أهمية “وحدة المعرفة” ، وألف عن “التفسير البيولوجي للتاريخ” ، وألف رواية “قرية ظالمة” ، فإننا سنلاحظ كيف بسقت شجرة المعرفة ، وتنوعت ، وبقى أصلها راسخا!!

 

إن توجيه الاهتمام إلى التاريخ العلمي للعرب ، بل إدخال التاريخ العلمي في إطار التاريخ العام من أهم ما نلمس من تأثير كرلو نلينو ، في كتابه هذا ، وكتاباته الأخرى . على أنه يبقى هناك أمران على غاية من الأهمية : الأول : ما بدأ نلينو به بحثه ، من تحديد لمفردات عنوانه ، وكشف عن مصادره ومراجعه ، ومناقشة كل منها ، ومقدار الثقة به ، (وهو يعترف بأنه أخذ المسألة الأخيرة من علم الحديث ، أي من مبدأ الجرح والتعديل) . إن هذا الأمر الذي يمارسه الآن طلاب “الدكتوراه” في مقدمة أطروحاتهم ، لم يكن له وجود في بدايات هذا القرن ، في المؤلفات العربية على تنوع أغراضها ، كان “المؤلف” يعتبر مراجعه ومصادره سرا من أسراره ، ومفتاح تفوقه أو تفرده ، لا يصحّ أن يكشف عنه للمؤلفين الآخرين (المنافسين) وحين نقرأ مقدمة طه حسين لكتابه الأول “تجديد ذكرى أبي العلاء” الذي ناقشته الجامعة المصرية عام 1914 م كأول أطروحة للدكتوراه (وكان نلينو قد عمل بهذه الجامعة ثلاث سنوات 1909 – 1912 ، ودرس لطه حسين أيضا) سنجد في مقدمة طه حسين لأطروحته ، شرحا للمنهج ، لا يخلو من صنيعة التفاخر ، يسير على خطوات ما ذكر نلينو في صدر كتابه ، يكشف فيه طه حسين عن مصادره ، ومراجعه ، ودرجة ثقته بها ، وينعي على سابقيه ومعاصريه كتمان مراجعهم ومصادرهم ، وكأن المعرفة حق لهم دون غيرهم ، وكأن العلم طقوس وأسرار تجلّ عن المناقشة ، ولا تقبل غير التسليم .

 

الأمر الثاني الذي نجد بدايته (العصرية) عند نلينو ، في كتابه عن علم الفلك ، واتسع أمره وتنوع بعد ذلك ، هو ما يشيع بيننا الآن تحت مصطلح “التفسير العلمي للقرآن” كانت معارف عرب الجاهلية بالفلك في حدود الاستخدام أو الإفادة العملية ، غالبا، فجاء الإسلام ، وبعض عباراته تستلزم معرفة بالفلك والجغرافيا ، كبدء الصوم ، والحج ، ومواقيت الصلاة ، وتحديد القبلة ، ثم جاءت إشارات قرآنية تستدعي التفكير ، وتبحث عن تفسير : )تسبح له السموات السبع()لقد خلقنا فوقكم سبع طرائق( و )هو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون( . وهنا يروي عن القدماء تفسيرات مدخولة أو غير معقولة ، فالسماء الدنيا رخام أبيض ، وخضرتها من خضرة جبل قاف !! وهذه الأقوال وما يشبهها تدل على عدم اهتمام المفسرين القدماء بعلم الهيئة، أي علم الفلك . لقد اعترف لعم الفلك في زهو الحضارة العربية ، حتى جرى على الألسنة قولهم : العلوم ثلاثة : الفقه للأديان ، والطب للأبدان ، والنجوم للأزمان . فهل تحمل مثل هذه العبارة دلالة على أن المعرفة بالطب ، وبالنجوم يلزمان الفقيه أيضا ؟ على أنه قد نظر إلى القرآن الكريم على أنه معجزة بيانية ، وأنه معجز بإخباره بالغيب ،والقول بأنه معجزة علمية لم يسع إلى إثباته أحد في القديم ، وليس موضع إجماع من المفسرين والمجتهدين في عصرنا ، لتجدد مكتشفات العلوم ، وإمكان الخطأ على ما وقع التسليم به كحقائق من قبل ، فربط الإعجاز القرآني بأمور احتمالية ، أو قابلة للتغيير ، لا يفيد معجزة القرآن ، بل لعله أن يسيء إليها . ومهما يكن من شأن هذه القضية – في ذاتها – فإن إشارة نلينو إلى أهمية احتياج مفسر القرآن إلى المعرفة بالعلوم الأخرى ، حتى لا يجد نفسه مجرد راوية لأقوال مظنونة ، أو غير مقبولة ، عن الكون ، والإنسان .. إلخ ، لابد أنها عملت عملها في بعض العقول ، ولعله ليس من قبيل المصادفة أن يكون صاحب البداية في الإفادة من العلوم العصرية في تفسير القرآن هو الشيخ طنطاوي جوهري ، في تفسيره المطوّل : “الجواهر في تفسير القرآن الكريم” ، (ولد عام 1870 ، وتوفى عام 1940) وجهده عظيم حقا ، وقد حاضر في الجامعة المصرية أيضا ، بعد نلينو ، وهو جدير بأن يذكر في مقدمة الاتجاه نحو التفسير العلمي للقرآن ، الذي توسع فيه الدكتور عبد الرزاق نوفل ، ومن جاء بعده ، دون أن يذكر اسم هذا الشيخ الجليل .  

 

اترك تعليقاً