ليلة ساهرة من ليالي الربيع
ذاكرة المسرح
ليلة ساهرة من ليالي الربيع
الكاتب الأسباني : إنريكي خارديل بونثيلا
هذه المسرحية كوميدية ، فهي الأقرب – موضوعا وأسلوبا – لذائقة النسبة الأكبر لمرتادي المسرح وقراء المسرحيات على السواء ، ولكن الموضوع الكوميدي سيكون الأصعب حين نحاول أن نقبض على جوهر القضية التي تدور حولها المسرحية . إن من يقرأ كتاب ” الشعر ” لأرسطو قديما ، أو يقرأ كتاب ” فن كتابة المسرحية ” للاجوس آجري حديثا ، سيجد التركيز على التراجيديا قديما ، والدراما الاجتماعية حديثا موضع الاهتمام : منها تحدد طبائع البطل ، وتستخلص ” المقدمة المنطقية ” وتوضع شروط الصراع وأنواعه أو درجاته ، أما الكوميديا فتبدو وكأنها ” على الهامش ” ، ليس لها موضوع محدد بآلاته وشخصياته ، وقد لا يكون لها دور غير النقد الاجتماعي ( الضاحك ) والسخرية من العيوب غير الجارحة .
ومع هذا فإن مسرحية ” ليلة ساهرة من ليالي الربيع ” وقد حفلت بوسائل الإثارة عن طريق المفارقات ، والمفاجآت الحركية ، ورشاقة الحوار – أوصلتنا في النهاية إلى ما يحرص لاجوس آجري – سالف الذكر – على تقريب فكرته بمصطلح ” المقدمة المنطقية ” على أن هذه المقدمة في المسرحية التي نحن بصددها قد لا تكون سافرة محددة الملامح مثل مقدمة ” عطيل ” أو ” بيت الدمية ” أو ” أهل الكهف ” ، ولعل هذا يدل على أن إدراك جماليات المسرحية الكوميدية يحتاج إلى حساسية أعلى ، وذوق أرقى .
كتب بونثيلا مسرحيته هذه عام 1927 ، منتقلا بكتابتها إلى ممارسة الكتابة للمسرح بعد أن كان يكتب الروايات الخفيفة ، وكان هذا الانتقال حرصا على ما تدرّه العروض المسرحية من مال لا ترقى إليه طباعة الروايات مهما كانت رائجة . وهنا نستعيد أمرين مهمين بالنسبة لهذه المسرحية : الأول أنه انطلق في كتابتها من حدث عائلي مباشر ، فقد ضاقت يده عن الإنفاق على زوجته ، وفي ليلة دامعة اتفقا على الافتراق – مؤقتا لمدة عامين ، لعله ينطلق بحثا عن زيادة دخله ، ليلتقيا في موعد ومكان محددين ، وقد كان . ولكن هذا الاتفاق – على طرافته – ليس مذكورا في المسرحية ، إذ حدث تغيير يناسب الكوميديا ، فالزوجة تعلن أنها لم تحب زوجها أبدا ، وأنه متردد ليست له الشخصية الحازمة التي تشعر في جوارها بالحماية والأمان . الأمر الثاني أن المسرحية كُتبت بصيغة محبوكة ، وبأساليب الكوميديا الراقية ، حتى لقد ظن المخرج حين قرأها أن بونثيلا لابد قد أخذ الفكرة أو الحبكة عن كاتب إنجليزي متمرس ، ولكنه أكد للمخرج أنه لم ” يقتبس ” من أحد في أي عمل صنعه . وقد لاقت المسرحية شهرة عظيمة ضمنت لبونثيلا موقعا محترما بين أهم كتّاب الدراما الإسبانية الكبار في عصره : بينا فنتي ، ولوركا .
عدد شخصيات المسرحية محدود جدا ، شأن المسرحيات المحبوكة ( ثلاثة رجال وخمس نساء ) يشغل ثلاثة منهم : الزوج ( ماريانو ) والزوجة ( أليخاندرا ) والسبّاك ، أو اللصّ المتخفّي ( فالينتين ) مساحات متقاربة ، وهم الذين يصنعون الحركة ، ولكن المفاجآت والمواقف المضحكة ( المحرجة ) يشترك الجميع في صنعها ، بما يشكّل في النهاية ما يمكن أن يعدّ : فكرة المسرحية ، أو مقدمتها المنطقية . وهذه المقدمة باختصار تقول – كما نقترح – إن مشاعرنا الظاهرة ليست بالضرورة تعبر عن أفكارنا المستقرة حتى لو زعمنا لأنفسنا ذلك !!
يبدأ الفصل الأول ، وينتهي في حجرة نوم عائلية أنيقة جدا ، كما ينصّ وصف المشهد ، ولكن هذه الأناقة لم تكن دليلا على حياة سعيدة ، أو نوم هنيء . لقد كان الزوجان في حالة منابذة انتهت بالاتفاق على الانفصال بالطلاق في الصباح التالي . أما هذه الليلة فسيقضيها الزوج ( ماريانو ) عند عمته . هكذا جرى تحوير حادث الاتفاق على انفصال مؤقت ( لمدة عامين ) بين المؤلف بونثيلا وزوجته ، بسبب إسرافه وعجزه المالي ، إلى اتفاق على طلاق ( في المسرحية ) للسبب نفسه ( الفقر ) بالإضافة إلى ضعف الشخصية وعجزها عن حسم المواقف . وافقت أليخاندرا ( الزوجة ) على ذلك ، ولكن بمجرد مغادرة الزوج للشقة يحدث أمران : تشعر الزوجة أن زوجها ليس بالضعف الذي تظنه به ، بدليل انه اتخذ قرار الطلاق غدا ، وقرار المبيت عند عمته الليلة دون تردد ، من ثم يمكن الاعتقاد بأنها بدأت تغير رأيها في زوجها حتى قبل أن يتم الطلاق ، ولكنها – مع هذا – لا تزال مصممة على الطلاق . الأمر الثاني أن كهلا أنيقا اقتحم غرفة النوم من شباكها القريب من الشارع بمجرد مغادرة الزوج لبيته ، وإذ تدهش الزوجة الشابة لوجود غريب في حجرة نومها ، وهي وحيدة ، فإنها تتماسك لكي لا تنبه وصيفتها ( برتا ) ، وهي امرأة جريئة ، ( حشريّة ) تعطي نفسها حق التدخل حتى بين الزوجين شرط أن يكون التدخل لصالح الزوجة . يعلن الكهل المقتحم أنه لا يضمر شرا ، وأنه مجرد لصّ هرب من مطاردة الشرطة وكانت نافذة هذه الشقة أقرب مكان يصلح لإخفائه مما يعني أنه باق ( في غرفة النوم ) حتى الصباح ، مما يحمل أليخاندرا على أن تقضي ليلتها في غرفة نوم إضافية ، ولكن بعد أن تحدثت مع اللص فلمست فيه ثقافة ووعيا وخبرة إنسانية وشعرية قللت من الرغبة في إهانته ، وحين تورط بالرد على تليفون زوجها الذي اتصل من بيت عمته ، زعم له أنه ” السباك ” يصلح مواسير الحمام ، مع أن اليوم كان الأحد ( يوم عطلة المحلات ) ، وسيتمسك فالينتين بوصف نفسه بالسباك ، ويناديه أفراد البيت بهذا الوصف ، مع علمهم بأنه يدّعي ، وقد وجد حماية مظهرية في ملابس سباك معلقة بالحمام ارتداها ، وحين تأتي أم أليخاندرا صبيحة اليوم التالي فإنها تتعرف على اللص / السباك ، فهو أحد أصدقائها القدامى ، وهكذا يأخذان في استعادة ذكريات شبابهما ، و ” شقاوة ذلك الزمان الجميل ” فيصبح ” السباك” مستشارا للعائلة ، من هنا – في الفصل الثاني – يأخذ في التسلل إلى فكر أليخاندرا ( الزوجة ) ليقنعها بأنها تبالغ في تقدير نفسها ، وأنه لا يحق لها التعالي على زوجها . وفي الظهيرة يأتي الزوج ومعه المحامي لتوقيع الطلاق ، ويرى المحامي أن ” السباك ” شخصية مثقفة عاقلة ، ويرى في برتا أنها وصيفة ذات جسارة يأذن لهما بالبقاء إلى جواره ليكونا شاهدين على وقوع الطلاق .
ويتم الطلاق ، في الفصل الثالث بحيلة مصطنعة من المحامي ، مقبولة بدوافع الكوميديا ، مرذولة بمنطق الحقيقة وشرف المهنة ، فقد استعرض المحامي الأسباب القانونية / الكنسية التي تبيح الطلاق ، فلم يجد أحد الزوجين يتهم الآخر بالخيانة الزوجية ، وليس في أحدهما مرض يخشى منه على الآخر .. إلخ ، فلم يبق إلاّ أن يقوم ماريانو بضرب زوجة أليخاندرا على وجهها ، وسبّها في شرفها (باقتراح من المحامي )، ليشهد السباك وبرتا على سوء معاملة ماريانو لزوجته ، وإهانتها في شرفها ، وهذا الفعل فيه التبرير الكافي للطلاق !! لقد كان أداء هذا المشهد غاية في الطرافة والإثارة والضحك ، بكل ما يحيط به من دوافع متضاربة لدى الزوج وهو يحاول أن يضرب ويسب، ولدى الزوجة وهي تعطيه وجهها ليضربها ويسبها في شرفها وهي ترجوه ألاّ يكرر سبها ، ولكن المحامي يرى وجوب تكرار الضرب والسب ، وبهذا شهد الشاهدان ، ووقع الطلاق ، وانصرف الزوج ، وبقيت الأم الحزينة وصديقها ( السباك ) ، ولكن يحدث أن يعود الزوج فجأة ، ليجد السباك المزعوم بملابسه الأنيقة ، وهنا موقف سيكولوجي غاية في البراعة ، فعلى الرغم من أن الزوج لم يعد زوجا لأنه طلّق ، والزوجة لم تعد كذلك لأنها مطلقة ، فإنها لم تحتمل نظرة زوجها، أو ظنونه بأن هذا الرجل المتخفي في ملابس سباك ليس إلا عشيقاً لها ، وليس من المستبعد أنه كان من أسباب رغبة أليخاندرا في الطلاق !! من ثم تبذل جهدا مستميتا في الاعتذار لزوجها ( السابق ) وتأكيد براءتها، ولكنه يظهر الغضب لشرفه المسلوب ، ويدخل إلى مكتبه ويخرج من أحد أدراجه مسدسا، سيظهر أنه لا يعمل ، وتصل الحكاية المسرحية نهايتها حين يكشف ( السباك ) عن حقيقته ، فهو صديق الزوج ( ماريانو ) وقد اتفق معه على كل ما جرى ، ليتأكد للزوجة ( أليخاندرا ) أن رجلها يملك الرأي والعزيمة والتدبير الذي يستحق به أن يكون زوجها .. وهكذا تعود المياه إلى مجاريها .
ليست حبكة المسرحية أهم ما فيها ، إنها مثل عظم السمكة ، بدونه لن تكون سمكة ، ولكننا لا نأكله . في هذه الكوميديا أسئلة ( وجوابات ) مهمة عن الزواج ، وما يكرهه الأزواج ، وفيها فكاهات لفظية غاية في الطرافة كأن يقول فالينتين لأليخاندرا : أتمنّى لكِ طلاقا سعيدا !! أو أن تسأله عن كلمة بمعنى الحرية من خمسة أحرف ، فلا يهتدي إليها ، فتذكر له أنها تعني : انصرف ، وفي النهاية نعرف أن الكلمة المطلوبة : الطلاق !! ، وإذا كنا نضحك ملء قلوبنا من استعراض أسباب الطلاق وطريقة إنجازه ، فإننا نعرف كيف يمكن للأم أن تطمئن على ابنتها الأخرى الشابة منفردة في غرفة مع خطيبها ، بأن كلفتهما بعزف مقطوعة على البيانو لا يمكن عزفها إلاّ بأربعة من الأيدي! ، وفي مفتتح المسرحية كان لماريانو( الزوج ) حركة مدهشة ، وهو يلبس الروب والشبشب ، ثم يخلع الروب والشبشب 6 مرات في ذات المشهد بإيقاع رامز ومثير ، ولا ينافس هذا المشهد في ظرفه وإيقاعه المتجاوب مع تصاعد الحوار غير مشهد محاولة قتل ( السباك ) في الفصل الأخير بالمسدس التالف .
مسرحية : ” ليلة ساهرة من ليالي الربيع ” ترجمها إلى العربية وقدم لها محمد الأمين طه ، ونشرتها سلسلة المسرح العالمي في يناير 1972 ، وهي المسرحية الأولى التي أعاد صياغتها كاتب كويتي ( كوّتها ) مما أنتجت ( وزارة الإعلام ) ، وهذه الفقرة الختامية أنقلها عن كتابي : ” الحركة المسرحية في الكويت ” ( 1986 ) الناشر : مسرح الخليج العربي :
يقول التعريف : ” مسرحية سهارى ” مأخوذة عن مسرحية باسم : ليلة ساهرة من ليالي الربيع – من إعداد وإخراج حسين الصالح الحداد ، وقد عرضتها فرقة المسرح الكويتي على مسرح كيفان ابتداء من 15/10/1972 – وبهذا يكون المسرح الكويتي هو أول فرقة بادرت إلى افتتاح الموسم الجديد ، وقد ظهرت مع الفرقة – لأول مرة – مريم الغضبان ، وأنيسة على . وهذه أول إفادة من فرقة كويتية من المسرحيات التي تشرف على ترجمتها ونشرها وزارة الإعلام .
د . محمد حسن عبدالله