المقالة
مدينة الله
القدس الخــــالدة
العنوان الذي آثره الدكتور عبد الحميد زايد ، الذي تهجد – علميا – في محراب الخلود ، إذ كتب من قبل عن مصر الخالدة ، وتتسع الرؤية حين نعرف أن كتاب ” القدس الخالدة ” نشر في سياق سلسلة ” تاريخ المصريين ” ، فالحق أن فلسطين التي احتسبت بالجغرافيا جنوبىّ بلاد الشام ، احتسبت بوقائع التاريخ وضرورات الأمن القومي الاستراتيجية امتداد حيويا لمصر ، وكانت القدس نقطة الارتكاز وحجر الزاوية ، ولهذا نهض المصريون للدفاع عن القدس في عصور الفراعنة ، كما في زمن صلاح الدين ، وبيبرس ، ومحمد علي ، وحتى استشهاد أحمد عبد العزيز .
لن تتمكن هذه الأسطر من الإشارة إلى عناوين فصول هذا الكتاب الجاد الموثق ، من ثم نكتفي بالمقدمة ، وبآخر الفصول ( الثالث عشر ) بعنوان : مأساة القدس .
في المقدمة يثير الدكتور زايد أشواق الأسئلة حين يقول : من أين جاءت أهميتها وشهرتها ؟ فليست واقعة على مجرى مائي يغذيها وييسر سبل الاتصال بغيرها كما أن تربتها بركانية ، فلا يصلح الكثير من أرضها للزراعة التي كانت عنصرا أساسيا في قيام الحضارات القديمة ! الجواب : أنها مدينة مقدسة ، عاش فيها أو مرّ بها الأنبياء في كل العصور ، فيها تاب الله على داود وسليمان ، وبشر الله زكريا بيحيي ، وأوتيت مريم فاكهتها المخالفة للمواسم فيها ، وفيها ولد عيسى ، وتكلم في المهد صبيا ، ومن القدس رفعه الله إلى السماء ، وإليها ينزل ، وإليها كان مسرى محمد r ، ومسجدها أحد ثلاثة مساجد تشدّ إليها الرحال .
يقدم الفصل الأخير أسبابا أخرى لتشبث الصهيونية بالقدس ، وهي أسباب لا يدخل فيها التقديس الديني إلا للتغطية على أهداف أخرى ، ليس باستطاعتها أن تثير التعصب اليهودي كما يثيره الكلام عن جبل صهيون حيث يسكن الرب !! وهذه الأسباب تحاول – بمنطق السماسرة – أن تقدم خدمة للغرب ، الذي حاول – في مختلف العصور – السيطرة على الوطن العربي . إن فلسطين ملتقى الطرق بين أوربا وآسيا وأفريقيا ، وهي المركز الحقيقي للقوة السياسية العالمية ، والمركز العسكري الاستراتيجي للسيطرة على العالم . هكذا ” يساوم ” ناحوم جولدمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية القوي العالمية الطامحة إلى التحكم في العالم ( في إحدى خطبه بمدينة مونتريال عام 1947 ) وبمنطق السمسار أيضا تقدم إسرائيل نفسها لدول الغرب على أنها تنتمي إليهم ، امتداد لهم ، يحاول أن يشق الوطن العربي ليسهل تفتيته ، وابتلاعه !
في فصل ” مأساة القدس ” يحفر المؤلف في طبقات التاريخ ، وليس له مندوحة عن هذا في كافة فصول الكتاب ، لأن تاريخ القدس يعد المختصر الجامع لتاريخ العالم وأسس الصراع وقوانين الغلب فيه . وفي هذا الفصل الأخير تمهل عند تطلع نابليون إلى السيطرة على فلسطين ، فما فشل وأعجلته الأحداث فعاد إلى فرنسا ، راح – بعد أن استتبّ له الأمر – يعمل على استنهاض الحلم الصهيوني ، فدعا إلى عقد اجتمــــاع ( 1806 ) لمجلس اليهود الأعلى ( السنهدرين ) ليغريهم بفلسطين فيضمن الطريق إلى الهند والصين ، ولكن يهود فلسطين ( ولم يكن عددهم يزيد علة خمسة آلاف !! ) ويهود العالم أجمع كانوا أهون من تحقيق الحلم النابليوني ، فذهب صوته بغير صدى ، كما حدث له من قبل حين أصدر نداءه ليهود العالم وهو يحاصر عكا ، فلم يجد غير الهزيمة المنكرة . ولكنه نبّه غلاة اليهود إلى أهمية توفيق أوضاعهم مع اتجاه المطامع الغربية في الوطن العربي .
هنا يذكّر الدكتور عبد الحميد زايد بمحاولة هرتزل إقناع السلطان العثماني ( عبد الحميد ) – في مطلع القرن العشرين – أن يمنح فلسطين لليهود مقابل أي قدر من المال يراه ، ولكن السلطان رفض العرض ، وقال : لا أستطيع أن أتنازل عن قدم مربعة واحدة من هذه الأرض ، لأنها ليست أرضي ، وإنما أرض شعبي ، الذي حارب في سبيلها ورواها بدمه .
لقد بذلت محاولات سابقة مع سلاطين آل عثمان ، واقترن إغراؤهم بالذهب بتخويفهم من قوة محمد علي المتصاعدة في مصر ، وحاجتهم إلى قوة جديدة تعترض طريقه ، وفي نفس الوقت كانوا يساومون محمد علي بلسان المليونير اليهودي موسي حاييم مونتيفور أن يمنحهم أرضا بالإيجار ( مائة قرية لمدة خمسين عاما ) نظير 20% من الإنتاج ، ولكن محمد علي رفض طلب مونتيفور . الجدير بالتأمل حقا ، بالنسبة لليهود ، ولنا أيضا ، أ،ه ، هناك دائما محاولة اختراق يهودية لكل جدار نقيمه لحماية استقلالنا . لقد رفض السلطان عبد الحميد التنازل عن قدم مربعة من فلسطين ، كما رفض محمد علي مبدأ ” تأجير الوطن ” ، ولكن أعوان السلطان استجابوا وساوموا ، فحصلت 45 أسرة يهودية على أرض فلسطينية في منطقة سباط ، ومن قبلهم حصلت منظمة يهودية فرنسية علي ” منحة ” من أرض فلسطين ( 600 فدان ) قرب يافا ، كما أن طلعت باشا – القائد التركي البارز في الحرب العالمية الأولي – صرّح في ديسمبر 1917 بأن الصهاينة الألمان سيمنحون الحكم الذاتي وحق الإقامة في فلسطين عقب الحرب . أما محمد علي الذي رفض تأجير أرض فلسطين فإنه استجاب لطلب مونتيفور عام 1840 للعفو عن اليهود الذين حوكموا في دمشق لقتلهم أحد رجال الدين المسيحي.
يتجدد عنوان الفصل ( مأساة القدس ) في صدر صفحاته الأخيرة ليصف معاناة المدينة المقدسة أعقاب احتلالها من الجيش الإسرائيلي ( الأربعاء 7 يونيو 1967 )كانت النيّة لالتهام القدس ( كاملة ) مبيتة ، والمخالب والأنياب والخطط جاهزة ، فمنذ إعلان الدولة ( 1948 ) وبسط سيطرتهم على جزء من القدس ( الغربية ) دأبوا على نقل أجهزة الدولة الرئيسية من تل أبيب إلي القدس ، وفي عام 1958 بدأوا البناء في الكنيست ، وارتفع إلي خمسة طوابق ، متخطين ( غير عابئين ) بالقرارات الدولية عن حياد القدس . وما أن سقطت المدينة المقدسة في أيديهم وقبل أن تمر خمسة أيام هدم السور الذي يفصل بين المدينة القديمة ، والجديدة ، وبدأت المستعمرات تنشأ ، وآلاف المنازل تقام وفق مخطط يرتب لمستقبل ضاغط على من يجاهد للبقاء في القدس من العرب . إن مشروعات إسرائيل في القدس تخرّب الصورة التاريخية للمدينة ، وتصنع وَهْماً جديداً تحاول أن تروج به لأساطيرها القديمة ، تساند هذا بتزوير التاريخ بدءا من التنقيب تحت جدران المسجد الأقصى للكشف عن ” جذور ” هيكل سليمان ، ولا يفوت المؤلف أن ينبهنا ، ويثبت في ذاكرتنا ( الجاهزة للنسيان ) أن ” المسجد الأقصى ” لا ينطبق تاريخيا على مكان بناء المسجد الأقصى الحالي فقط ، ولكن على كل ما يحيط الفناء الكبير ، وبوسطة قبة الصخرة ، وكذلك القباب الأخرى الصغيرة ، والمحاريب ، وردهات العمد ، وأسوار ذات الثلاثة عشر بابا !!
هل نستطيع أن نكتب على صدورنا وشما نثبت به هذه الصورة ؟