مدينة الله : هي الغزالة في المدى



المقالة

مدينة الله

هي الغزالة في المدى

تستهلّ قصيدة تميم البرغوثي ” في القدس ” بالأبيات الستة الموزونة المقفاة ، وقد اقترنت هذه الخصوصية الشكلية بخصوصية روحية ماثلة في الكثافة والشجن وغلبة الحنين ، وقد أثبتناها قبل ، وفي صياغتها وصفت القدس بأنها “دار الحبيب”، تلك العبارة المتجذرة في التراث العشقي العربي ، كما أن المشهد المفتقد المختزن في الذاكرة هو ” القدس العتيقة ” ، وليست القدس الراهنة التي استباحها اليهود ومسخوا صورتها بما أدخلوا علها من حثالات الآفاق . ولأنها عتيقة – والعتاقة الجمال والطرافة والأصالة – فقد ناسبتها إيقاعات البحر الطويل ذات الامتداد والرصانة ، حين يبدأ رصد المشهد الحاضر في القدس فإن الموسيقى تختلف ، وهو اختلاف غيابي ينبع من جمالية الشكل وفلسفة الدلالة ، فالبحر الكامل الذي ضبط التشكيل الموسيقي في القدس الراهنة من البحور الصافية التي ذهب الأصوليون من العروضيين إلى أنها الأحق بقصيدة التفعيلة ، ومن الناحية الإيحائية الخالصة فإن البحر الطويل يستجيب لقصص الماضي ذات النفس الملحمي والطابع الأسطوري ، وقد جسدت الأبيات الستة هذا الجلال المنبعث من روعة الماضي وروعة احتضان القلب لصوره وذكرياته ، أما المشهد الحاضر المتقولب في تفعيلة الكامل فإنه صاحب جلجلة وحركات – ( وهذا الوصف لعبدالله الطيب ) وأنه ليس بحر تأمل . وهذا من ضروب التوفيق للبناء الموسيقي لهذه القصيدة . لقد اقترن الانتقال الموسيقي باختلاف المشهد وتكوينات المشاهد عبر ” نقلات ” القصيدة وإن المسافة بين ختام المقطع الافتتاحي :

متى تبصر القدس العتيقة مرة           فسوف تراها العين حيث تديرها

وبين ابتداء المقطع الثاني :

في القدس بائع خضرة من جورجيا

برم بزوجته يفكر في قضاء إجازة أو في طلاء البيت !!

هنا تبدو المسافة شاسعة ، والنقلة صادمة ، ولكن مسار القصيدة لا يلبث أن يزيح عن المشهد تلك البضاعة الرخيصة التي ضمها هذا المقطع ( بائع الخضرة وبائعة الفجل والشرطي الحبشي .. الخ ) لتبدو شخصية المدينة التي صنعت التاريخ ، وصنعها التاريخ ، من ثم هيمن حضوره الشامخ المنتمي ليطمس حضورا زائفاً سيبدو – بمنطق التاريخ – حضورا عابرا ، حتى وإن أخذ صورة مستفزة :

وتلفت التاريخ لي مبتسما

أظننت حقا أن عينك سوف تخطئهم وتبصر غيرهم ؟

ها هم أمامك : متن نصّ أنت حاشية عليه وهامش

أحسبت أن زيارة ستزيح عن وجه المدينة يا بني حجاب واقعها السميك

لكي تـري فيها هـواك

في القدس كل فتى سواك

وهي الغـزالة في المدى

حكـم الزمــان ببينها

مازلـت تـركض خلفها

مذ ودعتـــك بعينهـا

فأرفق بنفسـك سـاعة

إنــي أراك وهــنت

في القدس من في القدس إلاّ أنت !!

إن هذا المقطع من القصيدة أساس في بناء منحاها الحواري ، وأساس في تأكيد الحضور العربي في المدينة ، حتى ليبدو قوله : إني أراك وهنت ، حين رأيت المدينة تتسع لكل قاصد ، إلاّ أنت !! إن التاريخ الذي – إذا ما تكلم – كان في المخيلة شيخا جليلا – يبدو الشاعر أمامه فتي محدود الحيلة ، فإنه يستفز مكنونه بتلميحاته ، ويتأكد هذا المنحى بأن استأثر الفتى بسائر القصيدة ، وكشف عن عمق الحضور العربي ( الإسلامي المسيحي ) إلى درجة استحالة محوه . على أن كاتب التاريخ استعار للقدس صورة الغزالة ، واختار لها المدى موقعا ، وجعل الفتى يركض خلفها حتى بعد أن حكم الزمان ببينها ، وهنا تبدو الغزالة عاشقة للفتى غير راضية عن فراقه : ” مذ ودعتك بعينها ” ، والغزالة رمز خصيب بمعاني الجمال والخلود وفيض الحياة . الغزالة ( الحيوان ) نموذج الرشاقة وتناسق التكوين ، والغزالة ( المرأة ) المكحولة الحسناء الجميلة ، والغزالة ( الشمس ) يقيدها المعجم بأنها الشمس عند طلوعها ( لسان العب : يقال طلعت الغزالة ، ولا يقال : غابت الغزالة .. وغزالة الضحى أول الضحى إلى مد النهار ، وقيل الغزالة عين الشمس ) – وهذه الغزالة / الشمس عبدها أجدادنا العرب القدماء ولهم عنها أساطير ، فشبهوا بها المرأة ، كما حرص الشعراء علي ألاّ يقتل الغزال في قصائدهم ، وقد ذكر كتاب السيرة أن عبد المطلب – حين أعاد حفر زمزم – وجد فيها تمثالين لغزالين من الذهب ، وهكذا ستكون العلاقة المعنوية بين : ( في القدس كل فتى سواك / وهي الغزالة في المدى ) قاضية بالتهكم من عقله ” كل فتى سواك ” إذ يطمئن إلى أن الأمور استقرت له ، وأن المدينة في قبضته يوسع فيها لمن يشاء وينفي عنها من لا يرتضيه ، وهذا كله باطل ، مجرد وهم ، إنها الغزالة في المدى ، وذكر ” المدى ” يؤكد مجازية الإشارة إلى الشمس ، وإلى القدسية ، إذ يتحول البعد المكاني إلى علوّ في القيمة . إن هذه الغزالة التي ودعته بعينها بما يؤكد أنها غير راضية عن فراقه ، تسفر عن نفسها في آخر مقاطع القصيدة ، وكأنما حرص الشاعر تميم البرغوثي على ألا يترك الرمز في موقع التعمية فآثر أن يأخذ بيد المتلقي يعبر به بين حقائق التاريخ العربي الممتد قرونا وقرونا ، وقد تجلىّ في معمار المدينة ، وفي سككها ، ومدارسها ، وحتى في روائح خان الزيت ..

يقول المقطع الختامي :

العين تغمض ثم تنظر

سائق السيارة الصفراء مال بنا شمالا

نائيـا عـن بابهـا

والقـدس صــارت خلفـنا

والعين تبصرها بمرآة اليمين

تغيرت ألـوانها فـي الشمس من قبـل الغيـاب

إذ فاجأتني بسمة .. لم أدر كيف تسللت في الدمع

ها هي ذي : الغزالة تسفر عن نفسها ، ربما تغيرت ألوانها في النظرة العجلى ..

ولكن من يستطيع أن يغير ألوان الشمس ؟!