القدس بين يدي الله : وردة في عروة القدس



المقالة

القدس بين يدي الله

وردة في عروة القدس

 

مادة هذه الوردة شهيد انتفاضة الحجارة ، الطفل محمد الدرّة ، رسمها بدمه ، وعمدها بدموع قومه ، أما الذي التقطها ، واختار لها العروة التي تستحقها وتزينها فهو الشاعر السوهاجي : جميل عبد الرحمن ، اختار هذه الصورة ( الإنسانية ) الرامزة عنوانا لإحدى قصائده ، ولديوانه ، الذي جاء من عمق الصعيد يحمل تلك الملامح القومية العروبية الثابتة التي تؤطر رؤيتها لشوارد التشرذم العربي بإعادتها إلى القضية المرتكز ، وجوهر الصراع التاريخي بين الحفاظ على الهوية ، ومحاولات طمسها أو تحجيمها بقوة السطوة من الآخر : الاستعماري أو الصهيوني .. أو باتفاق جنائي بينهما .

الشاعر جميل عبد الرحمن يبدأ من القدس ، وإليها ينتهي . يقوده حسه القومي إلى جنوبي لبنان ، وإلى اليمن وإلى العراق ، وإلى ذكريات دينية، وعلاقات صداقة أو قرابة، وتظل القدس حاضرة في قرارة التصور ، كما في تشكيل البنية التصويرية للقصيدة .

مفتتح الديوان ونسغه المستسر ، وكلمته الجامعة هي : ” الغضب ” ، فبهذا الغضب المقدس : لن تصبح فلسطين للغاصب وطنا – وفيها يقول :

وطفولة وجهي تتغير سحنتها / أكبر تزداد تجاعيدي /

أغدو وجها فظا / غضبي أسمى ما أملك ، تاجي ، سرجي ، فرسي

غضبي لهبي الأسمى .

وإذ يناجى عذارى فلسطين ، فإن ذكريات التاريخ تتزاحم لتصنع صور النخوة العربية التي بدأت بقوس سعد ، ثم ما لبثت أن تيبست ، حين سد الكبار آذانهم ، وتركوا فعل الثورة للصغار : والقدس ترفع برق استغاثتها / فيحور رمادا ولا ” يسمع الصم ” / ممتطيا صهوات الأسف .. آه يا ابن الوليد افتقدناك / لا شبر في جسد الأمة اليوم صار / سليما من الطعن / ” وأتاني أبيت اللعن ” / إن وجهك يلعننا .. إنه العقم !!

القصيدة التي يحمل الديوان اسمها : ” وردة في عروة القدس ” مهداة إلى الطفل الشهيد محمد الدرة ، ولكنها تحوّل المجرد إلى صورة ، فتأتي الدلالة راعفة بفعل المفارقة ، فهذا الطفل الشهيد الذي مات برصاص الغدر كان في حضن أبيه الأعزل ، فتكونت أيقونة قادرة على البرهنة بنفسها على مستوى الخسة والتوحش في عملية الاغتيال . يقود محمد الدرة إلى فلسطين ، فهو نَبْتُ في أرضها ، ترتاح شمسها على جبهته المنبسطة ، تتجلى فيه براءتها . وحين يبلغ امتداد الصورة هذا الحد نكون – تلقائيا – في رحاب القدس ، وهي محطة الوصول ، والنقطة الفاصلة في الموضوع الفلسطيني :

.. وعلى الأهداب نما ريحان القدس / يطرح أسئلة الشوك المؤلم .

فإذا غادرنا ظاهر الهيئة إلى دواخل المشاعر ، فالقدس ، برمزها الإسلامي التاريخي ، حاضرة كذلك :

ومحمد يعشق ساحات الأقصى / وصلاة الفجر به / .. وصلاة العيد – برغم حصار البنادق

مغتصبي أرضه / يعشق قبّة صخرته / والعبق المنداح على طول شريط الأزمان

مــن ريش بــراق أسـرى بنبيّ الـرحمة / يتقـرى آثار خطى ما زالت

يقطر منها المسك الأذفر / ويضوع العطر المدرار / يتحسسها بدموع العين

يحلم أن يكبر ويطهر ساحات الأقصى / من رجس الأقدام الوقحة

حتى جاء اليوم الموعود / وطيور الساحة ثارت تمتشق حجارتها

تشعل في وله عزمتها ..

تتقاطر الصور ، فيمتد المشهد ، أفقيا بتداعي مفردات صور الأقصى كالقبة والمئذنة ، والساحة ، ورأسيا بالغوص في التاريخ ، والكشف عن أقدم رابطة إسلامية ببيت المقدس ( الإسراء ) وتكتمل دائرة التصوير باستعادة المشهد الماثل الذي أدى إلى استشهاد الطفل ، وفي هذا السياق الذي رسمه الشاعر يبدو محمد الدرة – برغم طفولته – بطلا تراجيديا موعودا ، كان يحلم بأداء دور تاريخي تطهيري نكص عن فعله ” الكبار ” ، فتقدم ليصنعه ، ولكنه واجه مصرعه ولما يجاوز عتبته !! ولكن : هل تذهب دماء الشهداء عبثا ؟

دمه الطاهر يشخب ، يشخب / يغسل كل بلاط الأقصى / يتحول وردة زهو حمراء

في عـروة ثـوب القدس الشاحب / ويعيد لسندسه سر بهائه / يفتح عينيه مليا

ولآخر مرة / كي يشهد حلما راوده .. / الحلم تحقق .. / تشمخ مئذنة الأقصى

ويكبّر صوت مآذنها / يتورد خد قباب المسجد / الموت صلاة وتهجد .

هذه صورة مشهدية ، قريبة المعنى ، يسفر التدقيق في مكوناتها عن معان دقيقة أفادت من تقنيات السرد ، ومن حركة الكاميرا في اللقطة الكلية التي تتبعها لقطة متوسطة ، ثم أخرى من قريب ، لترصد الصدى والأثر في تجلياته المنظورة بالعين ، والملتقطة بالسمع ، والمدركة بالوجدان .

في سياق قصيدة بعنوان : ” متى يا قيامة أرواحنا تعلنين ابتداء الحياة ؟ ”

يتساءل الشاعر جميل عبد الرحمن : هل تغير فينا الزمان ؟ أم تراجع عطر المكان ؟ – وهو تساؤل يستحق أن نفكر في جوابه !!