القدس بين يدي الله : هل حقا : القدس ملصق على الجدران ؟!



المقالة

القدس بين يدي الله

هل حقا : القدس ملصق على الجدران ؟!

 

الشاعر الغزي هارون هاشم رشيد شاعر قضية ، شأن جميع شعراء فلسطين في القرن العشرين وحتى تستقيم لهم الحياة ، وهذا الوصف العام يختلف بين شاعر وشاعر حين ندخل إلى بناء القصيدة وتقنيات الأسلوب ، وهنا نلمح آثار التطور في شعر هارون ما منذ بداياته الجريحة بالنزوح القسري عن الوطن والاستسلام لمحنة اللجوء ، وهي مرحلة اتسمت قصائدها بطرح الأسئلة :

” لماذا نحن أغراب ؟ “،وبكاء الفردوس المفقود ومناغاة أمل العودة (من بعيد) :  

أخي والخيمة السوداء قد أضحت لنا قبرا

غدا سنحيلها روضــــا ونبنــي فوقها قصـرا

غدا يوم انطلاق الشعب يوم الوثبة الكبرى

غدا في زحمة الأقدار سوف نحقق الأمـرا

فلسطـين التي ذهبت سترجع مرة أخـرى

إن شعر هذا الشاعر وقد عاصر القضية منذ بدايتها ولم تنفد طاقته الإبداعية الخلاقة جدير بعناية بحثية تتوغل في مساءلة تطوير الخطاب واستحضار تقنيات أسلوبية تتناسب ومراحل تفاعل الجماهير ( الفلسطينية والعربية بوجه عام ) مع القضية وما اكتنفها من حالات الحرب وأوهام السلام . إن السمة المستمرة عبر مراحل شعر هارون هاشم رشيد تتجلى في الحفاظ على القيم الجمالية المتأصلة تراثا في الشعر العربي : الإيقاع ، والمعجم ، والمباشرة ، وأنماط الصور ، والبرهنة بالتاريخ ، وتوجيه الخطاب إلى الجماعة . ولعل وقفتنا مع قصيدة ” وردة على جبين القدس ” كشفت عن بعض ذلك . أما في ديوانه الآخر بعنوان : ” مفكرة عاشق : قصائد للقدس ” ، فإننا نعبر فوق الشاغل المستمر وهو ” القدس ” إلى تطوير الأسلوب ، باتخاذ تقنية المفارقة أساسا للتصوير وإبلاغ الرسالة ، وهذه التقنية ذات جذور تراثية ، في اقتناص الصور وتشكيلات البديع بصفة خاصة ، ولكن هذا الانتساب إلى البلاغة القديمة ليس هو ما يكسب فن المفارقة في شعرنا المعاصر جماليته وعمقه الإيحائي ، وفي هذه الإشارة ما يدل على أن ” المفارقة ” رؤية عقلية للعالم ، أو لظاهرة من ظاهراته ، لكي تأخذ موقعها في قصيدة وتستحيل إلى لغة الشعر ينبغي أن تخلق توازنا دقيقا بين منبعها الذهني وتركيبها المنطقي ، وبين ما قد يبدو نقيضا لذلك ، ونعني به غرابتها المناقضة لبدهيتها ، وغموضها الداعم لطاقتها الإيحائية المناقض لذهنيتها على مستوى التجريد . هذا مطلع قصيدة بعنوان : ” هذا العام ” :

وقيل عام القدس / هذا العام / اتخذ القرار في اجتماعه / مؤتمر الإسلام/

وصفق الحجاب والخدام / وعــاد كل واحـد / لقصـره ونام /

وتركت مدينة القدس / تغـوص في الظـلام / تغرق في القـتام /

تدوسها سنابك / الغزاة بالأقدام / وتستبي تاريخها / وتزرع الألغام/

وتنشر الدمار في أنحائها / والموت والحطام / وقيل : عام القدس / هذا العام.

إن المفارقة ماثلة فيما بين القول والفعل من تناقض ، وقائمة أيضا فيما بين السلوك عند جانبي العلاقة بالقضية ( مدينة القدس ) من لا مبالاة بالفعل هنا ، ومن عمل وتغيير للصورة الراهنة وطمس التاريخ .. هناك ، ومع هذا يستمر مضغ الشعار : ” عام القدس : هذا العام ” ، والمفارقة الكبرى صانعة الإيحاء أن هذا الشعار ذاته بقى معلقا ، مفتوحا على احتمالات مختلفة ، قد تبلغ حد التناقض ، لاعتبارات ، يغذيها طرف بأنه عاد إلى قصره ونام ، ويغذيها الطرف الآخر بأنه استبى التاريخ وزرع الألغام .. هذه مقدمات ، توصل إلى غايات لا تحتاج إلى مجهود لاستخلاصها .

إن مفتتح القصيدة : ” وقيل ” لا تنسب القول إلى قائل محدد ، وهذا الإسناد المجهول يدخل العدو الصهيوني في نطاق المدلول ، فيكون القول قوله .

وفي مطلع قصيدة أخرى عنوانها : ” في الزمن المهان ” تأخذ القدس ذات الموقع ، ولكن ليس بين الأنا ، والآخر ( الصهيوني )وإنما بين ظاهر هذه ( الأنا ) وباطنها ، بين فعل اللغة ، ولغة الفعل . تقول القصيدة :

القدس في هذا الزمان / في زمن الطرشان .. والعميان / في الزمن المهان/

القدس صارت منتدى / وملتقى ومهرجان / القدس صارت مطمعا، ومشربا/

وملصقا على الجدران / القدس في كل مكان / في صحف الصباح ، والمساء/

في موجز النشرة ، في تفصيلها / في أول الأنباء / القدس في العنوان /

في خطبة الجمعة / في محادثات القمم الشماء / القدس دائما في البال /

في الضمير ، في الأذهان / لكنها إذا دعا الآذان / تبقى مكانها /

مكتومة في الصدر / لا تجاوز اللسان .

هذا مطلع قصيدة تمضي على هذا النسق ، ولو استعدنا الطريقة القديمة في وصف القصائد – بديلا لعناوينها – كما كان يقال : المعلقة ، المذهبة ، لأطلقنا على هذه القصيدة وصف ” الفاضحة ” ، لأنها تكشف حالة الانفصام الذي يعيشه قادة العرب تجاه المدينة المقدسة خاصة ، أو إلى الأقل الازدواجية على حد التناقض ، وفي رصد تفاصيل الصورة الظاهرية ( المعلنة ) تتجلى في رسم المشهد قدرة الشاعر على تعقب التفاصيل بأسلوب وثائقي وكأنه يقلب صفحات الجريدة ، أو يقرأ العناوين ، أو يعرض ” فيلما ” صنع للدعاية السياحية ، حتى إذا وصلنا لحظة الحقيقة التي لا مفر من بلوغها ظهر الوجه الآخر الخبئ ، وقد استخدم رمزية ” الآذان ” ليدل على ما لا يجوز كتمانه ، ولا يستقيم أمره بالهمس به ، إنه لابد أن يجهر به ، ويتغنى بروائه وتجلي طهارة معانيه ، من فوق المئذنة، والمفارقة الفاجعة أن الفعل كان نقيض ذلك .