القدس بين يدي الله : كل الأنهار تجري إلى القدس



المقالة

القدس بين يدي الله

كل الأنهار تجري إلى القدس

 

تتبقّى عن قصيدة ” لأنك عشت في دمنا ” إشارات نقدية ، وقد سبق القول بأنها إحدى قصائد ديوان بعنوان : ” شيء سيبقى بيننا ” ، كما أشرنا إلى ذلك الرباط المنطقي بين عنوان الديوان وعنوان القصيدة ، فهنا موضوع ومحمول ، بينهما لام التعليل ، وهذه        ” القراءة ” مشروعة بل مطلوبة نقديا ، أعني : أن تقرأ قصائد الديوان في ضوء عنوانه ، بل أن تقرأ كأنما هي قصيدة واحدة ممتدة ، ما دام الشاعر هو الذي نسق مادة ديوانه ورتب قصائده ( وهذا مطلوب كذلك في قراءة مجموعات القصة القصيرة ) وقد رأينا في قصيدة     ” لأنك عشت في دمنا ” ملامح البدايات ، ليس بدايات تجربة الشاعر بقدر ما هي بدايات الدخول إلى عالم ” القدس ” الثري الغامض المتداخل مضطرب الروافد المزدحم بالأسانيد المتعارضة ، لقد اختزل المشهد في صورة لقاء يكتنفه الحزن والذكريات الأليمة ، فيسفر اللقاء عن عتاب تكون فيه القدس سافرة بذاتها تسأل وتعاتب فكانت فرصة لإعلان البراءة من النسيان ، وتجديد عهد الإصرار إلى تحقيق الوعد .

ويتضمن ديوان : ” طاوعني قلبي في النسيان ” قصيدة ” مقدسية ” أيضا ، ذات نهج مختلف ، يعطي – موضوعيا – مؤشرا على التوغل في القضايا السياسية الحاضرة وأن شاعر الغزل العفيف المتمحور حول ذاته تسوقه قدماه بقوة المعايشة والتهاب المنطقة التي يعيش فيها إلى اقتحام تلك ” الغابة ” المخيفة ، التي تناثرت المهالك على جوانبها ، وهنا تبدت له ” القدس ” مستقرة في مركز الدائرة ، وحاضرة في كل مهلكة ناشبة أو متوقعة . هذا ما تقوله قصيدة ” مرثية حلم ” ، وبين عنوان القصيدة وعنوان الديوان علاقة أيضا لا تحتاج إلى تفلسف ، فالرثاء إعلان للتذكر ، وأول خطوة في اتجاه النسيان ، ولكن الشاعر أراد غير هذا المعنى البعيد ، والبناء الفني لقصيدته يكشف عن عالم من الفوضى والأزمات والنوازل الماثلة والمتوقعة يحيط بحلم الأمة العربية في الوحدة والحرية والعدل ، من ثم كان رثاء الحلم ، ولكنه رثاء يستفز الرغبة في المقاومة ، وأولها التنبه للأخطار وتقدير آثارها ، وليس رثاء من نفض تراب قبرها عن يديه .

إن ” مرثية حلم ” فاروق جويدة تنسج على إيقاعات ابن زيدون في ” أضحى التنائي ” التي استلهمها أمير الشعراء في : ” يا نائح الطلح ” . وقد كشفت له بصيرة الشاعر ما في قصيدتىْ سابقيه من إحساس عميق بمعنى الحياة ، وأنها بالضرورة ذات تلون ، وانتقالات ، تستدعي الصبر وحسن التأتٍّي للأمور ، فقصيدة ابن زيدون تنفرد بطابعها الذي يجمع بين شكوى الزمان والحنين إلى الماضي والغزل بأميرة حبه ولادة . ويبقى التذكر والحنين مشتركا بين ابن زيدون وشوقي ، أما أميرة حب شوقي فهي ” كنز بحلوان “– أمه ، ومن ورائها وطنه !!وهنا تختلف ” المعارضة ” التي تعقب فاروق جويدة خيوطها ومساربها ، وهو في رثاء حلمه أقرب إلى ابن زيدون منه إلى شوقي ، مع أن التصور المجرد لشبكة العلاقات الموضوعية كان يغري بأن يكون شوقي الأقرب ، ولكن شاعرنا له اختياره ، وقد دل هذا الاختيار على سبق ارتباط بفن ابن زيدون ، الذي سيجعل من حياته وشخصه وطموحاته موضوعا لمسرحية شعرية ، تجعل منه رمزا لحلم الوحدة العربية – في الأندلس الممزقة بملوك الطوائف ، وأكبر الظن أن فكرة المسرحية ، أو مقدمتها المنطقية ( كما أطلق عليها الناقد الأمريكي لاجوس آجري في كتابه : فن كتابة المسرحية ) قد استنبتت مع ميلاد ” مرثية حلم ” ، أي حوالي عام 1986 – في حين نشرت مسرحية ابن زيدون بعد هذا التاريخ بعدة سنوات . إن التوازي ماثل في بناء مخطط القصيدة ، فما كان ينقص الأندلس لتعيد وحدتها وشخصيتها العربية هو هذه المركزية المفتقدة بالتشرذم والحروب الداخلية بين أمراء الطوائف وهكذا تبدو الصورة الراهنة للعالم العربي / الإسلامي في مرثية الحلم :

يا جامع الناس حول الحق .. قد وهنت

فينا المــروءة .. أعيتنـا مــآسينا

بيروت في اليـم ماتت ، قدسنا انتحرت

ونحن في العــار نسقـي وحلنا طينا

بغداد تبكــي وطهـران يحاصــرها

بحر من الــدم ، بات الآن يسقــينا

ومع تعدد العواصم التي تخوض محنتها ، فإن القدس هي التي تحدد مسار القصيدة ، إنها تستجمع في محنتها كل أوجه القصور والضياع الذي منيت به الأمة العربية .

القدس في القيد تبكي من فـوارسها

دمع المنــابر يشكــو للمصـلينا

حكـامنا ضيعـوها حينما اختلفـوا

باعوا المـآذن .. والقرآن ، والدينا

أي الحكـايا ستـروى ؟ عارنا جلل

نحن الهـوان وذل القــدس يكفينا

من باعنا ؟ خبروني ؟ كلهم صمتوا

والأرض صـارت مـزادا للمـرابينا

إن القدس – بالضرورة – تستدعي صلاح الدين ، بل تستدعي ” بلال ” – وقد كان جنديا في جيش فتح إيلياء ( بيت المقدس )على أن فاروق جويدة بعد هذا التطواف بين العواصم ومنارات التاريخ يعود إلى وطنه ( مصر ) يناجيه ، ويعلق آماله عليه ، وهذا أول ” تحفظ ” على مرثية الحلم :

حزني عنيد ، وجرحـي أنت يا وطني

لاشيء بعـدك ، مهما كان ، يغنينـا

إني أرى القـدس في عينيك ساجـدة

تبكي عليـك وأنت الآن … تبكــينا

ثم تأتي حكمة الختام وخلاصة المسعى : ما زال في العين طيف القدس يجمعنا/

         لا الحلم مات ولا الأحزان تنسينا / لا القدس عادت ولا أحلامنا هدأت /

                          وقد نموت وتحيينا أمانينا .

” لا الحلم مات ” ولكنه الحزن الذي يسوقنا إلى اليأس ، وهو بذاته طريق إلى الأمل في ” مرثية حلم ” مشابهات قوية في الأسلوب ، والصور ، وتسلسل المعاني ، تسري ما بين ابن زيدون ، وابن جويدة في قصيدتهما ، تحتاج إلى عناية خاصة .