القدس بين يدي الله : حقوق الانسان في بيت المقدس



المقالة

القدس بين يدي الله 

حقوق الإنسان في بيت المقدس

” العهدة العمرية ” مصطلح تاريخي يشير إلى عهد الأمان الذي بذله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب لأهل إيلياء ( بيت المقدس )عندما فتحها المسلمون (عام 15هـ) وهذه العهدة من أعظم مفاخر التاريخ العربي ، وتقدم الدليل على أن عمر بن الخطاب من بناة الحضارة العظام ، ومؤسسي حقوق الإنسان قبل أن يعرف هذا المصطلح بعشرات القرون: لقد منحت العهدة على أساس من رؤية الإسلام للإنسان ، فله حق الحياة مهما اختلف عرقا أو لونا ، أو اعتقادا ، وحق الحرية وفي مقدمتها الحرية الدينية ، وحق العيش بأمان ، إلاّ أن ينقض شرط الأمان ، وحق العمل بما في ذلك جهاز الدولة التي لا يربطه بها غير نسق النظام العام . لقد أثيرت حول ” العهدة العمرية ” أسئلة كثيرة جنح بعض منها إلى محاولة إفساد دلالتها ، إذ عدها بمثابة اتفاقية أو معاهدة ، وهى ليست كذلك ، لأن المعاهدة أو الاتفاقية إنما تكون بين طرفين ، ونص العهدة يؤكد على انفرادية عمر بمنح الأمان للمدينة المفتوحة ، وطمأنة أهلها ( والزائرين لها من المسيحيين ) على حياتهم ومقدساتهم وعبادتهم ومساكنهم ، لا يزاحمهم أحد ولا يضيق عليهم . وفي كتاب ” تقديم بيت المقدس ” لمؤلفه عبد الفتاح العويسي المقدسي ، تعقب صيغ العهدة العمرية كما وردت في المصادر القديمة ، بمعناها أو بنصها ، مرتبة حسب التدرج التاريخي من اليعقوبي ( ت 284 هـ) إلى ابن البطريق ( ت 328 هـ) إلى الطبري ( ت 310 هـ) ونحن نعرف بالتجربة وبالشواهد أن تفاوت الروايات أو اختلافها حول حادثة أو أقوال ترتبط بها لا يعني نفيها أو الشك فيها ، بقدر ما يعني توثيقها وتعدد الأدلة على كينونتها ، أما جلاء الحقيقة ونفي ما يمكن أن تكون أضافته عوامل سياسية أو صراعات دينية أو عداوات عرقية .. إلخ ، فإن النقد العلمي ( المنهجي ) والتحليل القائم على استحضار القرائن والملابسات .. يمكنه أن يقارب الحقيقة ، بل أن يوصل إليها بتمامها .

إن أقدم نصين للعهدة العمرية جاءا مختصرين جدا ( في سطرين ) ، عند اليعقوبي ، ثم ابن البطريق ، ولكن نص الطبري ( 20 سطرا ) اقتحم التفاصيل ، أهميتها في أنها تطابق أو تقارب الطريقة المعهودة سلفا في عهود الرسول عليه السلام ، وتوجيهات أبي بكر الصديق لعماله ( ولاته ) ولعهود عمرية أخرى ، وهذه التفاصيل تصدر عن رؤية الخليفة – ممثل الدولة الإسلامية – للآخر ، ومدى احترام دولة الفتح لحقوق الإنسان الفرد ، وحقوق الجماعة ، وحقوق الطائفة ، وحتى حقوق المدينة ذاتها . وقد أكدت صيغة التفصيل حين احتاج الأمر إليه ، إذ تبدأ هكذا : ” بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما أعطى عبدالله : عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان : أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ، ولكنائسهم وصلبانهم ، وسقيمها وبريئها ولسائر ملتها ، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ، ولا ينقص منها ، ولا من خيرها ، ولا من صليبهم ، ولا من شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم ، ولا يضار أحد منهم .. ” فإذا عرض ” للناس ” داخل المدينة فهنا تفصيل آخر ، فلأهل المدينة حق الحياة فيها إلاّ من يرغب في النزوح بإرادته ، وهذا الحق ليس لجيش الروم ، إذ عليه أن يغادر مع ممتلكاته ، ومعه جماعات اللصوص التي أثارت القلاقل زمن الحصار ، أما أهل الضواحي وزوار المدينة ممن تصادف وجودهم بها ، فلهم حق البقاء بإيلياء ، أو المغادرة مع جيش الروم المنسحب ، أو العودة إلى مواطنهم في الريف ، وفي هذه الحالة الأخيرة لا تؤخذ منهم شيء حتى يحصدوا حصادهم !!

في نص وثيقة الطبري عبارة ( احترازية ) مسندة إلى الخليفة وما تعهد به لأهل إيلياء ، وهي أنه ” لا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود ” . لقد ناقش البروفيسور العويسي المقدسي هذا الشرط من كافة جوانبه ، لغرابته ، وانفراد الطبري بذكره ، ولعدم استناده إلى واقع ، لأن اليهود ، بالفعل ، زمن سيطرة الروم على بلاد الشام لأكثر من ستة قرون كانوا يحولون بين اليهود والحياة في القدس . ففضلا عن أن بختنصر دمر المدينة وهدم الهيكل ( 586 ق.م ) فقد دمرها الرومان مرتين وأزالوا اسمها من الوجود ، إذ دمرها طيطوس وأحرق الهيكل ( 70م ) وكذلك فعل الإمبراطور هدريان إذ أصدر قراراً ( 139 م ) بمنع اليهود من دخول القدس أو السكن فيها أو الدنوّ منها أو حتى النظر إليها من بعيد !! وكذلك أخرجهم هرقل منها ( 629م ) عندما انتصر على الفرس . وهذا يعنى أن قضية حياة ” اليهود ” في القدس لم تكن مطروحة ، ولا مكان لها في العهدة العمرية ، ولقد ظلت القدس مدينة مسيحية ، فيها أقلية إسلامية طوال عهودها حتى زمن الحروب الصليبية ، وفي هذا السياق يذكر أن المسجد الأقصى حين أنشيء كان خارج حدود مدينة ايلياء المسورة ، وأن المسلمين حين توافدوا للحياة في المدينة احترموا طبيعة تكوين المدينة فلم يبنوا مساجد في الجانب المسيحي منها . خلاصة القول في العهدة العمرية أنها رؤية سامية لحقوق الإنسان ، وإقرار للتعددية الثقافية والدينية في المدينة المقدسة . ومع هذا فإن مدينة ايلياء ( بيت المقدس ) فتحها المسلمون ، وأهلها مسيحيون ، ولم تكن حتى ألف عام قبل ذلك التاريخ ، وألف عام بعده ، لم تكن يهودية ، ولا كان لليهود فيها مكان ، ولا موروث من تقاليد ، أو طقوس سائدة ، وتلفتنا المؤرخة الإنجليزية كارين آرمسترونج إلى أن القدس لم تذكر بشكل واضح في التوراة ( الكتب الخمسة الأولى الأكثر قدسية في العهد القديم ) كما أنها لم تكن المقصد عندما فرض عليهم الخروج من مصر ، أو عندما ضرب عليهم التيه أربعين عاما ، بما يؤكد أن بيت المقدس لم تكن يهودية نشأة أو تاريخا ، وإنما كانت حياتهم بها أشبه بحادث عارض ، موجة هابطة بين أمواج عالية صنعتها مصر وأشور وفينيقيا ولا تزال قادرة على صنعها .