المقالة
لعبة لمرة واحدة !!
توطئة
مع أن هذه القراءة النقدية تواجه قصة قصيرة واحدة ، هي قصة ” قبيل الرحيل “، التي تصدرت مجموعة ” بيت سيء السمعة ” لنجيب محفوظ ، فإن شعورا ملحا يدفع إلى هذا المدخل العام ، وهذا يعني تزاحم الأسباب أو الدوافع ، في مقدمتها أن نجيب محفوظ الذي صنع حول أدبه أهم حركة نقدية حديثة في الثقافة العربية ، توازي ( إن لم تتقدم ، في مجال الأدب النثري ) ما أثارته حركة الشعر الجديد ، أو الشعر ، التي بدأت – أيضا – مع إبداعات نجيب محفوظ الأولى ، قد استمدت هذه الحركة من رواياته ، ودارت حولها ، ونادرا ما نظرت إلى قصصه القصيرة ، وإن هي فعلت ، فإنما يحدث هذا غالبا على سبيل التنظير أو التوضيح بعض ما جاء في رواية . وهذا التجاوز الطاغي لجهود الكاتب في القصة القصيرة لا يرجع إلى قصور في الإبداع ، فالموهبة لا تتجزأ ، مع امكان التفاوت بين تجربة وأخرى ، بنفس القدر ولنفس الأسباب التي يحدث بها التفاوت بين شكل فني وآخر . السبب – كما نراه – يرجع إلى أن نجيب محفوظ اعتبر قضية فكرية ، أو موقفا ، أكثر مما اعتبر أسلوبا أو بناء أو ” لغة ” فنية . هذا ما تدل عليه كتابات النقاد والدارسين عامة ، وإن أوحت عناوينهم بغير ذلك . وبهذا المعنى فإن مطالب الباحثين ستكون في الروايات التي تعني بالعام ، والاجتماعي ، وحركة الزمن ، بعكس القصة القصيرة التي تعبر استثناء من كل هذه العناصر . يسلمنا ما تقدم إلى أمر آخر / نقترب به أكثر من القصة التي اخترناها للقراءة . إن الفلسفة التي بدأ بها التبشير – أو التبرير – لفن القصة القصيرة تنبع من مخالفة أسس فن الرواية التي تعنى بالامتداد والتنوع ومن ثم تحرص على عناصر التشويق ، لتجديد دوافع الاستمرار في القراءة ، أما القص القصيرة فقد حرصت على تقديم أناس عاديين في ظروف عادية . لقد ظل هذا الأساس محترما ، حتى عند أولئك الذين نحوّه جانبا ، وكأنه ” ملك سابق ” يحتفظ بلقبه ويجرد منه في نفس اللحظة . إن نجيب محفوظ – في عدد لا يستهان به من قصصه القصيرة – ينتمي إلى هذا الرعي ، إذ يحمل هذه القصص بأفكار ، ورؤى ، وإيحاءات ، ومرموز ، تضرب في مجاهل التجربة والمصير ، وتكشف عن خبايا المعتقدات ، وخفايا الغرائز ، وجذور المعاناة الإنساني ، قبل أن يكون مجتمع أو يسود عرف ، ومع هذا يكدح الكاتب من خلال الشخصيات ، والحدث ، واللغة ، والشكل العام ، أن يبقى في حدود الممكن ، أو الناس العاديين في ظروف عادية .
إن قصة ” قبيل الرحيل ” ستكشف لنا عن ” الصراع ” بين ذات الكاتب التي تريد أن تفضي برأيها سافرا ، والقالب الذي اختاره أداة لتوصيل خطابه ، فيأبى عليه هذا السفور ، ويجبره على السير في خطوط ، أو خطوات ، واستخدام وسائل ، هي أقنعة ، ولكنها أقنعة شفافة ، ومن ثم ترسل عناصر البناء جميعا من شخصيات وأحداث ، ودلالات ضمنية ، ولغة ، وميضها المزدوج في اتجاهين معا ، تحقق الغرضين معا : يريده الكاتب ، وما تشترطه الوسيلة ، أو الأداة .
لقد قدم نجيب محفوظ إلى القارئ ثلاث عشرة مجموعة قصصية ، تبدأ بهمس الجنون ، وأخرها ” صباح الورد ” (1987) وهناك انقطاع طويل يتجاوز العشرين عاما بين المجموعة الأولى ، والتي تليها ، وهي ” دنيا الله ” ، ولكن المسافات الزمنية تقاربت وانتظمت (تقريبا) بعد ذلك . وقد أدى هذا إلى إمكانية نقدية ، وإن لم تخل من مغامرة ، وإذا كان من الخطأ أن نحاول إجمال كل مجموع من هذه المجموعات الثلاث عشر تحت عنوان واحد محدد ، فإن هذا أوضح ما يكون بالنسبة للمجموعة الأولى ، وهو صحيح بالطبع على بقية المجموعات ، وإن جاز أن نتحدث بشأنها عن محاور اهتمام ، أو أفكار حاكمة . لقد شغلت قضية الحياة والموت ، أو المصير ، أو لغز الوجود والفناء ، أو زوايا أخرى يمكن النظر منها إلى الجوهر ذاته ، شغلت فكر نجيب محفوظ في رواياته ، منذ محاولته الأولى : ” عبث الأقدار ” ، وتضخمت وأخذت امتدادها الذاتي في ” الثرثرة ” والموضوعي في ” الطريق ” ، وأخذت لنفسها مكانا واضحا في كل رواية تقريبا ، على تفاوت ، وهذه سمة أساسية مستمرة صنعت ورسخت الطابع التراجيدي لهذه الروايات . والقضية ذاتها موجودة في القصص القصيرة ، محكومة بأنواع الحوادث وطبائع الشخصيات ، واثر الزمن الخارجي ، والزمن القصصي . يمكن أن نقرأ في مجموعة ” همس الجنون ” : القصص : بذلة الأسير ، نحن رجال ، صوت من العالم الآخر ، ومن ” دنيا الله ” نقرأ : موعد ، ضد مجهول ، كلمة في الليل ، حادثة . ومن ” بيت سيء السمعة ” نقرأ : قبيل الرحيل ، لونا بارك ، يوم حافل ، ونقرأ من مجموعة ” حكاية بلا بداية ولا نهاية ” قصة : روبابيكيا . ومن ” شهر العسل ” نقرأ : روح طبيب القلوب . ومن مجموعة ” الجريمة ” نقرأ : الحجرة رقم 12 ، الطبول ، العريس ، العري والغضب . ومن مجموعة : ” التنظيم السري نقرأ : صاحبة العصمة ، في أثر السيدة الجميلة ، السيد س ، شارع ألف صنف ، عندما يأتي الرخاء . إن هذه القصص – وغيرها بدرجات أقل – بينها رباط غير الذي نتحدث عنه عادة باعتباره أمرا مسلما ، وهو صدورها عن نفس الكاتب ، ومن ثم فهي جميعا أقنعة لوجه واحد . إنها القضية ذاتها ولكن من زاوية مختلفة ، أو من موقع مغاير ، وهي تسمح بهذا لأنها عن المصير الإنساني الشاسع في امتداده ، معلوما بين مجهولين .
نكتة قديمة
إذا لجأنا إلى تبسيط قصة القصة ، بتجريدها من التفاصيل ، وهذا أمر مشروع بغية الإمساك بالعنصر الموجه للمكونات ، قد نفاجأ بأن ” الهيكل الخرساني ” لقصة ” قبيل الرحيل ” لا يزيد عن نكتة يمكن أن تصفها بأنها قديمة ، وإذا كان نجيب محفوظ – كما أعرفه – يضحك لأي نكتة حتى لو كانت معروفة له ، مجاملة قائلها ، فأكاد أتصور أنه سمع هذه النكتة ، وضحك لها ، ثم أخذ يتأملها ، حتى يتراءى له فيها معنى آخر ، أو معنى ثان ، هو الذي يكشف عنه تحليل المكونات والقرائن في القصة . خلاصة النكتة أن رجلا اصطحب امرأ ، شرطت عليه قدرا من المال في مقابل استمتاعه بها . بعد اللقاء ردت إليه ما أخذت ، معلنة أنها تفعل هذا إذا رضيت واستمتعت . أحس الرجل بالزهو ، وساقه الزهو إلى التمادي وتكرار المحاولة ، فما كان من المرأة إلا أن مدت يدها ، واستردت المال من جديد !! لقد أراد من هذه النكتة – الحكاية – المفارقة شيئا يختلف كثيرا عن دافعها الظاهري ، لقد استحالت قطعة العجين الهلامية شيئا آخر بما أضيف إليها من ألوان ومذاقات وروائح ، وما أدخل على شكلها من أنساق ، حتى لم يبق لها من الأصل المجرد شيء ، ولا ذك ” الهيكل الخرساني ” القديم ، الذي ” أندغم ” في تكوين شام، واختفى تماما ، حتى لم يعد جزءا من كل ، به جزئيا في كلي ، لا سبيل إلى التعرف عليه بعزله أو تحديده . إن نهاية النكتة – الحكاية القديمة تغري بطرح فلسفي عن ماهية السعادة ، بما يغري بتجاوز المعنى المجرد ، الذي يمكن استخلاصه من لحظة التنوير ، تك اللحظة المائلة في أن المرأة استردت ما كانت تنازلت عنه ، وهذا حكم على الإخفاق ، يمكن أن يعطي معنى التعادل : لا عليه ، ولا له . أما الطرح الفلسفي فيأتي من حوار في أعقاب استرداد المرأة لجنيهين المتفق عليهما سلفا ، وقد أحس الرجل بالغيظ لما يريد أن يتصوره خدعة ، وإنما غيظه لمغزى العمل :
” قال بجزع :
- شيء عجيب ، النقود لا تهمني ، ولكنك قلت أمس . أنسيت حقا ؟!
وقال لنفسه إما أنني مجنون ، وإما أنها مجنونة . ثم قال عابسا :
- مالك ؟ ماذا جرى ؟ خبريني من فضلك ؟!
- فابتسمت ابتسامة باردة وهي تتساءل :
- أتريد ان تأخذ دون أن تعطي :
- قلت إنك لا تأخذين عندما ترضين !
فرمقته بنظرة غريبة ثم قالت :
- أردت أن أهبك ليلة سعيدة . هذا كل ما هنالك .
فسألها بصوت متهدج :
- مجرد حيلة من الحيل ؟!
- ولكنها أسعدتك سعادة حقيقية ..
فقال وغضبه يتراكم كزوبعة في الأفق :
- كذبة حقيرة .
- لا تزعل ، كانت السعادة حقيقية ، وأنا استحق شكرك !
رماها بنظر قاسية …”
إن إغراء البحث عن معنى السعادة لابد أن يلفت تلميذ الفلسفة القديم – المستمر نجيب محفوظ ، من قبله أغرى إبسن في ” البطة البرية ” فقدم واحدة من أعظم مسرحياته وأغناها بالشعر والفكر وروح المأساة ، وقد طرح إبسن في مسرحيته جدلا عن معنى السعادة وهل هي فيما نظنه أو نتوهمه ، أم أنها في معرفة الحقيقة ولو شقينا بها . أما الحوار بين المرأة والرجل في ” قبيل الرحيل ” فيتسلل إلى ماهية السعادة من زاوية أخرى ، ليست المعرفة ، بل الزمن وعلاقته بالشعور ، إن المرأة لم تنف عن نفسها أنها خدعته ، أو لجأت إلى الحيلة ، مؤكدة أنها بهذه الحيلة أسعدته سعادة حقيقية . أما كلمته ” كذبة حقيرة ” فهي وصف للعمل وليس لشخصية ، وإذا فإن تخلخل الأساس يهدم البناء ، والزيف الذي تمثله المرأة الآن ، ينسحب تلقائيا على كل عملها السابق ، فإذا السعادة (السابقة) تتكشف عن زيف ، ولم تكن سعادة !! لم تكن سعادة حقيقية ، إنها لا تستحق هذا الوصف إلا مع استمرارها ، استمرار دواعيها ، وهذا يرقي بها أو يتحقق لها حين تغادر النسبي والمرحلي إلى المطلق . لقد تحدث الكاتب مرات ، في سياق السرد ، من خلال الرجل ، وفي الاقتباس السابق انتهى بأن رماها الرج – الكاتب بنظرة قاسية ، لم ترد من وجهها إلا دمامة وحشية ، وهنا يخالف موقف إبسن ، دون أن يتوافق مع رأي الكويكرز في البطة البرية ، فليست السعادة في الوهم ، كما أنها ليست في معرفة الحقيقة ، إنها هدف غير ممكن كمقولة نهائية للحياة ، لأنها هدف غير قابل للاستمرار ، وإن كان يقبل الصحبة المؤقتة .
بحنكة “صنايعي” مدرب ، لم تخطف هذه ” المحطة” الفلسفية نظر نجيب محفوظ ، فاكتفى باستراحة حوارية قصيرة عندها ، ولم يجعلها ختام تأمله لإمكانات هيكل الحكاية، فاستمر يتوغل إلى مسافة بعيدة ، طواها في حوار آخر قصير ، لكنه غير مستأنف ، غير ملصق بحكاية كان يمكن أن تتوقف قبله وتكتسب شكلها الجمالي المتكامل ، لقد صمم البناء من أول كلمة فيه لبلوغ غاية أخرى ، ليس طرح قضية السعادة إلا إحدى مؤشرات الطريق الطويل إلى تلك الغاية ، أو هو المحطة قبل الأخيرة على وجه التحديد ، أما لحظة التنوير التي يكتمل بها معنى النسيج الفني وتتكشف بها كفاءته في أداء التجربة أو عجزه ، فتبدأ من ختام الحوار السابق ، واستئناف حوار آخر بعد هدنة من التقاط الأنفاس ، لكنه يضج بالغضب للخدعة ، إذ يقول لها بازدراء :
” .. يا مغفلة إنك لن تستطيعي أن تكرريها مرتين ..
فتساءلت :
- ومن قال إننا سنلتقي مرة أخرى ؟! ”
بركات ودنيا
من المحتمل أن يكون عنوان القصة أول أو آخر ما يخطه الكاتب ، كما أن المغزى الذي يحمله يمكن أن يتولد من تدافع السياق بين البداية والنهاية ، ولكن هذه الاحتمالية لا تمس الشخصيات ، ولا فقرات البداية التي تصدر عن احتشاد وانتقاء ينكتب إجباريا وكأنه تنفيس عن هم مكبوت أو فكرة حبيسة تشكلت وتريد أن تتحول إلى فعل عن طريق الكتابة . البداية رجل – لم نعرف اسمه – من أصل ريفي ، موظف بالإسكندرية لأربع سنوات خلت – مسكوت عن سلوكه فيها – تقرر نقله إلى أسيوط . إنه يقضي ليلته الأخيرة في الإسكندرية ، وقد باع شقته بأثاثها لمن سيستلمها عند رحيله ، لم يعد أمامه إلا أن يلقي نظرات أخيرة حانية على مشاهد مألوفة عايشها أربع سنوات . على قهوة سيدي جابر يراها ، يملك فكرة سابقة عنها ، أغراه النادل بها ، لكنه لم يتجاوب ، بدعوى أنها ليست من الطراز الذي يوافق هواه ، لكن جو الوداع المفعم بالشوق إلى استدراك الفرص الضائعة يمنح الأشياء مذاقا مختلفا : ” اليوم تبدو مغرية فحسب ، كالإسكندرية قبيل الرحيل ” . تلك هي بداية اللقاء ، الذي سيكون هو طرفا فاعلا فيه ، ووصفا لحاله تبدأ القصة ، مما يوجه الاهتمام إليه توا ” لم تبق إلا أيام معدودة قبيل الرحيل ” ، والقارئ سيكمل تركيب الجملة وتوجيهها بعد أن يكتشف أنها عنه ، عن بركات الذي سيعرف ، وبذلك تصبح : ” لم يبق له ” ويحدد ضمير الغائب ، مع أن هذا السرد يواكب ويمهد لجلوسه في المقهى وحواره الآتي مع النادل ، أن الكاتب عبر عنه بعد سطر واحد بالضمير ” هو ” ، فإذا التقى بالمرأة – التي سنعرف فيما بعد ، وحين لا تكون بهما حاجة إلى التعارف بالأسماء ، أن اسمها دنيا – فإنها في حوارهما المشترك تقول الجملة الأولى ، والجملة الأخيرة ، وتكون الجملة الأولى عن الماضي إثباتا ، كما تكون الجملة الأخيرة عن المستقبل نفيا . هو حاضر يعبر عنه بالغائب ، وهي تعطي مؤشر المراقبة لماضيه ، بل العناية بهذا الماضي ، حين تقول له – في أول كلمة : ” أنت كشجرة المانجو .. تحتاج إلى خدمة طويلة وصبر ” ، وقد عاينا الصبر المجسد في لقاء صامت في المقهى أربع سنوات ، وصلت بهما إلى هذا اللقاء – غير المتوقع – قبيل الرحيل . لكنه سيكتشف خطأ زعمه القديم بأنها ليست الطراز الذي يوافقه ، لقد اندفع ، لا يريد أن يبدد السعات الأخيرة له في تمهيد وتدرج تفرضه اللياقة ، وربما تستدعيه المتعة التي يحرص عليها ” وسرعان ما تعانقا دون كلمة واحدة ” ، وبعد أن انتهى هدير الرغبة ، سألته عن اسمه ، فتذكر وهو يداري ابتسامة أنهما بدءا بالعناق قبل التعارف ، فأثبت خطأ ظنه بأنها ليست الطراز الذي يوافقه ، ولن يكون هذا التناقض بين القول والسلوك هو التناقض الوحيد ، بل إن البناء الفني في هذه القصة يقوم أصلا على التناقضات .
ولكن ما هي الخدمة الطويلة التي بذلتها دنيا ، لكي تحظى بإيقاع بركات في شبكتها ؟ إن ترددها على المقهى ، بحيث يقع نظره عليها ، وتشاغلها عنه ، بحيث لم يلحظ رغبتها فيه ، يدخل في هذا المعنى ، ومن هذه الخدمة التي أطالت من تعلقه بها وحرصه على رضائها وإشباعها تلك الحركة الذكية حين أعلنت عن رضاها بإعادة النقود إليه .
إن النقود ليست القصد ، بل ما تدل عليه ، إنه أدى دورا مميزا ، في حكم من جربت الرجال ، ولا تعرف الاحتشام في التعبير عن رغباتها . إن أول عبارة وجهتها دنيا إلى بركات، تحصر اهتمام التلقي في هذين الشخصيتين ، وتشعر بأن الأحداث الجزئية المتقاطرة ليست مقصودة لذاتها ، ليس المعنى الكلي للقصة مستمدا منها ، بل من هذين الشخصين ، وما تحمل هذه الأحداث الجزئية من دلالات مجازية على كل منهما منفردا ، وطبيعة العلاقة التي نشيت فجأة ، وبحرارة واضحة ، أعقبها انطفاء فاجع . وقد نشعر في بداية القصة أن بركات هو العنصر الفاعل ، أولا بوحي أن السرد في البداية يصدر عنه ويعبر عن عالمه الخاص ، وثانيا لأن المرأة تخايلت له في المقهى وأغراه النادل بها سابقا ولكنه الذي رفض ، وثالثا لأنه هو الذي يغير رأيه الآن ويدفع النادل إلى إحضارها إليه . ولكننا بعد أن نتقدم في اكتشاف القدر المتاح من طبيعة كل منهما نعرف أن المرأة ليست انفعالية عاطفية بأي حال ، وأنها حين عبرت عن رضاها لم تكن تعبر عن تهالكها أو حتى تلذذها ، وإنما بالأحرى كانت تعبر عن إعجابها بحسن الأداء ، بأنه أدى عملا في ميقاته وموضعه وأسلوبه المطلوب ، وحين أدى نفس العمل ، ولكن دون الملابسات التي تجعل منه شيئا في مكانه ، اختلف الحكم إلى النقيض ، وقد تدرجت مساحة المشاركة ، فالتجاذب بين دنيا وبركات ، حتى انتهت إلى أنها – وليس هو – العنصر الفعال الحقيقي ، بل نوشك أن نوافقه على أنه كان محل خدعة وضيعة !!
إن الكاتب في تشكيل فكرته الفلسفية عن علاقة الإنسان بالحياة ، أو بالدنيا على التحديد ، كان يصارع احتمال التجريد والجفاف ، ويحاول أن يخط طريقا وسطا بين الواقع والرمز ، لهذا لم يضع رمز الإنسان ، ورمز الدنيا وجها لوجه وعلى انفراد ، كما كان توفيق الحكيم – على سبيل المثال – يفعل ، فتتحول الأشخاص إلى أفكار نابضة بالعقل ناضبة من الحياة كما في ذلك اللقاء المتخيل بين شهرزاد وهتلر في ( مشهد تمثيلي بعنوان : شهر زاد مع شهريار العصر ، من : سلطان الظلام ) فأهم ما يستخلص هو الفكرة ، سواء في مراحل اندياح لشكل وتنامي الصراع ، أو في نهاية المطاف ، وهذا ما لا يريده نجيب محفوظ ذو القدم الراسخة في الواقعية ، حتى في تلك المرحلة التي أثمرت مجموعة ” بيت سيء السمعة ” – أي عام 1965 ، ونشاطه الروائي فيها يتجه نحو إيثار الرموز تعبيرا عن واقع حي ورؤى متداخلة ، من قبلها صدرت ” الطريق ” ، ومن بعدها : ” الشحاذ ” و” الثرثرة ” . كيف توصل الكاتب إلى غرس الشعور بالواقع ، وإلى أي مدى نجح في ذلك ؟ لقد استخدم عناصر متعددة ، هي عناصر البناء القصصي ، ويمكن أن نطرح نفس التساؤل عن الرمز ، بل قد يكون البحث عن طريقته في بث الإحساس بالرمز ، وتوجيه القارئ إلى البحث عنه ، وإعانته – بوسائل فنية راقية ، على بلوغ مراميه ، هو العمل الأكثر شرعية ، لأنه الواقع هو الأساس لأي عمل فني ، مهما توهمنا ابتعاد الكاتب عنه ، أو بذل من محاولات لتعميته ،و لعل ابتداء قراءتنا لهذه القصة بمحاولة ربطها بما أسميناه – تبسيطا – النكتة القديمة يعني هذا ، دون أن يتضمن هذا الربط أي حكم بالتهوين أو عكسه ، ففضلا عن أن الحكم – في ذاته – لم يعد ذا أهمية ، فإنه ينبغي أن يستمد – في حال الحرص عليه – من صياغة العمل ، وليس من بذوره أو أسانيده . وفيما يخص الشخصيات ، فقد دفع الكاتب إلى السياق بعدد منها ، يمكن أن نلاحظ أنه امتد مع حوادثها النامية ، النادل هو البداية ، وقد ألقى جملتين لا أكثر ، ثم بواب العمارة الذي لم يحضر ولم يتكلم ، وإنما تكلم هو عنه مرة ، وذكرنا به مرة أخرى ، وفي الملهى الليلي ظهر شاب طلب مراقصة المرأة فتضارب معه ، حدث هذا دون أن ينطق ذلك الشاب كلمة واحدة ، وكذلك الرجل الآخر في الترام ، وقد اشتبك معه في صراع أيضا بسبب غيرته عليها ، ولم ينطق هو الآخر ، وهكذا يمكن أن نلاحظ أن القصة لم تخل من طرف ثالث ، ولكنه يحال بينه وبين العمل ، ويحال بينه وبين الكلام أيضا ، إن العلاقة بين بركات ودنيا تحولت إلى تعلق ، ثم إلى مواجهة ، ومثل كل نزال تقاس فيه كفاءة الطرفين بانعدام الوسائط والأعوان ، فيما عدا النادل الرومي ، على يديه ثم اللقاء دون أن تعرف لمصلحة من منهما كان يعمل ، وقد يكون مجرة أداة يسترشد بها لبلوغ النهاية ، مثل المطر ، أو الترام ، أو طبق الفاكهة .
الزمان والمكان
عنوان القصة ” قبيل الرحيل ” له مدلول زمكاني ، ” المزايلة ” هي المعنى المشترك ، عن زمان يزحف لبلوغ النهاية ، ومكان يوشك أن يهجر . وهذا المدخل التراجيدي المقرر بالقواعد الكلاسيكية ، وهو يحدد نقطة هي ” الحافة ” في العنصرين معا، مع هذا ستكون سلوكيات الرجل والمرأة من النوع الذي يعطي انطباعا بالطمأنينة والاستمرار ، وهذا جزء من متناقضات شتى منتشرة في المشاعر والأفكار والجمل أيضا . تتوازى في القصة ثلاثة أزمنة ، نجد أنفسنا مدفوعين للتفكير فيها ، بحثا عن عنصر الإقناع في الواقع ، وعنصر كشف الغموض عن الرمز ، وقد تركت هذه الأزمنة آثارا محددة في اختيار المكان لعنصر لازم ، أو ملازم ، إذ لا زمان بغير مكان ، والعكس أيضا ، كما تركت آثارا أخرى في انتقاء الحوادث الجزئية المتصاعدة بين بداية القصة ونهايتها . هناك إشارة إلى أيام معدودة ،هي كل ما بقى له في الإسكندرية ، ولكن يتم التحفظ على هذه الإشارة العامة بطريقتين : الأولى أنه يقول في معرض حديثه عن شقته : ” بعتها بكل ما فيها ، وبعد غد سيحل بها آخر ” وهنا اختزلت ” الأيام المعدودة ” إلى يومين ، فهذا البيع يعني التخلي وفصم العلاقة ، على أن التجربة الثنائية مع المرأة امتدت ما بين عصر يوم إلى ضحى اليوم التالي ، بدأت برغبة مشتعلة ، وانتهت باتهام من طرفه ، وبرود لا يبالي من جانبها ، ويمكن اعتبار هذا ” الضحى ” الكاشف الذي وضعه أمام اليقين حدا زمنيا للتجربة . هذه التحديدات الثلاثة مختلفة الفاعل ، أو المتكلم بها ، ” الأيام المعدودة ” مسندة إلى الكاتب ، الذي يحكي عما يعلم دون أن يكون طرفا فيه ، لكن حديثه عن ” هو ” يعني أنه يتحدث من خلال ، أو بلسان هذا الـ ” هو ” . أما التحديد ببعد غد ، لمغادرة الشقة ، الذي يعني ضمنا مغادرة الإسكندرية ، فقد أسند إليه صراحة ، قاله تطوعا بإرادة كاملة ، وكأنه بديهية مسلمة لا تثير أي شعور غير محايد ، أما التحديد الثالث الذي أملاه ارتطام الخطط ، وأنهى الموقف فجأة ، وأعلن بصراحة أنه لا أمل في العودة ، ومن ثم ليس في استطاعة بركات أن يتفادى تكرار الخدعة بعمل أو حذر من جانبه ، لأنها – هي أصلا – لا تسمح بلقائه إلا مرة واحدة ، هذا التحديد الثالث أملته دنيا ، ولم يعقب عليه بركات . هذه التحديدات الثلاثة تنتمي إلى الزمن الأول ، الذي يمكن أن نكتشف فيه الخط الواقعي ، وأبعاد أجزائه من غروب وليل وضحى تحافظ على نسب هذا الخط الواقعي أو الخارجي ، ولكن الأوصاف المحملة على هذه الأجزاء ، وكأنها محطات زمانية تنتمي – كما سنرى – إلى الزمان الثالث ، دون أن تناقض أو حتى تخدش الإحساس بحضور فعلي للمشهد الطبيعي المصاحب .
الزمن الثاني جاءت الإشارة إليه في جملة واحدة ، ثم سكت عنه ، لكنه ظل يصدر شعاعه الضئيل على المشهد الختامي الموضوع تحت ضوء الزمن الواقعي ، هذه الجملة تقول : ” حتى مجلسه المعتاد منذ أربع سنوات بقهوة سيدي جابر تجدد للتوّ شبابه ” إن علاقته بالإسكندرية ، وإن تكن مؤقتة ، ليست عابرة ، وهذه السنوات المسكوت عنها ، ماذا كان فيها ؟ وأين أو كيف يمكن أن نتلمس أثرها في مغامرة تلك الليلة الأخيرة ، غير أن يقرر أن كل شيء قد تجدد شبابه ، وأن المدينة صارت مغرية حين هبت رائحة الفراق؟ إن هذه السنوات الأربع المسكوت عما جرى فيها ، أو التجارب المكتسبة منها ، يعادها في عنصر المكان إشارة أخرى ذهبت إجمالا في جملة أخرى ، وسكت عنها ، ” إنه يمضي عطلته عادة عند الأهل في الريف ” وتظهر لام التعليل عقب هذا التقرير : ” ولذلك فالذي كان موطنا للوحشة والملل انقلب مبعثا للحنان والأشواق في نظرة الوداع ” ، إن هذه اللام التعليلية تعطي انطباعا وكأن السنوات الأربع التي يفترض أنه قضاها في الإسكندرية ، نهبا للوحشة والملل ، وإنما قضاها في الريف (مجازا) وبغير وعي بالمكان أو الزمان ، (كناية) ويكون هذا اليوم الأخير ، ما بين عصر يوم ، يعقبه ليل ، ثم ضحى يوم آخر ، هو كل عمر الإنسان ، في مستوى الوعي ، بالنسبة لأربعة أعوام ، هي عمره في مستوى الحياة ، مجرد الوجود الحاضر الغائب . إن هذا يسلمنا إلى الزمن الثالث ، الزمن الرمزي ، وسنجد أن المشهد الطبيعي يقوي الإحساس بالواقع ، ويصدر عن خبرة مباشرة بالجو الخريفي في الإسكندرية، وهو – بنفس الدرجة – يقود خطى القارئ إلى المعاني الثانية ، يفتح أمامه آفاق الرمز المترامي في عمر التجربة الإنسانية مع الحياة ، من حيث هي ” كليشيه ” يدفع به كل شخص ، معتقدا أنه يختلف عن الآخرين ، ثم مكتشفا أنه مثل كل الآخرين ، لابد أن يغادر بحسرة ، منطويا على تجربته الخائبة ، لا يستطيع أن يفضي بسرها إلى أحد ، وهكذا يمكن أن تعاد ، وتعاد ، وتعاد ، بعدد البشر ، دون أن يصفها أي واحد بأنها لعبة معادة ، أو قديمة، إنها – بالنسبة إلى الفرد ، جديدة دائما ، لأنه لن يلعبها ، أو تلعب به ، وإن ظن أنه يلعب بها، غير مرة واحدة .
عصر يوم خريفي التقيا ، يوصف الخريف بأنه ” خريف الزاحف ” ، الوصف دقيق لأي زمن يأتي ، لكنه مع الخريف يعطي معنى النهاية القريبة ، ومع الإنسان يوحي بالعجز ، ومع الخريف سحب بيضاء ( وشعر الشيخوخة أبيض ، وعيونها لا تحقق الأشياء ) أخفت قرص الشمس ، وطرحت لونها الهادئ الغامض على الشوارع شبه المقفرة . في أعقاب العناق ” استحكم ظلام المغيب في جو الحجرة المغلق ، وارتجت مصاريع النوافذ بريح مباغتة كما يقع كثيرا في الخريف ، وما لبث لحن المطر أن عزف فوق الجدران ” . انتفاضة جو قبل الشتاء ، وانتفاضة حياة قبل الانطفاء ، غروب يوم ، وغروب عمر ، والوصف نفسه كنايات جنسية ، والجنس رمز الحياة وطريق إلى نقيضها . وحين عادا من نزهتهما المرصعة بالمعارك والدماء ، ساد الصمت ، وارتفع زئير الهواء ، فقال لها : جوّ بلادك قلّب، ولكنه جوّ سعيد ، وهكذا أعطى مؤشر ” النكد ” القادم ، فقد استيقظا عند الضحى ، قرين الوضوح ، هي وحدها التي تملكه ، حين قالت بحسم : ” هذا أوان الذهاب ” وهذا التعبير الملتبس يصدق عليه أكثر مما يصدق عليها ، وبهذا المعنى كان هو الأقرب إلى الذهاب – الغياب – الغيبوبة ، فمع هذا الضحى ” فتح النافذة فدخل هواء بارد ، وتراءت السماء ملبدة بغيوم في لون المغيب ، جامدة غير موحية ” . لم يكن ثمة تناقض بين الإطار والصورة فمع هذه الطبيعة الجامدة الملبدة الباردة ، بكل ما تحمل من نذر النهاية ، ” خيل إليه أنها كبرت أعواما ، فسرعان ما شعر بالكبر ، وبأن كل شيء زائل ” .
وفي القصة ثلاثة أماكن كذلك ، أحدها مسكوت عنه في الريف ، وكأنه ما قبل الوعي، وثالثهما أخبر عنه وسينتقل إليه ، وهو أسيوط : أقصى النقيض بالنسبة للإسكندرية، يصف النادل أسيوط ، أو الانتقال إليها بأنها ” لن تجد فيها شيئا ” مما تمثله دنيا بالطبع ، وكانت هذه الإشارة المثيرة لمخاوف الفقد سببا في قبول مغامرة أو علاقة كانت ممكنة – في الماضي – ولم يكن حريصا عليها . أما بيئة الحدث الواقعي الراهن فهي الإسكندرية ، ما بين مقهى ، وملهى ، وترام (الرمل) والشقة التي شهدت النار والرماد ما بين ليلة وضحاها . إن اختيار الأماكن ، في حدود مغامرة عاطفية محدودة بزمن قصير ، يدل واقعيا على أن بركات أقام في ” المدينة ” ولكنه لم يعش المدينة ، ويتواءم ضعف خبرته بحياة المدينة ، البادي في سوء اختياره لمكان سهره حيث م يتمرس بسلوك الأماكن العامة ، بضعف خبرته في التعامل مع المرأة وكيفية الاحتفاظ بودها رغم تطلع الآخرين إليها . وعلى المستوى الرمزي تومض هذه الأماكن ، في تصاعدها ، وكأنها مراحل العمر ، للفرد ، وللنوع الإنساني . هناك سلسلة انتقالات من الريف إلى المدينة ، ومن المقهى حيث المشاهدة الصامتة ، إلى الشقة حيث الخصوصية والاستئثار ، واختبار الإرادة ، إلى الملهى حيث يأخذ الصراع مكان المتعة ، ثم الترام الذي يعيد البداية إلى النهاية (الشقة) ويشهد تصاعد الصراع ، في الملهى انخلع زرار الجاكتة وتهتك الجانب الأيسر من القميص ، فالخسائر سطحية وإن اقترنت بلكمة وكأنها نذير بالقادم ، غير أنه ” سرعان ما عاوده الانسجام ” . أما معركة الترام فقد خلفت في وجنته اليسرى ألما ، وسال الدم من زاوية شفته السفلى ، ها هي ذي نفسه تسيل ، لكنه يتعزى عن الخطوة القادم بأن الآخرين يتقدمونه إليها ، لا استثناء من دم يسيل ، يعقبه فراق في الضحى ، هو بداية لآخرين ستلقاهم دنيا ، فلديها عمل ومواعيد ، وعندما استردت منه ما أعطت م ير من وجهها إلا دمامة وحشية ، ووصفها بالشيطانة الحقيرة .
مؤشرات
ينطوي التعبير الفني بطبيعته على أكثر من مستوى دلالي ، ما بين الحقيقة ، والمجاز ، والرمز الذي لا ينهض إلا على شبكة من المجازات المتساندة ، كإشارات ذات إيقاع ، أو مواقع ، تنشر ومضها المتقطع ، الصادر من كل الجهات ، لتؤصل الإحساس بالمعنى المرموز إليه ، مع تجنب المباشرة أو التقرير . وما يدل عليه التكوين الشامل لقصة ” قبيل الرحيل ” يؤكد أن الاتجاه إلى المعنى المجازي – الرمزي كان الأكثر سيطرة على استخدامات الكاتب للغة ، وانتقائه للصفات والأعمال ، وإذا كان المستوى الواقعي يتمتع بقدر من الوجود في البداية ، فإن هذا القدر ما لبث أن أخذ في التراجع ليفسح المكان لسيطرة الرمز ، الذي ساد تماما في مشهد الختام ، بمقدار ما ابتعد هذا المشهد عن حدود الممكن واقعيا ، إذا ما حاولنا ربطه بالبداية . تبدأ المؤشرات أو تنتهي بعنوان القصة ، واسم الشخصيتين ، واختيار الأماكن ، وصفاتها ، وصفات المراحل الزمنية . ثم نتأمل بعض الصفات والأفعال التي اختيرت بدقة شديدة . يقول بركان للنادل : ” أربعة أعوام عشتها في الإسكندرية ، ومع ذلك فلم أزر – ولو مرة واحدة – لا حديقة الحيوان ولا أنطونيادس ولا الآثار الإغريقية الرومانية ولا هذه المرأة ” ، وهكذا يقرنها بثوابت الوجود البشري وكأنه يمزج : النبات ، والحيوان ، والإنسان في التاريخ ، ثم في الحياة (هذه المرأة) ومع هذه المرأة بدأ العناق قبل التعرف ، وأعطى قبل أن يأخذ ( فقد حصلت على الجنيهين قبل أن تغادر المقهى) ثم أخذ حين لم يطلب ولم يرد ، ومنع حين أصبح الأخذ له معنى ، وانتهى كفافا لا عليه ولا له . يعبر عن الجو بأنه متقلب لا أمان له ، كما يصف اسمها حين يسمعه بأنه ” غريب وجميل ولكنه بلا شك زائف ككل شيء في الجلسة ” ، وحين آنست فتوره عقب الاتصال الأول ” وفي ذروة من ضيقه ” ناولته الجنيهين ، فكان لهذه الحركة (الرمزية) فعل السحر في نفسه وتجديد نشاطه تجاهها ، وبدأت تتكلم بدلال ، ولابد أن نتذكر نفس الكلمة حين تم اللقاء ، إذ قالت ” بدلال بارد ” اختفى وصف ” البارد ” في الوسط ، يعود من جديد في الختام ، يعيده إلى البداية الباردة ، فحين استردت منه النقود ، وتساءل حائرا : ماذا جرى ؟ ” فابتسمت ابتسامة باردة وهي تتساءل : أتريد أن تأخذ دون أن تعطي ؟ “. أما حين أعلنته برضاها عنه ، فقد اندفع يعد المكان لسهرة طويلة في شقته ، وراح رويدا يفقد صلته ببداياته ، ويعاكس أحكامه على ماضيه ، إنه الآن يحكم على تجربة الماضي بأنها حمق ، إذ كيف كان يراها طوال أعوام ولا يفكر في التعامل معها ، ” واستلقى عند قدميها ” و ” اقتنع بأن الدنيا تتمتع بصحة تحسد عليها ” و ” وثب إلى الأرض ” . هذه أركان – نقلات مشهد قصير جدا ، في أعقاب الرضا ، وهو رضا الدنيا ، ومرة استلقى عند قدميها ، وأخرى وثب إلى الأرض ، وهما فعل واحد ، من نفس الشخص ، لشخص واحد هو الدنيا ، الاستلقاء عند قدميها يتساوى والاستلقاء (أو الوثوب) على الأرض .
إبان السهرة كان الصراع هو السائد ، مع أن الجو جو متعة ، انخلع الزرار وتهتك القميص ، ثم جاء الألم وسال الدم ، ولكن الهواء البارد المنعش جعله يثمل بعبير المطر ، ” فارتفعت روحه ” وقال : ” ينقصنا الزهور ” ، وبين الصمت وزئير الهواء ، وبين الظلام ووميض البرق ، كأن الأعداد لمشهد الختام . تقوم الأصوات بدورها في تعميق الإحساس بالرمز ، وهي أصوات الطبيعة ولكنها موسومة بالغرابة والغموض ، تأتي همسات من عام آخر تم الصمت بتعابير غامضة ، أو يزأر الهواء ، فيستثير الخيال الحركي ، في حين يعزف المطر على الجدران ، وحين يتثاءب بصوت كالأنين ، وهذا التشبيه يدخل في نذر النهاية القادمة تنطق هي بأول كلمة بعد استيقاظها : ” هذا أوان الذهاب ” .
يقوم ” التناقض ” بوظيفة أساسية في صنع النسيج القصصي ، وهو الحن الأساس فيها ، بداية واستمرارا ونهاية ، حتى وإن تخللها مشهد وفاق ، فإنه كان بمثابة استدراج لكشف التناقض الدائم الذي لا رجعة فيه ، وقد بدأ هو بالتعبير عن هذا التناقض بأكثر من طريقة ؛ فالقصة تبدأ بثلاث جمل نافية : لم تبق إلا أيام ، لا يدري متى براها ، ليس الطراز الذي يوافقني ، وكان عمه طوال القصة بعد ذلك أن ينفي هذا النفي ،و مع هذا استقر النفي – التناقض كاسلوب بالنسبة إليه أساسا ، وبالنسبة إليها أحيانا ، وفي جملة الافتتاحية المنفية كان يكشف عن أهم تناقض ، وهو تجاهلها لأربع سنوات ، ثم التلهف عليها في الليلة الأخيرة وتمنى استدامة مودتها بعد الرحيل ، وحين يختار مكانا للهو يختاره في شارع ” النبي ” دانيال ، وإذا استكن الظلام تضاعف حنانه وشعوره بالأمان ، ولما استيقظ في الضحى كانت السماء ملبدة بالغيوم ، وحين اعتقد أنه بلغ سويداءها كشفت له عن رغبة الرحيل وسحبت حكمها بالشك على الماضي ، هكذا امتدت شبكة التناقضات عبر القول ، والعمل ، والتعبير ، والشعور . منذ البدء تدخ إلى المقهى ، فيعبر عنها بصيغة التنكير ، يعقبها التحديد : دخلت امرأة ، هي ، هي ، التي …” وحين تغير موقفه منها ، ورغب فيها ” بعث إلى المرأة بنظرة بدائية ” لكنها ” أجابته بعمق ” ، فهما يعبران عن موقفين متباعدين ، متناقضين . ثم تنتثر التكوينات الرمزية القائمة على تراسل الحواس ، من مثل : امتلأ الصمت ، ولحن المطر . وفي الوقت الذي يهزأ فيه بها ، بعد أن بوحت متعته ، بأنها لن تستطيع تكرار خدعتها معه مرتين ، يتغافل عن أنه – هو أيضا – ن يستطيع توقي الخدعة ذاتها مع غيرها ، غير أنه لا مفر من الرحيل .
في الفقرات الأولى من القصة ، والفقرات الأخيرة اهتمام واضح بازدواج الصفات، فالإسكندرية لطيفة جذابة ، والشقة صغيرة مهندمة ، وعيناها واسعتان مقتحمتان ، وهي تخضعه لإغراء في هالة من الثقة بالنفس والحنكة ، وقد مدت ذراعها بمرح وسعاد ، كما داخله إحساس قوي بالزهو والفخار . أما في الفقرات الوسطى فقد اختلف أسلب الوصف، وغادر هذا اللون من القران بين وصفين متقاربين في المعنى ، إلى ترادف الجمل الوصفية للاحاطة بصفات الشيء بصورة حسية ، بعيد عن التجريد الذي يتمثل في ثنائية الصفات ، مثل : ها هي في فستان شتوي ، مطوقة الوجه بإيشارب وردي ، متلفعة بشال مرصع بالترتر . وهذه المغايرة بين أسلوبين من أساليب الوصف توشك أن تكون مطردة في هذه القصة .
حين جلست دنيا إلى جانب النادل الرومي ” تبادلا كالعادة قليلا من الكلام ، وكثيرا من الصمت (تناقض) يغشاهما جو حاد كأنهما رجلان ، ومن رجال الأعمال على الأرجح (تناقض) ولقد تكشفت له عن أنوثة آسرة ، ولكنها تكشفت له فيما بعد عن نقيض للنقيض، فظلت امرأة ، ولكنها امرأة أعمال ، عناقها في خدمة قرارها ، وقربها ورضاها نذير فراق لا رجعة عنه .